محمد الوشيحي

السرقوا الخط

يأتيه وهو نائم ويضربه على أنفه، فيستيقظ المضروب ويأتيني مهرولاً شاكياً باكياً والدماء تنهمر من أنفه بسخاء: «طقني»، أي ضربني، فأستدعي الضارب فيقسم لي أنه هو المضروب، رغم أن الدماء شاهد عيان ودليل إثبات لا يحتاج إلى تحريات، فأحسم الأمر بكل مخزوني من الجدية: «سنشكل لجنة تحقيق في الموضوع»، ويتكرر الأمر، ويتكرر إعلاني: «سأشكل لجنة تحقيق في الموضوع».
المضروب هو «بو عنتر»، ابني سلمان ذو السنوات التسع العجاف، قضى الثلاث الأخيرة منها وهو ينتظر نتائج لجان تحقيقي، والضارب هو «بو عزوز»، ابني سعود ذو السنوات الثلاث المملوءة بالشر وذو الجبهة الممطوطة نتيجة تكرار الكر والفر.
وفي ليلة لا قمر فيها، ارتفع صراخ ذي الجبهة الممطوطة «بو عزوز» فهرولت مسرعاً لأستطلع الأمر، فإذا شقيقه الأكبر «بو عنتر» باركاً فوقه يخنقه، وما إن رآني «البارك» حتى صرخ: «شكل لجنة تحقيق»، فضحكت إلى أن شارفت على الموت بعد أن اكتشف خطتي وتحيزي لشقيقه الأصغر.
وفي السودان استيقظ الشعب على خبر طريف «سرقة خط الطيران بين الخرطوم وهيثرو»، أعقبه خبر أكثر طرافة «الحكومة ستشكل لجنة تحقيق في الموضوع»، فتندر السودانيون، وعلق أحدهم: «هوه الخت (الخط) كان لابس شنو آخر مرة شفتوهو فيها؟»، وعلق آخر: «الواد عبدالباري يسرق الكحل من العين.. هيا نفتش بيتو ابن الكلب»، وسخر ثالث: «يا جماعة انتبهوا لخط الاستواء قبل ما يشحلطوه هوه التاني»، وتندر رابع: «ما يهم عندنا ختوت غيرو.. عندنا خت الرقعة بالحفظ والصون»، وقهقه خامس بما معناه: «الحرامية ولاد الكلب سيفككونه ويبيعون قطعه في السكراب»…
وفي اليمن قبل سنوات سُرِقَ مخزون البلاد الاستراتيجي من القمح، وتم تشكيل لجنة تحقيق من المشتبه فيه الأول وبقية المشتبه فيهم، فسخر كاتب: «الحمد لله جات على القمح ما جات على القات»، وتهكم آخر: «لجنة التحقيق مشكلة من المشتبه فيهم بالسرقة، أظن اللجنة ستتفرغ لتقسيم السرقة بين أعضائها»، وعلق ثالث ورابع وخامس.
وفي الكويت، كشف ديوان المحاسبة عن بلاوي زرقاء في العقد الموقع بين شركتي «ِشل» ومؤسسة البترول الوطنية، فقرر البرلمان تشكيل لجنة تحقيق، وقررت الحكومة أيضاً تشكيل لجنة تحقيق، والسن بالسن واللجنة باللجنة والبادئ أظلم.
ومنذ أن علِمتُ بقرارَي تشكيل اللجنتين تمتمت: «بالهناء والشفاء»، لكنني بعد أن قرأت أسماء رئيسي اللجنتين وأعضائهما حمدت الله بكرة وأصيلاً، فمن جانبٍ ترأس وزير النفط د. محمد البصيري اللجنة الحكومية، ومن الجانب الآخر ترأس د. علي العمير اللجنة البرلمانية، واختيرت د. معصومة مبارك مقررة للجنة.
والدكاترة الثلاثة، كما تعلمون، من قبيلة النزاهة فخذ الحقانية، خصوصاً أن العمير والبصيري من رجال الدين الأنقياء الأتقياء الورعين… فابشروا بالخير، واحرصوا على خط الاستواء.

