محمد الوشيحي

بقلم إحسان عبد القدوس

لو كان الأديب العظيم إحسان عبدالقدوس، رحمه الله، مايزال حياً بيننا، لقبّلت رأسه ولطلبت منه كتابة مقالة عن أوضاع الكويت بأسلوبه المتميز، وأفكاره العميقة الهادئة، وطريقته المتفردة التي لا شبيه لها، خصوصاً في استخدام علامات التنقيط، إذ يبدو أن الكبير إحسان عبدالقدوس لديه فائض من النقاط، لذلك فهو ينثرها بسخاء كما تنثر "أم جواد" الحبوب لدجاجاتها، لكنه لا يعترف بعلامة الاستفهام، وإذا اعترف بها مكرهاً ووضعها في آخر السؤال فإنه يضعها بقرف، وينصرف عنها بسرعة. أما علامة التعجب فيستخدمها "زوز زوز" على رأي أهل ليبيا، أي اثنتين اثنتين، ولا أتذكر أنني رأيت في كتاباته علامة تعجب تقف بمفردها، لا بد من سند لها يعينها على حوادث الأيام ومصائب الأزمان. أما بالنسبة للفاصلة (حبيبتي التي أذوب فيها هياماً) فقصته معها تروى، فهو يخبئها كي لا تراها أعين الحساد، "ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان، وستسأل عنها موج البحر وتسأل فيروز الشطآن… وستعرف بعد رحيل العمر، بأنك كنت تطارد خيط دخان". بالإذن من نزار قباني.

طريقة كتابته سهلة ممتنعة متقطعة، يفصل بين جُمَلها نقاط. ولأنه مصري فهو يضع نقطتين دلالة على الاسترسال، لا ثلاث نقاط كما يفعل اللبناني والسوري… وبالمناسبة، كما ينقسم العرب إلى قسمين كبيرين هما عدنان وقحطان، كذلك ينقسم الأسلوب الصحافي في الخليج إلى قسمين هما المصري والشامي، فتجد بعض الصحف "الشامية"، ومنها صحيفتنا هذه، تكتب "أميركا، طوني بلير، لأنني، كأنني، صحافي، إنكلترا، الإنكليز، إفريقية، سورية…"، أما الصحف التي يديرها مصري فتكتب: "أمريكا، توني بلير، لأني، كأني، صحفي، إنجلترا، الإنجليز، أفريقيا، سوريا..". أما نحن أهل الخليج فلا هوية خاصة بنا، إذ نتعامل مع اللغة بنظام الكفيل… الدلة يا ولد.

ونعود إلى العملاق إحسان، ولا أدري أين ذهبت كتبه التي كنت أحتفظ بمجموعة منها، ولا أريد أن أموت قبل أن يدلني أحد على كتابه الذي جمع فيه خواطره ومذكراته ومقالاته… ولو كنت طلبت منه زيارة الكويت هذه الأيام، وكتابة مقالة يصف بها أوضاعنا لكتب باختصار: "يا للخيبة.. الكويت تعيش في خيبة.. خيبة ثقيلة.. حكومتها خرعة.. مترهلة.. تستند إلى حيطان وسائل إعلام تكفي يأجوج ومأجوج.. وهما (أي الحكومة ووسائل الإعلام تلك) مثل الفلّاح والطائر المسمى صديق الفلاح.. الطائر يأكل الدود ويشكر الفلّاح على الكرم والجود.. والفلاح يشكر الطائر على تنظيف الحقل وحماية الزرع.. لكن الفلاح يزرع فتخضرّ الأرض.. وحكومة الكويت تحرق كل ما هو مزروع.. حكومة خيبة!! وفي الكويت.. المسلسلات هايفة.. والأغاني الوطنية مقرفة.. والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب تخصصَ في تذوق الحلوى واللقيمات (وهي لقمة القاضي).. والابتسامة عندهم مثل الكهرباء.. مقطوعة.. جتهم الخيبة!! والمطار عندهم ولا مطارات أحراش أفريقيا.. لايزال يعتمد الباص.. والشعب هناك.. بسبب حكومتهم.. تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.. وإذا كنت أمتلك ولو نزراً يسيراً من التنجيم.. لقلت إن الكويت تحتضر وستموت قريباً.. لولا أجهزة التنفس الصناعي.. التي هي مليارات نفطها.. ما لم ترعوِ الحكومة عن غيّها.

هكذا كنت ستكتب يا أبا محمد، والحمد لله أنك متّ قبل رؤية حكومتنا الخرعة.

***

الحرية لسجين الرأي الزميل محمد عبدالقادر الجاسم.

محمد الوشيحي

هزي يا نواعم


منظر الشعب وهو يراقب أعضاء حكومته وحبايبها ويتحسر، يشبه إلى حد التطابق منظر مجموعة من عمال التنظيف المكدسين في حوض سيارة نقل، في عز الصيف، وهم عائدون من مقر عملهم ينضحون عرقاً وإجهاداً، فتتوقف سيارتهم عند إشارة المرور، فتقع أعينهم على شاب لم يكتمل نمو شنبه، يمتطي سيارة تجاوزت قيمتها الأربعين ألف دينار، زجاجها مغلق لدواعي التكييف، ويجول بنظره بين السيارات بحثاً عن فتاة تبهرها سيارته. ووالله لا أدري ماذا أفعل عندما تتصوب نظرات هؤلاء الكادحين العرقانين صوبي، رغم أن سيارتي لا تغري حتى منى عبدالمجيد.