محمد الوشيحي

مو مني كل الصوج

قبل يومين انطلقت من «تويتر» حملة «اقلب الصورة» للتضامن مع حقوق «البدون» الإنسانية، وما أكثر الحملات التي تنطلق وتتلاشى كدخان سيجارة، بلا تأثير، لكن الحملة هذه لها استثناء إنساني يلوّنها بلون مختلف عن غيرها.
وبعيداً عن موضوع التجنيس… ما بال إخوتنا من البدون تفرغوا للبكاء واختفوا بين حشائش كثيفة من الحزن فلم نعد نرى إلا دموعهم ولا نسمع إلا أنينهم؟ ما بالهم نذروا أنفسهم لجلسة القرفصاء وأسندوا ظهورهم إلى حائط الهم؟ ما بالهم يغنّون المواويل الحزينة ويرددون «مو مني كل الصوج»؟
متألمون هم؟ الجواب «نعم» بحجم السماء وأكبر… أعرف مقدار الألم، أو أزعم أنني أتخيل ذلك، وأعرف أن شيئاً لا يؤلمهم كما يؤلمهم الضحك على جراحهم والاستهزاء بها عندما تخرج من أفواه قليلي المروءة، رغم أن من البدون من يعدل قبيلة المستهزئ به كاملة ومنهم من تعدل عائلة بأكملها، لكنها الدنيا والحظوظ (بالطبع أتحدث عن البدون المستحقين لا المزورين الذين نثروا الملح على جراح المستحقين). ومع ذا، دعوني أعتب على البدون عتب محب…
يقول المؤرخون: «محنة الأديب منحة الأدب»، فأين الإنتاج الأدبي بين جموع البدون الذين يعيشون في محنة؟ أين الشعر العظيم؟ أين أدب الرواية؟ أين العملقة في التلحين؟ أين الفن التشكيلي؟ أين النحت والرسم؟ أين الاختراعات العلمية؟ أين وأين وأين كل ما له علاقة بالإبداع الناتج من الآلام؟
غالبية أدباء العالم كانوا لا يجدون قوت يومهم، كانت الهموم تعتصرهم فأنتجوا لنا عصيراً أدبياً بقي خالداً… تمعنوا في سِيرهم، فها هو الأديب العالمي «فيكتور هوغو» ابن القصور، يقدم أفضل إنتاجه وهو في فترة الاغتراب والمنفى، والشاعر العظيم بندر بن سرور اعتلى في الحالق الشاهق عندما كان «مشحتراً» لا يجد ما يدفئ عظامه من زمهرير الشتاء، وأعظم قصائده ظهرت للناس وهو يرتجف برداً ويعالج تشققات كفه، وها هو امرؤ القيس، أشهر من يملك قلباً أخضر من بين الرجال في التاريخ، يطلق حممه الشعرية وهو بين الصعاليك المعتّرين، وهي حمم تتفوق بفراسخ على حممه عندما كان يعيش في قصر أبيه ويحمل رتبة «ابن الملك».
هنا أيضا، من بين «بدون الكويت» سنجد الأديبة سعدية مفرح، الكاتبة، الروائية، ذات الذائقة الشعرية الفاخرة، والرائع علي المسعودي الذي كلما قرأت له تخيلته يجلس تحت ظل شجرة وحيداً يعزف بالناي، وغيرهما قلة، فأين الآخرون؟
أنا لا أدعو إلى الدروشة الفنية، ونسيان ما خلا ذلك، لا… أنا أقول احملوا التفاحتين، كل تفاحة في يد، تفاحة المطالبة بالحقوق وتفاحة الإبداع، فإذا سقطت الأولى من اليد بقيت الأخرى تسد الجوع.
دعوا الدموع للعين تتكفل بها، وليحمل كلّ منكم نايه ويبحث عن شجرة تظلله، ولينطلق، فالسماء لا يحكمها رجال المرور الكويتيون، وكم بين النجوم من مقاعد شاغرة، فحلقوا كي نراكم حين نراكم ونحن ننظر إلى الأعلى لا إلى الأسفل… حلِّقوا واعصروا الغيوم ليتساقط المطر، لا تنتظروا المطر… حلقوا وشكِّلوا من طين آلامكم ما يبهرنا ويسحرنا.
وكان الله في العون…

محمد الوشيحي

ثوروا لا رحم أبوكم

نحن أجيال تستلم وتسلّم من دون أي إضافة ولا تعديل، وإذا عدّلنا أو أضفنا فإلى الأسوأ.. نحن أجيال جبانة، رعديدة، دجاجة صقعاء، لا تملك القدرة على المبادرة، حتى في تغيير بعض العادات الغبية.
فالعادات والتقاليد ليست إلا تصرفات قام بها الأولون بناء على طبيعة حياتهم واحتياجاتهم وما كان متوافراً عندهم، فنقلناها نحن منهم بالحرف، تماماً كما يفعل التلميذ البليد في الامتحانات وهو يمد رقبته إلى ورقة الجالس إلى جواره… لذا اعتمد رجال الماضي «الذبيحة»، وهي في منطقة الخليج تعني ذبح الكبش للضيف، رمزاً للكرم، ولأن غيمة الجوع كانت تغطي الجميع، فقد قرر الأولون دعوة الجيران والأقارب إلى الوليمة. وجاءت أجيال اليوم لتنقل حرفياً تلك العادة، واعتبرت أن من لا يذبح كبشاً لضيفه بخيل لا يعرف «المراجل».
ويحدثني صديق: «أبلغني اثنان من أقربائي في السعودية رغبتهما في زيارة الكويت، فحجزت لهما غرفتين في فندق فاخر، واستقبلتهما ووضعت سيارتي الحديثة وسائق منزلي تحت تصرفهما، واستأجرت لنفسي سيارة صغيرة، وتفرغت لهما تفرغاً تاماً، وتنقلت بهما بين أفضل مطاعم الكويت، على سوئها، إلى أن غادرا، فبلغني أن أحدهما غاضب لأنني لم أقم بواجب الضيافة كما يجب، ولم أذبح لهما كبشاً كما فعلا عندما زرتهما»، ويوضّح صديقي: «عندما زرتهما لم يتكفلا إلا بذبح الكبش، فيما تكفلت أنا باستئجار السيارة والفندق، أي أن تكلفة استضافتهما لي لم تتجاوز المئة دينار، في حين كلفتني ضيافتهما أكثر من ألف دينار… فعن أي كرم يتحدثان؟».
قلت له: «يا سيدي، هي هكذا، إكرام الضيف بذبح الكبش، نقطة على السطر… ليش؟ لأن آباءنا كانوا يفعلون ذلك، ونحن نحمل أسفاراً لا نقرأها، كالحمير».
حتى لباسنا… يشبّ الواحد منا فيرغمه المجتمع على ارتداء الغترة والعقال، أو فليحسب حسابه أنه خارج دائرة «المرجلة»، ببساطة، رغم أن ارتداء الغترة لا ذوق فيه، وفوق ذلك يعوق الحركة… لكن عدم ارتدائها يُسقط عنك أحد أركان المرجلة، أما الجلوس عند رُكب المسؤولين والشيوخ وتقبيل أنوفهم وشفط أيديهم شفطاً مبيناً وتدبيج قصائد النفاق فيهم فشطارة ما بعدها شطارة.
ولا نكتفي بعادات الأكل والشرب واللبس، بل حتى الأفكار ننقلها كما هي بعد أن أرحنا عقولنا من التفكير ورقابنا من التلفّت حولنا لرؤية الشعوب الأخرى، فاليهود جبناء رعاديد، كما يقول أجدادنا، ينفخ عليهم العربي «هوووف» فيهربون وهم يولولون ويختبئون خلف أمهاتهم… لولا أميركا، آه بس لولا أميركا التي تساعد أولاد القردة، لكنّا فعلنا فيهم وعملنا…  في حين تتندر شعوب الأرض على جُبن العربي وخوفه من حكامه وتكيّفه مع الذل والعبودية، وهو ما يثبته الواقع، لكننا لن نصدق الواقع الملعون، لأن آباءنا لم يحدثونا عن ذلك.
يا سيدي، المراجل «باكيج» كامل، والعادات مرتبطة بتفوقك أو تخلفك اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً ورياضياً ووو… لا تقل لي من أي دولة أنت، فقط حدثني عن عاداتك وسأبلغك إن كنت تنتمي إلى دولة محترمة أم لا، فإذا كنت من شعب يحترم من يدبج قصائد المديح في كبار المسؤولين، وإذا كان الكرم له لائحة تنفيذية وطريقة تناول كتبها لك الأولون لا تحيد عنها، وإذا كنت تدعي الشموخ وتحصل على حقوقك بالتذلل للآخرين… فأنت للأسف تنتمي إلى شعب «مهوب رجال»… اللي بعده.
عاداتكم فاشلة يا قوم، فثوروا عليها لا رحم أبوكم… ثوروا تكفون يا عيال.