وبعد خمس سنوات من الآن، وفي صيف 2015، سيصرح وزير الكهرباء: "هذا الصيف سيكون الأكثر قسوة"، فيشد الناطق باسم الحكومة من أزره: "هذا الصيف كارثي"، فيراسلني قارئ: "والدتي تعاني السمنة وأمراض الشيخوخة. تعبتُ في إقناعها بالسفر إلى دولة طقسها بارد حتى لا تتكرر الكارثة عندما كادت تموت بسبب انقطاع الكهرباء، فرفضَتْ خشية أن تموت في بلاد ليست مسلمة، على اعتبار أن المسلمين في نظرها هم فقط أهل الخليج، فأقنعتها بالسفر إلى العمرة، ومن ثم الإقامة في مدينة الطائف، بحجة القرب من بيت الله الحرام، ووافقت. فتركتُ أولادي وزوجتي أيام الامتحانات، واصطحبتها إلى مكة والطائف. وها أنذا في مكة أدعو على الحكومة ونوابها وكل من يؤيدها". وكتب لي صيغة الدعاء، ولو أن الله استجاب دعاءه، لراحت الحكومة "طعام جحوش" كما يقول المثل البدوي.


وفي صيف 2015، سيغضب الناس لانقطاع الكهرباء، فتصرح الحكومة المرتاحة التي تمدد رجليها على طاولة البرلمان: "ناموا كما كانت تنام الممثلة الفرنسية بريجيت باردو (بي بي)"، التي سئلت ماذا ترتدي أثناء نومها، فأجابت: "قطرات من عطر شانيل فقط"، أي أنها كانت تنام بلا هدوم. في صيف 2015 سنقرأ في الصحف: "تمديد العمل في لجنة التحقيق في طوارئ 2007"، فينتفض نواب كتلتي الشعبي والتنمية وآخرون، ويتقدمون باستجواب لرئيس الحكومة، فيعلن النائب سعدون حماد تأييده للاستجواب، فيتم "إقناعه"، فيصرح: "الاستجواب للتكسب الانتخابي". ويتصل دليهي الهاجري بالشيخ طلال الفهد، فيجد هاتفه مغلقاً، فتضرب معه لخمة، ويحتاس حوسة الدجاجة أمام قط جائع. وتصرح سلوى الجسار: "لا تكهربوا الكهرباء، أمامنا أمور أخرى أهم، فمنصب عميد كلية التربية شاغر". وتصدر كتلة العمل الوطني بياناً لا رأس له ولا ذيل، ويعلن مرزوق الغانم وصالح الملا وأسيل العوضي وعبد الرحمن العنجري، في آخر دقيقة وقبل صفارة الحكم، تأييدهم للاستجواب، والأربعة الباقون يعارضونه، ثم تعلن أسيل امتناعها، ويعلن العنجري رفضه الاستجواب.


ويرسل المهري فاكساً: "المستجوبون حرام، فليس فيهم أحد من أتباع آل البيت". ويصرح حكيم هذه الأمة المنكوبة، دولة رئيس البرلمان جاسم الخرافي، على طريقة هاني شاكر: "يا حبايب قلبي، يا عيوني، سنحيل الجلسة سرية"، فتعلن شركته: "انتهينا من بناء أربع محطات لتوليد الكهرباء في سورية ومصر والأردن وبوركينا فاسو". فيتجمّع الناس في ساحة الإرادة غضباً، تحت شعار "الفساد أهلك العباد"، فيتجمع أنصار رئيس الحكومة، ويرفعون يافطاتهم "غير السّوباح ما نبي".


وهزّي يا نواعم شعرك الحرير، خلي الشعر الناعم مع الهواء يطير… غنّوا معي إلى أن تُفرج، أو إلى نموت من الحر.


محمد الوشيحي

فراشة تحترق


هي المرة الأولى التي تسمع فيها كلمة غزل عابرة من عابر، قالها بلهجة جائعة: "يسلم لي الخصر وتوابعه". كانت في السادسة عشرة، وفي طريقها إلى مدرستها. أربكها الغزل، ولعثم تفكيرها، فسرقت نظرة سريعة إلى صدرها المتفرعن رغم صغره، وإلى خصرها وما حمل، كأنما لتتأكد من أن أغصانها تمايلت فعلاً، ثم رفعت عينيها بسرعة وأظهرت، كاذبةً، عدمَ مبالاتها.


في غرفتها، رمت حقيبتها على سريرها، ووقفت أمام مرآتها، تفقدت أنوثتها، بتركيز، قبل أن تتنهد رضىً وزهواً، ثم ألقت بنفسها على السرير وأغمضت عينيها، لكنها نسيت أن تغمض أحلامها وسعادتها بنضج تفاحها.


طال الليل هذه المرة، متى يأتي الصباح فتذهب إلى مدرستها؟ أو الأصدق: متى يأتي الصباح فتستمع إلى كلمة غزل جديدة ترضي أنوثتها المتأهبة… والغواني يغرهن الثناء…


هذا الصباح، لم يكن العابر وحيداً، كان برفقته ثلاثة، كلهم تباروا في إلقاء كلمات الغزل أمامها. العابر يتغزل وهو يضع يده على قلبه مدعياً أنه شهيدها، ورفيقه يضع أصبعه على خده ويبتسم بنعومة، كما يفعل بعض المطربين الجدد عند تصوير ألبوماتهم، والثالث مبتسماً يستند إلى سيارة فارهة، كأنما ليخبرها أنه مالكها، أو كأنما يفاخر بجودة الصناعة الألمانية وبثراء والديه… وعادت فألقت بحقيبتها وهي تلهث، ووقفت أمام صديقتها المرآة، لتؤكد لها صدق انتهاء مرحلة الطفولة، وأن ما تساقط عليها من غزل لم يكن مبالغة.


واستنسخت الأيام نفسها، واستنسخ الغزل كلماته الباهتة التي تشبه كلمات أغاني تامر حسني، لا ملامح لها ولا ملح… وتكاثر الشبان العابرون في طريقها إلى المدرسة ومنها، وتكدست أمام أقدامها كلمات الغزل المكرورة المتطابقة كوجوه الصينيين: "يا عمري"، "يا روحي"، "يا حياتي"…


لم يعد هناك من جديد، أصبح الغزل جزءاً من روتينها اليومي: الاستيقاظ، الإفطار، الذهاب إلى المدرسة، كلمات الغزل التي يطلقها شبّان أعدادهم تتزايد يوماً عن آخر، الجلوس أمام المعلمة، العودة إلى البيت، الغزل مرة أخرى، استذكار الدروس، فالنوم… لا جديد.


قلبها لم يخفق لهؤلاء، وإن أفرحها غزلهم فترة، وعقلها الطري لم يفسر لها بعد أن الحب لا تصفه كلمات باهتة مكرورة، ولا ينتظر بين مجموعة من الناس. الحب متفرد، متمرد، في كلماته، في شرارته الأولى، في توقيته، في طريقته، في قسوته، في لذته… متفرد.


وصدفة، ذات مساء في منتصف مايو، التقته…


لم يغازلها بـ"يا عمري ويا حياتي"، ولم يستند إلى سيارة فارهة، ولم يضع أصبعه على خده مستعرضاً ابتسامة ناعمة، أبداً، فقط أحسّ بارتباك عينيها وهي تنظر إليه فابتسم لها، ومضى… فارتجّت الأرض من تحتها، وتسارعت نبضات قلبها، لكأنها ركضت أميالاً وأميالاً، وتسمّرت مكانها، تسمّر كل ما فيها إلا قلبها متسارع النبضات، وعينيها اللتين راحتا تتابعانه حتى اختفى.


عادت إلى صديقتها، مرآتها، وراحت تبحث عندها عن أجوبة لأسئلتها المتناثرة: "هل كان يبتسم لي شفقة أم إعجاباً أم هي ابتسامة عابرة لتلاقي أعيننا؟"، وأكملت لاهثة: "تُرى، هل يبتسم لكل فتاة تلتقيها عيناه، أم أنه خصني وحدي بهذه الابتسامة؟"، وتلهث: "لمَ خانتني ثقتي بنفسي أمامه؟ وما المختلف فيه عن الآخرين؟"…


وباتت هي التي تنتظر هذه المرة، تنتظره مرتبكة، كل مساء، ولا يأتي… فتنتظره، فلا يأتي.


أعياها البحث عنه، ولم تيأس، إلى أن توصلت إلى خيط يقودها إليه، بريده الإلكتروني، فكتبت لاهثة: "الآخرون يعرفون عنك كل شيء، وحدي أنا لم أكن أعرفك"، وفي سطر آخر بثّت: "هل تتذكرني، أنا التي التقيتك صدفة في المكان الفلاني فتبسّمت لي؟ هل تذكرتني؟"، كانت لفرط ارتباكها تكتب وتتحدث بصوت عالٍ: "لماذا لم تكن مثل الآخرين، فتبتسم لي ابتسامة ناعمة وأنت تضع أصبعك على خدك؟ لمَ لم تستند إلى سيارة فارهة تتباهى بها أمامي؟ لمَ لم تدّعي أنك شهيدي وتنتظرني كل صباح؟"، وتشكو إليه: "حدة عينيك أربكتني، شموخك غير المتكلف هزّني…"، وشرحت له كل تفاصيل أيامها السابقة، ثم ختمت رسالتها الطويلة: "أتعبتني".


وجاءها الرد هادئاً، قصيراً، حزيناً، مجزأً: "أتذكرك جيداً. مثلك لا يُنسى… شعرت بكِ لحظتذاك… فراشة تقترب من النار… أخشى عليكِ".


فكتبت وهي تضغط على الحروف بأصابعها، هذه المرة باختصار وإصرار: "لن أبتعد".


فكتب: "فراشة".


وخصصت مساءاتها في انتظار رسائله… وخصص هو مساءاته في البحث عن طريقة تبعدها عن ناره ولا تجرح أنوثتها الغضة…


 


***


الحرية للزميل محمد عبد القادر الجاسم.


محمد الوشيحي

كي لا ترتبك الامعاء

عذراً، غابت مقالة الأحد الماضي والسبب ضيق الوقت. وليس أسوأ من الكتابة بعين والعين الأخرى على الساعة. والناس لا تعذر، ولن تقبل منك إلا وجبة شهية مشبعة. وقبل فترة، أثناء لعب ابني سعود – الذي لم يكمل عامه الثالث، لكنه يحاول، وقد ينجح، وقد لا ينجح – سقط من أعلى الدرج على الأرض مباشرة، يبدو أنه كان مستعجلاً فاختصر المسافة، وصدم الأرض بجبهته الشاسعة المترامية الأطراف، فأحدث دوياً، وتورّمت الأجزاء الشمالية الغربية من جبهته، وازداد طول رأسه، وزيادة الخير خيرين، ويبدو أنها «حوبة» أطفال الجيران الذين كان يتعامل معهم بنظام «الخصخصة»، فكلما راق له شيء في يد أحدهم خصخصهُ لنفسه… وكنا في ساعة العصرونية، كما يقول المغاربة، وهو وقت الكتابة، عندما تعالت الصرخات، فجريت وجاريت، وفتحت ساقيّ الطويلتين على مصراعيهما، وقطعت مسافة الدرج هبوطاً في أجزاء من اللمحة، وإذا به فاغراً فاه، يبحث عن نَفَسٍ مفقود، فحملته على كتفي، واتجهت به في «زفة» ونواح إلى المستشفى، وبعد أشعة رأس وعلاج لثة وإعادة إعمار الحنك، ووو، ناظرت ساعتي فإذا نحن ما بين المغرب والعشاء، فتركت سعود مع والدته وعدت وكتبت المقالة. فالكاتب مثل مضيفة الطائرة، عليه أن يخرج إلى القراء بكامل زينته، فجبهة ابنه تعنيه هو وحده، لا علاقة للمسافرين بها.

ويوم الأحد، أقصد يوم السبت، وقت كتابة المقالة، وصلت متأخراً ألهث، وجلست لأكتب وعيني على الساعة، فخشيت أن أقدم وجبة لم تأخذ النار حقها منها، فيقرأها الناس «نيّة» غير ناضجة، رائحتها زكية، وطعمها مميت، فتتلبّك أمعاؤهم وترتبك، ويتزاحمون على عيادة الطوارئ، فهاتفت الجريدة واعتذرت.