محمد الوشيحي

بالروح بالدم نفديك يا نجاد

التاريخ يصرخ: «كلاكيت ثاني مرة»، فيهدأ الضجيج وتتوقف الضحكات في أفواه أصحابها… ويتقدم هذه المرة أحمدي نجاد ليقوم بدور البطل في النسخة الحديثة من الفيلم بدلاً من صدام حسين.
في الثمانينيات من القرن الفائت، كان العراقيون «يمونون» على البيت وأهل البيت، كانوا يبدّلون الديكور، ويحددون لون رصيف شارع الصحافة، وكانت السفارة العراقية تمثّل أكبر جالية في البلد، وكل من يحتج هو «خائن للعروبة» وضد «البوابة الشرقية» وعدو «سعد بن أبي وقاص» رضي الله عنه… فيستعين بالصمت ويتجرع «السم السِّقَطْري».
واليوم «يمون» الإيرانيون على البيت بمطبخه وغرف نومه، ويحددون لون رصيف شارع الصحافة، وتسيطر طائراتهم الورقية على الفضاء، وتمثل السفارة الإيرانية أكبر جالية في البلد، وكل من يحتج هو «طائفي» وضد «الممانعة» وعدو «الحسين بن علي» رضي الله عنهما… فيستعين بالصمت ويتجرع «السم السقطري».
الاختلاف في أسماء الصحابة فقط، والأيام دول، وشارع الصحافة نداوله بين الناس، ومن يتحدث عن إيران اليوم «مهوب عاقل» على رأي السعوديين… وعلينا، نحن الشعب الكويتي، أن نضع أيدينا على خدودنا الكريمة لسبعة أشهر من التشرد، وننتظر رقم قرار مجلس الأمن.
وسابقاً، أيام صدام، كانت حكومتنا مرتبكة ربكة من وقعت سيجارته في حضنه وهو يقود السيارة، فارتاع ونفض ثوبه، فوقعت السيجارة على الكرسي، فنفضها، فوقعت على أرضية السيارة، فداسَ على الفرامل، فصدمته السيارة التي خلفه… وكانت ليلة.
وهذه الأيام، أيام نجاد، تنام حكومتنا على الأريكة في الصالة بكل «أمان وطمان»، وتستيقظ فتخرج إلى مقر عملها وتترك «نجاد» في المنزل بمفرده مع عيالها وبناتها، فـ «نجاد» محرَم لها.
أيها السادة، اخلعوا نعالكم كي لا يتسخ السجاد الإيراني الذي يغطي أرض الكويت من المحيط إلى الخليج… وارفعوا أصواتكم: «بالروح بالدم نفديك يا نجاد»… وسلموا لي على إيران وبلّغوها تصفيقي.