وحكاية الطبخ ذكرتني بما حدث في مخيّمنا، وكنا مجموعة من عباد الله الصالحين، وبعد أن نصبنا خيامنا، وزعنا أوراق الكوتشينة، على أن يتولى الخاسر مسؤولية الطبخ، إذ تمنع القوانين اصطحاب الخدم، وكالعادة كنت أنا الخاسر، فتعالت ضحكاتهم فرحين، فحذرتهم من عاقبة الأمر، استناداً إلى تجاربهم معي، لكنهم لم يأبهوا، فطلبت أن «يوقّع» كلّ منهم على ورقة تخلي مسؤوليتي فلا تطالبني أمهاتهم بالدية، فكركروا شماتة، فتوكلت على الله وطبخت. وكان من بين المجموعة صديق تسلل خلسة من فصيلة الغوريلا إلى فصيلة الإنسان، في غفلة من العم داروين، وأشهد أنه لم يترعرع على يد فليبينية، وأشهد أن أصابع يديه لو كمش بها رقبة حاخام يهودي لنطق الحاخام بالشهادتين فوراً بأعلى صوته، ولصلّى التراويح الساعة أربع العصر. وكان صاحبنا ضحوكاً كركاراً، وإذا ضحك ضرب الجالس إلى جواره على فخذه، فتتهشم وتنخلع صابونة ركبته.

وبين كل لحظة وضحاها يدخل الغوريلا خيمة الطبخ ليتفقد الأحوال، ولشدة جوعه راح يتغزل برائحة الطعام تارة، ويتهكم عليّ تارة: «ودلوقتي نحط معلقة من جوز الهند، وطماطمايتين، ونصف كوب من النشادر، وخمطة طحين مغشوش، وحيبلع جوزك بالهناء والشفاء، هاهاها»، وأنا أتمتم: «الوعد قدام يا بو طماطمايتين». وحانت ساعة الجد، وانتهت الطبخة، فقدمتها إليهم، وكان لونها أخضر، وكان لون ليلتنا أسود، وتوقفت الضحكات، وخيّم الصمت وساد الحزن، وعبس أبو طماطمايتين واكفهرّ، ثم تحامل على نفسه وراح يحجل كما تحجل الغوريلا إلى الخلاء، يده على بطنه، وظهره محنيّ كما كف طبّال اعتاد ضرب حافة الطار.

وهذا ما خشيت تكراره في مقالة الأحد.

***

تعازينا للأستاذ الكبير أحمد الديين لوفاة والدته، أسكنها الله فسيح جناته، وألهم ذويها الصبر والسلوان.

***

الحرية لسجين الرأي محمد عبد القادر الجاسم. 

محمد الوشيحي

واااو… يا وجه الله


آخ بس لو تأخذ المعارضة بنصيحتي، عليّ النعمة لأقلبن عاليها واطية، ولألخبطن المسائل لخبطة لم يُخلق مثلها في البلاد. فلا يعرف أحد الرايح من الجاي. ويقول خبراء التكتيك العسكري: "الخطة ُستخدم مرة واحدة، ناجحة كانت أم فاشلة، وتُرمى بعد ذلك". والمعارضة الكويتية تستخدم الخطة ذاتها سبع مرات كلها فاشلة، وتخسر و"يربح" الآخرون. لذا سأطرح خطتي، علّها ولعلّها، وهي كالتالي:


لماذا لا نزايد على فريق الحكومة من النواب والصحف والفضائيات في التطبيل والتزمير والهز والرقص؟ فإذا أرست الحكومة صفقتين على فلان وعلان مخالفةً كل الشروط والشرائع، فليخرج الرئيس السعدون في مؤتمر صحافي وهو يشير بإبهامه إلى الخلف كعادته ويقول: "حقيقة، هاتان الصفقتان تدعمان الدستور، ولا يسعني إلا أن أقول وااااو يا حكومة"، ويعقد النائب الفذ مسلم البراك ندوة لتهنئة الحكومة على صفقتيها، ويعلن أنه أرسل بوكيه ورد إلى هيئة الاستثمار، ويرسل الدقباسي والطاحوس بطاقتي تهنئة إلى رئيس الحكومة ووزيري الداخلية والإعلام، وتصدر كتلة التنمية والإصلاح على لسان النائب الرائع الدكتور جمعان الحربش بياناً بعنوان "نبيها هيبة… بلا معارضة بلا خيبة".


ويكتب "قلم الدستور" الأستاذ أحمد الديين: "يا لتينك الصفقتين"، ثم يبعث لي بـ"مسج" غاضب: "مطوّلة خطتك؟"، ويكتب سعود العصفور وهو يحك خده ويشتم نفسه: "يا وجه الله ما أجملهما من صفغتين"، ويكتب الزميل الحوثي سعد العجمي وهو يقفز: "في الحكيكة، هاتان الصفكتان تخدمان المنطكة، من تعز إلى الحديّدة، والدليل تأييد مسلم البراك والطاحوس لهما"، ويكتب زايد الزيد عن الصفقتين اللتين لا علاقة للزميل محمد الصقر، ناشر هذه الجريدة، بهما: "رغم أن الصفقتين أعطيتا لنائب سابق يملك صحيفة يومية فإنهما مطابقتان للشروط"، ويكتب مشاري العدواني: "رغم أنني أول من اكتشف الصفقتين، وأول من استخدم النار في الطبخ، وأول من ركب القطار البخاري، وأكبر عصبي في الكويت، وأضرب الطاولة أثناء كتابة المقالة، فإن الحكومة لم تكوكس هذه المرة"، وأكتب أنا: "عليّ النعمة أثناء خدمتي العسكرية، على أيام جدي بريمان وجدتي وضحة، رحمهما الله، كنت برفقة إخوتي منصور وخالد وسعود وعبد الرحمن، وكنت أحمل أطفالي روان وغلا وسلمان وسعود (على اعتبار أنني الوحيد الذي خدم في العسكرية، وأن عمودي الصحافي ملك للعائلة)، علمت بنبأ الصفقتين فتمنيت لو كان سمو الرئيس بجانبي كي أقبّل أنفه وأقف خلفه بمحاذاة كتفه ونحن على الشرفة".


أجزم حينذاك أن أسهم فريق الحكومة ستنخفض، وستمسح الحكومة أرقامهم من موبايلها، فتضرب معهم لخمة، فيتزاحمون كالعادة على بابها آخر الشهر، فيخرج لهم الهندي: "شنو يبي؟ يالله روح"، فيخرج المذيع الشاعر إياه على الشاشة مستصرخاً: "حنا ططو، حنا عمى عين القطو"، فلا يجيبه أحد، فيصرخ: "يا شباب، يا أخوان شمة، حنا ططو"، ولا مجيب، فيطلب من المشاهدين الصعود على الأسطح لأداء صلاة الاستسقاء، ثم يخرج ليبدأ برنامج زميله الجديد المتخصص في مناقشة العجائز عن السياسة، فيتحدث وهو مطرق: "سيداتي سادتي، أخيّاتي عزوتي، رحنا ملح، أي نعم ما غير رحنا ملح"، فيتلقى اتصالاً من أم عقاب فيرحب بها: "هلا خيّتي، هلا عزوتي، هلا سندي ومسندي، شهرين ما استلمت معاشي، ونبيها هيبة، ونبيها معاشات".


ويكتب نبيل الفضل مقالته الوداعية وهو يجمع حاجياته في شرشف: "مسلم البراك… انبطاحي"، ثم يركب تكسي بعد أن سُحبت منه سيارته الميزاراتي، وتصرح النائبة معصومة المبارك: "عيب عليكم، يا جماعة عيب عليكم، من الصبح واحنا على مكتب سموّه، والحراس يطردوننا، عيب"، وينفض النائب علي الراشد التراب عن يافطاته القديمة، ويمسحها بكمّه، ويعقد ندوة تحت شعار "إلا الدستور".


وخلال ستة أشهر، بهالشارب، سيبدأ العنكبوت بناء المدن الجديدة في وسائل الإعلام إياها، وسيتغيب نواب الحكومة عن الجلسات، وسنشاهد في نشرات الأخبار: "الكويت تستدين من صندوق النقد الدولي بعد خلوّ خزينتها". لحظتذاك، تتحرك المعارضة فـ"تزيّت" فوهات مدافعها، وتعيد توزيع الذخيرة، وترفع بيرقها الأحمر.


محمد الوشيحي

انكسوا لهون 
يا عونة الله


عضو كتلة العمل الوطني، النائب صالح الملا، أعلن عزمه تقديم استجواب رياضي لسمو رئيس الحكومة، وأول من خذله هم أعضاء كتلته. وأموت وأعرف ما الذي جمّع أعضاء الكتلة بعضهم مع بعض؟ فلكل اثنين لحن ومقام يختلف عن ألحان الآخرين ومقاماتهم. والنائبان صالح الملا ومرزوق الغانم فيهما نكهة هيل وطعم زعفران، بينما بقية الأعضاء الخمسة سادة، لا هيل ولا زعفران، كالأطباق الأميركية، غلافها فقط هو الجميل. والمصيبة الأكبر أن اللهجات السياسية مختلفة، ولا أدري كيف يتناقشون.

و»مونتجيمري»، القائد الإنكيزي الداهية الذي هزم الثعلب الألماني «روميل» في الحرب العالمية الثانية لأسباب ليس منها – بالتأكيد – غباء خصمه، يقول: «عليك أن تفهم نفسيات عساكر جيشك قبل أن تفهم نفسيات عساكر الخصم»، وكان يدرس مناطق بريطانيا ويحفظ تفاصيلها جيداً، كي يدردش مع عساكره أثناء الاستراحة، فيسأل هذا عن ذكرياته حول النهر الفلاني، ويسأل ذاك عن الكنيسة التاريخية الموجودة في منطقته، وهكذا.

والشيء بالشيء يُذكر، وقد تذكرت حادثة لا أدري هل لها علاقة بالموضوع أم لا… إذ كنا على الحدود الكويتية- العراقية، وكنا تحت ضغط تهديدات صدام التي لا تنقطع، وكان أحد الضباط حريصاً على رفع الروح المعنوية في نفوس القوات المرابطة، وأشهد أنه ضابط كفؤ، تعب على نفسه، وقضى نصف عمره يتدرب في أوروبا وأميركا، ويبدو أنه قرأ مذكرات مونتجيمري، لذا كان يتعمد الحديث مع الضابط الحضري بلهجة حضرية عن «الحداق»* وأماكنه المفضلة، ويتحدث مع البدوي بلهجة بدوية كارثية، تُضحك الجالس على قبر أبيه، أظنه تعلّمها من المسلسلات الأردنية، وهو ما دعانا لأن نطلق عليه لقب «الشيخ جلعاد». وكان إذا تحدث معي بلهجة المسلسلات، حاورته باللهجة ذاتها، فيهرب الزملاء من «ديوانية الضباط» كي لا يضحكوا في وجهه فيُحرج. وكان إذا أقبل بادرته: «يا حيّ الله من لفانا»، فيجيبني بفرح غامر بعد تغليظ صوته: «تحيا وتدوم يا أخوي يا محمد»، ثم يتسلم الزمام ويسألنا: «كيف أحوالكم يا خويانا** النشامة؟ ناقصكم حاجة؟»، فأجيبه بلهجة المسلسلات: «الحَمِد لله، الخير جثير». وكنت أتعمد التحدث بالهاتف أمامه كي يكتسب مزيداً من المفردات، فأقول لمن يتحدث معي على الهاتف: «انكسوا لهون يا عونة الله»، وأرمق الشيخ جلعاد بطرف عيني فإذا هو في غاية التركيز، ولولا الحياء لاستعان بورقة وقلم.

ولأن صالح الملا انضم إلى كتلة يجهل لهجات أعضائها، ولأن كرسي البرلمان فيه «خير جثير»، فسيعارضه زميلاه في الكتلة علي الراشد وسلوى الجسار، يا عونة الله. ووالله لم أرَ أحداً يخذل صاحبه كما يفعل أعضاء التيار الوطني بعضهم ببعض.