محمد الوشيحي

ختامها عبق

في رسالة أشبه بالنقطة آخر السطر، كتب الروائي الكبير فؤاد قنديل هذه المقالة ليختم بها سجالنا… وبعد أن أشكر أستاذي القنديل، أتمنى ألا يكون أحد منا قد تجنى على قبور الأموات.
وها هي المقالة المسك تعطروا بعبقها:
الكاتب القدير الأستاذ محمد، لك التحية القلبية، والأمنيات العطرة، والشكر الجزيل على تعليقاتك النبيلة، التي تبغي مخلصة بلوغ الحقيقة.
أما قبل – فإن العشاء يحق لك عليّ ليس لما تحسبه انتصاراً بلغته وأعلنته، بل لأسباب أخرى، منها:
أولاً: أن العشاء مستحق لك عليّ منذ سنوات تقديراً لمقالات مبدعة وفائقة الأدب، لها قدرة فريدة على تحليل المعاني والمباني… الألفاظ والمواقف، وقد اعتدت أن أتلقاها بتركيز ومحبة واستشراف للجمال الذي تشعه، وقد عبرت عن هذا في رسالة بعثت بها إليك قبل عام، ويبدو أنها لم تصل.
ثانياً: أنك استقبلت اختلافي معك استقبال الكريم الذي لا ينزعج من الآخر، ولا من رأيه، مهما بدا مناقضاً، أو على غير الهوى.
ثالثاً: أنك أقبلت تبحث وتنقب عن الأسانيد والأدلة التي ترجح رأيك وتؤكده، وهي سمات أثمنها غالياً، لأنها سمات العالم الجاد الذي لا يكتفي بتدبيج المقالات، وتسويد الصفحات، بقدر ما تعنيه دقة المعلومة، وصواب الرأي، متجنباً الظلم قدر الطاقة.
أما ردك الذي احتشدت له، فاسمح لي أن أعلق عليه بما يلي:
1 – ليكن ما ذكرته عن منح عبد الناصر أوسمة رفيعة للحكيم وإحسان وغيرهما جزءاً لا يتجزأ من محاولتنا المتواضعة لرصد موقفه من الأدباء.
2 – أنا لا أدافع عن عبد الناصر، ولكني لا أميل إلى إنكار حقائق ذات أهمية بالغة، ودور صعب تجاهله.
3 – كان عبد الناصر في عيد العلم يكرم عدداً من الأدباء، ويتم اختيار أحدهم ليلقي كلمة، ففي السنة الأولى ألقاها لطفي السيد، والتالية طه حسين، وكان عبد الناصر يقول ليوسف السباعي الذي يتولى المهمة بكاملها: ليتني أعرف أهم النقاط التي سيتناولها الكاتب لأعلق عليها، أو أبني عليها خطبتي. وفي العام الثالث اختير العقاد ليفوز ويلقي كلمة الكتاب، وطلب منه السباعي ملخصاً للكلمة فرفض العقاد، وقال السباعي ذلك للرئيس فضحك، وقال: إذا لم يفعل العقاد هذا فلن يكون العقاد.