فيا صالح الملا ويا مرزوق الغانم، أطيعاني واحملا مزودتيكما على كتفيكما ووقّعا على براءة الذمة وإخلاء الطرف وغادرا الكتلة حالاً وفوراً، أو فلتقترحا زيادة أعضاء الكتلة بضم النواب حسين الحريتي ورولا دشتي وخلف دميثير وعسكر العنزي وحسين القلاف ودليهي الهاجري وعدنان المطوع وبقية المقاتلين العظماء، فلا فرق، والسالفة خاربة خاربة.

***

تعازينا لمساعد مدير التحرير، الزميل النشط سعود العنزي، في وفاة عمته، تغمدها الله بواسع رحمته، وألهم ذويها الصبر الجميل.

***

*الحداق: صيد السمك.

**خويانا: كلمة تُستخدم في الجيش بدلاً من كلمة «زملائنا»، من باب التلطّف. 

محمد الوشيحي

عندما يتربس المخ


أحياناً يتربس الدماغ. يحرن كما يحرن الحمار البصراوي. تدفعه، تجرّه، تضع له البرسيم في يدك وتمشي أمامه كي يتبعك، ولا فائدة ولا عائدة. والكتابة تختلف عن أي شيء وعن كل شيء. فالمقالة قصيدة، والكاتب شاعر. ولا يشبه الكتابة الصحافية اليومية أو شبه اليومية، بصورة أو بأخرى، إلا المساجلة الشعرية التي تتطلب ذهناً أصفى خد اللي في بالي.

واليوم، كتبت ومسحت، وكتبت ومسحت، وكتبت ومسحت، إلى أن تجرّح لون صفحة الكمبيوتر، وشربت فناجين قهوة لو شربها دبّ في ألاسكا لبكى بكاء الثكلى ولتفنجلت عيناه، ودخّنت من السجائر ما لو دخّنها بركان آيسلنده لكحّ وتورّمت رئته، وذرعت الغرفة رواحاً ومجيئاً، ومشيت مشياً لو مشته إبل بني هلال لأصيبت بالكساح وشلل الأطفال. ولولا الخوف من الزميل الكردي ناصر العتيبي، سكرتير التحرير، لاعتذرت عن الكتابة اليوم.

ثم خطرت على بالي حيلة، وهي أن أكتب المقالة على شكل فقرات منفصلة، لمواضيع منفصلة، لا علاقة لموضوع بآخر، كما يفعل بعض الزملاء، من باب البحث عن الأسهل، أو أن أضع أخباراً وأكتب تعليقاتي عليها، فخجلت خجل العروس ليلة زفافها، وتذكرت جذوري اليمنية، وتذكرت أن اليمنيين هم أفصح مَن على ظهر الأرض ومن في بطنها، وهُم ملوك الكلام حديثاً ونثراً وشعراً. وكان «حسّان» التبّع اليماني، أي الملك المتبوع، ملك الملوك، مهووساً بالفصاحة والشعر والسجع، وكان يأمر جنوده أن يذهبوا إلى السوق ويأتوا بعشرة رجال، أول عشرة يمرّون من أمامهم، فيأمر العشرة هؤلاء أن ينظموا قصائد في الحال عن موضوع يختاره هو! فيقول مثلاً: «انظموا قصائد في حصاني»، أو «في غانيتي الجديدة»، أو «في المطر البارحة»، وهكذا، فينظموا، فيخلع عليهم، ولو كنت أنا معهم لخلع عليّ نعله. وكان أهل الجزيرة إذا امتدحوا فصيحاً قالوا «أفصح من يماني».. فكيف، وأنا سليل هؤلاء الكلمنجية الأفذاذ، يعجز نسر فكري عن التحليق على شواهق القمم، ويتحوّل إلى ديك كهل يغازل دجاجات الكلام فتنفر منه وتشتمه؟ 

محمد الوشيحي

لماذائيات باهتة


اختلافي الفكري مع النائب وليد الطبطبائي لا يحتاج إلى صورة أشعّة يرفعها الطبيب أمام الإضاءة. اختلافنا سيشاهده المارة وعابرو السبيل معَلّقاً على البلكونات والنوافذ. لكنني لا أملك إلا أن "أوقّع" على بياض قلبه وصدْق توافق أفعاله مع أقواله، فوجهه مكشوف في زمن الأقنعة، و"لاؤه" في قمة اللعلعة. وهو لم يغشنا كما يفعل بعض بائعي البرتقال من النواب، الذين يضعون لحاهم أعلى الصندوق وفي أسفله مصالحهم التجارية، كي لا يرى الناس إلا لحاهم. وهو لم يربط لجنة حقوق الإنسان البرلمانية التي يرأسها بكراع الحكومة كما يفعل الآخرون.


وأمس، ضحكت حتى أشفقت على نفسي بعدما تذكرت أنه بعد إعلان نتائج الانتخابات الماضية طلب مني الزميل سعود العصفور مرافقته إلى الطبطبائي لتهنئته بالنجاح، وهناك، وعلى مقاعد رُصّت على الرصيف، استأذننا الطبطبائي لحظات، ثم عاد وفي يده أوراق مدّها إلينا قائلاً: "هؤلاء الكتّاب أحد أسباب نجاحي"، فقرأنا عناوين الأوراق، فإذا هي مقالات لكتّاب ناصبوه العداء، وتعمّدوا وضع المسامير أمام إطارات سيارته كل صباح، فضحكنا ضحكاً نصفه يكفي.


الأسماء تتكرر اليوم أيضاً، وتهاجمه رغم قدسية المشهد، وتتهمه بالبحث عن الأضواء، وكأن الطبطبائي مراهق مغمور لا يعرفه إلا أمه، أو كأنه ذهب إلى غزة ليتمشى على بلاجاتها مساءً وفي يده آيسكريم الفراولة بالفستق، وفي النهار يتمدد بالشورت على شاطئها كي "يتحمّص" جلده الأبيض أثناء تمتّعه بقراءة الروايات الرومانسية.


للبطل وليد مساعد الطبطبائي، ولصحبه الأبطال، نقول: "كنتم أشجع منا وأكثر إنسانية". ويا "أبا مساعد" ثق بالله لو أنك ما انضممت إلى قافلة الحرية لهاجموك. واقرأ معي موضوعاً من أجمل الموضوعات كتبه أحد أعضاء منتدى الشبكة الوطنية الكويتية (أكبر منتدى إلكتروني في الكويت) تحت عنوان "لماذائيات" (لا أدري لمَ لمْ يسمِّه "لماذات"؟ ولا من أين جاء بالهمزة؟ على أي حال هو من جلب الهمزة وهو المسؤول عن مصاريفها)، يسخر فيه الكاتب من تبريرات بعض معارضي استجواب الطاحوس لرئيس الوزراء… تفضل:


http://www.nationalkuwait.com/vb/showthread.php?t=121599


ولا أدري ماذا سيقول هؤلاء الآن، بعد أن أعلن النائب صالح الملا نيّته استجواب رئيس الوزراء أيضاً إذا لم يطبّق القوانين الرياضية… كان الله في عونهم عند بحثهم عن "لماذائيات" جديدة، بعد أن صرفوا على استجواب الطاحوس رصيدهم من "اللماذائيات" واستدانوا. لكننا سنتفحص لماذائياتهم الجديدة، فقد يغشوننا ويبيعوننا لماذائيات مستعملة أعادوا طلاءها وغلفوها بكراتين جديدة. معلش، فنحن في الزمن المغشوش.


* * *


عسى ألا تنسينا عودة أبطال قافلة الحرية واستجوابا الطاحوس والملا موضوع الزميل محمد عبدالقادر الجاسم، الذي نتمنى أن نفرح بخروجه قريباً كما فرحنا بعودة أبطالنا من غزة.


محمد الوشيحي

ومن الدسك ما قتل


الزعل ممنوع والعتب مرفوع…


عادة جميلة تملكتني منذ فترة، وهي "قراءة الخبر ذاته في صحف عدة" للمقارنة بين مستويات التحرير والصياغة، أو ما يُطلق عليه صحافياً "الدسك". ومسؤول الدسك هو الذي يكشف لك مستوى الصحيفة، ومدى احترامها لك ولنفسها، وهو الذي لم يجلس على كرسي "الدسك" إلا بعد أن ظهرت تجاعيد الخبرة والنبوغ على وجهه، وبعد أن تزاحمت المعلومات العامة الهائلة في مخه.


ويقرأ الناس الأخبار بتوقيع الصحافي الفلاني والعلّاني، لكنهم لا يعلمون أن أهم صحافي شارك في الخبر هذا هو مسؤول الدسك، دون أن يُشار إلى اسمه. وقد لا يعلم الناس من خارج الوسط الصحافي مقدار الصراع الخفي بين الصحف على مسؤول الدسك وسكرتير التحرير، لندرة المبدعين في المجالين هذين.


ويجلس مسؤول الدسك ليستعرض الأخبار المكدسة على مكتبه، خبراً تلو خبر، ثم يعيد صياغتها من جديد. فهذا محرر ترك خبراً على مكتب الدسك "حُكْم بإعدام سائق آسيوي شنقاً. السبب: قتل سيدة لأنها اكتشفت حبه لخادمتها فضربتها ومنعتها من التلويح له من الشباك. المكان: السالمية"، وهذا محرر اقتصادي ترك خبراً آخر "مؤشر البورصة يرتفع بعد ثلاثة أشهر من الانخفاض"، وهذا خبر برلماني، وخبر رياضي، وخبر فني، ووو… فيكتب مسؤول الدسك عنواناً لجريمة القتل: "ومن الحب ما شنق"، وفي تفاصيل الخبر سيتحدث عن روميو وجولييت، وقيس وليلى، ويقارنهم بعشاق زمن التكنولوجيا، ومستوى المجرمين الثقافي، وسيتطرق إلى علاقة السكّين بالعشق، وسيربط الجريمة بمثيلاتها في العالم، فيجد القارئ أمامه مادة غنية بالمعلومات التاريخية، وبالخبر، وبنتائج الدراسات، مصوغة بحرفية، وفي أصغر مساحة ممكنة. وسيجد القارئ الخبر ذاته في صحيفة أخرى كُتب هكذا: "إعدام سائق آسيوي قتل كفيلة معشوقته". نقطة. الله يعطيه النقطة.


ولو أنني تحدثت بشفافية، لقلت إن الدسك الحقيقي، إلى حد ما، ستجدونه في صحف "الجريدة، والقبس، والراي، وعالم اليوم، والأنباء (في السنتين الأخيرتين)، والسياسة (في الفترة الأخيرة أيضاً)". على أن دسك صحيفة "القبس" كمنتخب ألمانيا، ستجد القوة والمتانة والترابط، لكن حاجبيك لن يرتفعا إعجاباً، وكفّيك لن يلتقيا تصفيقاً. هي جريدة، برأيي، تمشي على الكتاب، وعلى الخطوط الأرضية، لا يمكن أن تخطئ، ولا يمكن أن تُذهل. أما دسك "الراي" فهو كالمنتخب البرازيلي الذي يستعرض فيبهرك لكنه يخسر بسهولة. سيستقبل الخبر على صدره، ويطير في الهواء ليلعبه "باك وورد". أما جريدة "الجريدة" فهي كالمنتخب الفرنسي، هي خليط من ده على ده، تمشي على الخطوط الأرضية أحياناً، وتستعرض أحياناً لكن بخجل، وستحرص جيداً على ماركة الكعب العالي وهي تركل الكرة بالكعب.