4 – خاف ثروت عكاشة أن يعرف الرئيس بأمر فيلم «شيء من الخوف» الذي يصور عصابة تحكم قرية وتهدد أهلها، وطلب عدم عرض الفيلم من أساسه، وبلغ الأمر عبد الناصر فقال: أراه، وبعد أن شاهده صفق، وقال: هذا فيلم رائع، فقال له ثروت: يقال إنك أنت رئيس العصابة، فقال: وهل هذا يمنع عرض الفيلم، ولو كان الأمر كما يقال لحقّ للشعب إطلاق النار علينا جميعاً.
5 – خاف ثروت أيضا من فيلم «ميرامار» الذي يهاجم الاتحاد الاشتراكي والثورة والحراسات، وطلب وقف عرضه، ورآه عبد الناصر، وطلب عرضه لأن الأمور لا تستقيم بلا نقد، وحدث مثل ذلك مع مسرحية «الفتى مهران» للشرقاوي وغيرها.
6 – إذا سألنا النقاد والكتاب في كل أنحاء العالم العربي عن أزهى عصور الفن والأدب في مصر، فسوف يقول الجميع أو المنصفون على الأقل: إن عقديّ الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي لا نظير لهما في الإبداع الشعري والروائي، وكذلك في المسرحية والقصة القصيرة.
7 – تحدثت أستاذ محمد عن حاكم توقف عند كلمة هنا أو كلمة هناك، فهل لأنه قال تصبح على محبة بدلاً من تصبح على حب، يكون إحسان قد ذاق الأمرين علي يديه كما قلت في مقالك؟ وقال عبد الناصر لأنيس منصور: إن أسلوبك الصحافي بديع وجذاب، وفكرك متوقد، فلماذا تكتب عن تحضير الأرواح وعن أشياء خفيفة، مصر تحتاج منك إلى الكثير والأهم. فهل هو بهذا كان دكتاتوراً؟ وتحدثت عن تدخل عبد الناصر، هل التدخل يجعل الحاكم دكتاتوراً؟ فما هو موقف لينين وهتلر وستالين وخروشوف وصدام والقذافي وغيرهم.
8 – لا أنكر ولا أقبل ما حدث لبعض المفكرين الذين أمر عبد الناصر بسجنهم، وما زلت في غاية الدهشة من هذا السلوك، والأغرب أن كل من سجنهم تقريباً من مؤيدي فكره وتوجهاته.
9 – عبد الناصر زعيم كبير، ومن المؤثرين في التاريخ، ومن الإنصاف دراسته في إطار ما سبقه وفي إطار عصره، وهو في الوقت نفسه بشر له إيجابياته وسلبياته.
10 – أتذكر الآن رغماً عني حادثاً لا علاقة له بالموضوع، إنه موقف عبد الناصر من عبد الكريم قاسم الذي تأهب بجيشه عام 1963 ليحتل الكويت قائلاً إنها المحافظة العراقية رقم 19، وهنا أرسل إليه الزعيم برقية عاجلة يقول فيها: لو تحركت خطوة واحدة باتجاه الكويت فسوف أكون في مواجهتك بعد ساعات، ولن أسمح لك أن تلمس أرضها أبداً.