ولو تناولنا خبر ارتفاع مؤشر البورصة بعد انخفاض استمر ثلاثة أشهر، فسنقرأ في القبس: "مؤشر البورصة يعاود ارتفاعه بعد انخفاض دام ثلاثة أشهر"، عنوان كما في الكتاب، وتحته تحليل فني مطوّل، لن تجد خطأ لا في صياغته ولا في نص الخبر، لكنك ستقسم أن من صاغه أفنى عمره موظفاً في أرشيف البلدية. أما في "الراي" فستقرأ: "البورصة تخلع ملابس الحداد وتستعرض فتنتها بفستانها الأخضر"، ولن تُتعب "الراي" نفسها في تفاصيل الخبر، بل ستكتفي باستطلاع آراء المهتمين هاتفياً. أما في جريدة "الجريدة" فستقرأ: "بعد بورصات نيويورك وباريس وطوكيو… بورصة الكويت تحقق رابع أعلى ارتفاع على مستوى العالم"، فقد بحَثت وناقشت وكلّفت مكاتبها في الخارج عمل تحقيقات، ثم كتبت، لكنها خففت البهارات والفلفل والليمون إلى أقصى درجة، فقد يكون أحد القراء مصاباً بارتفاع الأملاح أو الضغط، بعكس جريدة "الراي" التي ننصح بقراءتها بقرب "دولكة ماي" أو بقرب بئر ماء، إن أمكن.


أما جريدة "الوطن" فستكتب على صفحتها الأولى وبخط أعرض من وجه نواب الحكومة: "أيواااااا… البورصة فوق النخل فوق فوق… عاش واقف"، فهي تفهم المزاج العام، لذلك يبدو أنها أوكلت مهمة الدسك إلى أحد طلبة "ثالثة أدبي". وستكتب جريدة "الدار": "نجادي: أميركا تحارب بورصة إيران… وشيعة السلفادور يعلنون تضامنهم مع حكومة المحافظين". أما جريدة "الأنباء" فستتلفت تسع مرات قبل أن تكتب خبرها، كي لا تُغضب أحداً، فإذا تأكدت من ذلك عنونت: "البورصة تعيد التفاؤل المفقود". وستكتب جريدة "السياسة": "البورصة ترتفع باستحياء… ويجب تدخل الحكومة لتعويض الخسائر". وستسلك جريدة "عالم اليوم" خطاً منفرداً كعادتها: "ارتفاع مؤشر البورصة بشكل فجائي يؤكد وجود تلاعب… المسؤولية برسم البرلمان".


تابعوا صياغة عناوين الأخبار وتفاصيلها، وادعوا لي…


محمد الوشيحي

يساراً ثم بسرعة يميناً

حكومة إسرائيل قدمت خطتها لتأمين سلامة الشعب في حال قيام حرب مع حزب الله، وتفقدت الملاجئ، واستكملت نواقصها، وباشرت تطبيق الخطة على وزرائها ثم نواب البرلمان ثم موظفي الحكومة، فالمدارس، فالأهالي في بيوتهم، فالأسواق…

والكويت – التي تجاورها إيران الساعية إلى امتلاك برنامج نووي، والتي قد تنشب بينها وبين أميركا وحلف الناتو معركة ولا ذات الصواري، وسينالنا من الحب جانب، وستدوسنا حوافر الخيل وهي في طريقها من وإلى إيران – لم تقدم حكومتها لا خطة ولا شطة. ليش؟ لأن الكويتيين أقوياء، لأن الكويتيين من الفولاذ المقاوم للطعج والبعج، لأن الكويتيين من الستانلس ستيل، بقطرة صابون واحدة سيدتي ومسحة واحدة يعود كما كان.

وخير يا طير إذا اندلعت الحرب الأميركية الإيرانية، وتاهَ صاروخ نووي عن قطيع الصواريخ وفقدَ أمه، واتجه إلى الأراضي الكويتية؟ يخسي أكبر صاروخ يهز شعرة في أصغر طفل منا، وسنمشي برؤوس مرفوعة، ولن نشارك الفئران جحورها، وكيف ننجحر ونحن ذرية من قال فيهم عمرو بن كلثوم في معلقته: "إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ، تخر له الجبابر ساجدينا / ألا لا يعلم الأقوام أنّا، تضعضعنا وأنّا قد ونَيْنا / ألا لا يجهلن أحدٌ علينا، فنجهل فوق جهل الجاهلينا". وشاعرنا الوطني الكبير أحمد الشرقاوي يقول: "جمبلي جمبلولو". وقد أعذر من أنذر يا إيران ويا أميركا، ألا هل بلغنا، اللهم فاشهد.

وأي سخص من السخوصة، على رأي محمود السعدني، ينطلق صاروخ في وجهه، فلينحرف بجسمه يساراً، ثم بسرعة ينحرف يميناً، وسينخدع الصاروخ بإذن الله، وسيمر بجانب أذنه لهُ وزيز، اززززز. هذا والله أعلم، ها خوتي ها.

أما إذا تعمدت إيران إطلاق صواريخها علينا، فسنرد عليها بصواريخ بناتنا اللواتي يخبئنها تحت حجاباتهن، فنأمرهن بالوقوف صفاً واحداً، وجوههن باتجاهنا وظهورهن باتجاه إيران، فإذا بدأ تبادل القصف، ينحنين إلى الأمام قليلاً، ثم يرفعن رؤوسهن بسرعة، فينطلق صاروخ كلّ منهن مع حجابها. والبادئ أظلم.

***

البادرة الإنسانية تجبرك على تحية صاحبها، بعدما كدنا ننسى كلمة "إنسانية". وبادرة معالي النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الشيخ جابر المبارك سيتذكرها الناس بعد أن أمر معاليه بنقل أسر شهداء حرب أكتوبر في مصر لزيارة قبور ذويهم. وهي بادرة ستصب الماء على ركام القبور لتعيد إليها لدونتها في ذاكرة الشعب… شكراً أبا صباح، فهذه هي الكويت، وهذا هو جيشنا الذي لا ينسى دماء أبنائه، وهؤلاء هم شيوخنا. ورحم الله شهداءنا الأبطال.

***

عزاؤنا لرئيس التحرير الزميل خالد الهلال المطيري في وفاة هلال فجحان هلال المطيري، تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.