محمد الوشيحي

العشاء أيها القنديل

تلك منازلهم وتلك رسومهم…
كنت قد تطرقت في مقالة سابقة إلى ما فعله عبدالناصر في بعض الأدباء، ومنهم إحسان عبدالقدوس، فكتب الأديب العربي فؤاد قنديل مقالة تدافع عن عبدالناصر وتنكر عليّ، مختصرها: «قل هاتوا برهانكم»، فاتصلت بمحمد إحسان عبدالقدوس أسأله فأجابني: «نعم، عبدالناصر هو من سجن والدي لا مجلس قيادة الثورة، وكان ذلك في عام 1954»… إذاً هذه واحدة يا قنديلنا الذي ينكر أن عبدالناصر دكتاتور تعسف مع الأدباء.
ثم استنجدت بمقاتلي «تويتر» ليعينوني في بحثي عن رسالة عبدالقدوس إلى عبدالناصر، التي لا أتذكر أين قرأتها، فدلوني على الرسالة الكنز، فوضعت الحبل في عنقها والقيد في يديها وأتيت بها هنا، لعلها تكون قنديلاً لقنديلنا فؤاد وبقية عشاق عبدالناصر. على أن أضع كلام عبدالقدوس بين مزدوجين، وأضع هلالين وبينهما نقاطاً – هكذا (…) – للجمل التي لا تعني موضوعنا، أما ما سأكتبه بين هلالين فهو تعليقي. وهاكم بعض ما كتبه إحسان في شرحه لرسالته:
«… لأن الثورة كانت تخطو خطوات ناجحة قوية وكان عبدالناصر في أزهى انتصاراته بعد تأميم القناة وفشل العدوان الثلاثي، حتى أصبح الكثيرون منا يعطونه الحق في كل شيء حتى في فرض الرقابة العنيفة (يقصد الرقابة على الصحف بحسب ما ساقه في الفقرات التي سبقت هذه)… إن النجاح يبرر كل الأخطاء».
وتعالوا نكمل القراءة: «وأصبحت آراؤه الخاصة (يتحدث عن عبدالناصر) في ما ينشر في روز اليوسف تصلني إما عن طريق الرقابة وإما عن طريق أصدقاء مشتركين»… لاحظ كلمتي «رقابة وآراؤه الخاصة»، ونكمل: «وعندما تعمدت إهمال السياسة والتفرغ للأدب لم أسلم من تزمت عبدالناصر»! هل قال «تزمت»؟… ثم تحدث عن أن عبدالناصر أراد منه أن يستبدل جملة «تصبحوا على حب» التي كان يختم بها برنامجه الإذاعي إلى «تصبحوا على محبة»، ويعلق إحسان: «فتوقفت أيامها عن حديث الإذاعة وإلى اليوم»… بالله عليكم كيف يكون التدخل إذا لم يكن هذا تدخلاً؟
وخذوا هذه الفقرة التي اقتطعتها من رسالته للزعيم: «أبلغني صديقي الأستاذ هيكل رأي سيادتكم في مجموعة القصص التي نشرتها أخيراً بعنوان «البنات والصيف»، وقد سبق أن أبلغني نفس الرأي السيد حسن صبري مدير الرقابة واتفقت معه على تعديل الاتجاه الذي تسير فيه قصصي»… سأعيد كتابة الفقرة «اتفقت معه على تعديل الاتجاه الذي تسير فيه قصصي».
وتفضلوا وتفضل يا قنديلنا ما كتبه القنديل الأكبر إحسان عبدالقدوس في رسالته تلك دفاعاً عن نفسه: «يبقى بعد هذا ما حدثني به الزميل هيكل عن دعوة الإلحاد في صحف روز اليوسف والمقالات التي ينشرها مصطفى محمود… وقد أوقفتُ نشر مقالات مصطفى محمود الخاصة ببحث فلسفة الدين (طبعاً بناء على ضغوط من عبدالناصر) ولكنني أحب أن أرفع إلى سيادتكم رأيي في هذا الموضوع (…) إني مؤمن بالله يا سيدي (كتب هذا بعد أن بيّن أنه كان متهماً بالجنس والإلحاد)… لست ملحداً… ولعلك لا تعرف أني أصلي… ولا أصلي تظاهراً ولا نفاقاً، فإن جميع مظاهر حياتي لا تدل على أني أصلي… ولكني أصلي لأني أشعر بارتياح نفسي عندما أصلي، ورغم ذلك فإني أعتقد أن ديننا قد طغت عليه كثير من الخزعبلات والأتربة والتفسيرات السخيفة، التي يقصد بها رجال الدين إبقاء الناس في ظلام عقلي، حتى يسهل عليهم استغلالهم والسيطرة عليهم».
ويعلق إحسان على رسالته التي لا يتذكر هل بعثها إلى الزعيم أم لا: «هذه هي الرسالة التي كتبتها عام 55 لجمال عبدالناصر، وبين كلماتها ما يعبر عن مدى ثقتنا به وحبنا له في هذه الفترة (…) قبل أن تبدأ فترة الستينيات (…) التي أخذت منا كثيراً من الحب الذي كان يجمعنا بعدالناصر».
تلك منازلهم وتلك رسومهم أيها القنديل، لم نزيفها، وما حدث لعبدالقدوس ينسحب على غيره بالطبع ويؤكد تسلط «الزعيم». هذا بخلاف ما فعله مدير مخابرات عبدالناصر «صلاح نصر» في أهل الفن… أقول قولي هذا وأنا أنتظر رد أستاذي القنديل أو دعوته على العشاء البحري – كما نص الرهان – وهو يرفع راية بيضاء فاقعاً لونها تسر الناظرين، بعد أن ثبتت رؤية الهلال. وعهد ووعد بأن أتناول العشاء والرسالة في جيبي، وإذا أراد قنديلنا نسخة من الرسالة فستصله قبل أن يرتد إليه طرفه.
واللهم اسقِ قبور الأدباء القناديل، وارمِ عروش الطغاة بالطير الأبابيل… آمين.

محمد الوشيحي

الروائي المصري فؤاد قنديل يرد

يبدو أنني، وعلى غير قصد، اقتحمت عرين الأسد «عبدالناصر» فزأرَت أشباله في وجهي، وأنا من كان يتوقع، مخطئاً، أن جماهيرية عبدالناصر «دفترية» فقط، لا وجود لها في الحساب الختامي، خصوصاً بين المثقفين والكتّاب.
فطوال الأيام الماضية، وبعد نشر مقالتي «أعمامنا»، لم يتوقف سيل الرسائل من القراء المصريين، من داخل الكويت وخارجها، إن على بريدي الإلكتروني أو على «تويتر»… قليل منها يؤيدني وجلّها يخالفني، بل ويكذّبني… اخترت منها كلها هذه المقالة للروائي الجميل فؤاد قنديل، كنموذج ورأي آخر، مع الاعتذار لبقية المقالات والردود… ولضيق المساحة في الصفحة الأخيرة ستُنشر المقالة في صفحة «زوايا ورؤى»، على أن أكتب تعليقي في الأسفل.
——-
مقالة الروائي فؤاد قنديل بعنوان "سقطة كاتب أعتز به"… نشرها، أو سينشرها في "اليوم السابع":
"نشر الكاتب الساخر الأستاذ محمد الوشيحي في صحيفة "الجريدة" الكويتية يوم الخميس 9 يونيو مقالا مميزا عن حرية الكاتب، وكان ككل مقالاته متسماً بالثقافة العريضة وخفّة الظل والجسارة والبلاغة وحلاوة البيان إلا أن به بعض الثقوب في الثوب الأبيض، والثقوب خلفتها المعلومات التي اعتمد عليها وليست من بنات أفكاره، وإن طفت على سطحها رؤاه، ومن ذلك قوله: إن عبدالناصر أرسل هيكل إلى إحسان عبدالقدوس ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، ليبلغهم عدم رضاه عن المجون في رواياتهم، وقد توقفت عند الفقرة المتخمة بالمعلومات المفتقدة لأية أسانيد، ولكنها اتهامات مرسلة في محاولة مجانية لمحو ملامح إنسانية رفيعة لزعيم عربي نادر.
أولا: ليس في روايات الحكيم أي مجون فكيف يمكن لعبدالناصر مدمن القراءة أن يلوم الحكيم على ما ليس فيه، بل على العكس فعندما تعرض الحكيم لهجوم بعض النقاد قرر عبدالناصر أن يمنحه عام 1957 "قلادة النيل" أعلى أوسمة الدولة، تعبيرا عن تقديره شخصيا وتقدير الثقافة المصرية بكل أطيافها لإبداع وفكر الحكيم، أما نجيب فقد اعترض الأزهر على رواية نجيب محفوظ "أولاد حارتنا" التي كانت تنشر منجمة أو مسلسلة في الأهرام عام 1959، وكتب فضيلة الشيخ محمد الغزالي تقريرا يدينها إدانة شديدة ويحتج على نشرها، وأرسل التقرير إلى عبدالناصر، الذي حوله إلى هيكل وطلب منه أن يوقف النشر، قائلا بالحرف: أنا لست مستعدا للخلاف مع الأزهر، هذا كلام الدكتاتور الذي لم يحتمل مجرد الخلاف مع السلطة الدينية، في حين كان غيره وأقل منه بمراحل لا يعبأ مطلقا بهذه السلطة، بل يغير في قادتها كما يشاء.
رد هيكل على عبدالناصر قائلا: إن للأهرام مصداقية مع القراء وسوف نستمر في النشر حتى انتهاء الرواية، وبالإمكان منع نشرها في كتاب أو غيره من وسائل النشر، ووافق عبدالناصر  (الديكتاتور!)، أما روايات إحسان فلم يعترض عليها عبدالناصر لأنه كان ذا أفق مفتوح ويؤمن بحرية الفنون بالذات، بدليل أن إحسان تعرض لهجوم عنيف من عدد من أعضاء مجلس الشعب (مجلس الأمة في ذلك الوقت) عام 1964 وطالبوا بوقف نشر رواية إحسان  "أنف وثلاث عيون" وروايات أخرى، فما كان من عبدالناصر (الديكتاتور!) إلا أن قرر منح إحسان وسام الجمهورية من الطبقة الأولى، أما إشارة الوشيحي إلى أن إحسان ذاق الأمرّين على يد عبدالناصر فهذا غير صحيح؛ لأن الواقعة الوحيدة التي شهدت سجنه كانت عام 1953 بعد أن كتب إحسان عدة مقالات يهاجم فيها الضباط أعضاء مجلس قيادة الثورة، وأشهرها مقالته "الحكومة السرية التي تحكم مصر"، أما من طالب باتخاذ موقف حاد مع إحسان فكانوا بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة وليس عبدالناصر لأن علاقته بإحسان كانت وطيدة، ولم يستطع عبدالناصر الوقوف ضد غضب الضباط (لأنه كان دكتاتورا!).
وما حدث مع مصطفى محمود هو بالضبط ما حدث مع نجيب في "أولاد حارتنا"، إذ وصلت إلى عبدالناصر خطابات كثيرة من شيوخ الأزهر ومن القراء، وبدا كأن هناك بوادر غضب واسع، فطلب من إحسان أن يتحدث إلى الدكتور مصطفى ويبلغه الاعتراضات الكثيرة، ورد إحسان على عبدالناصر موضحا أنه لا بأس على الإطلاق من النشر ومن له رأي فليرسله، ووافق عبدالناصر الدكتاتور على هذا الرأي، وانهالت الردود على "روز اليوسف" حول مقالات الدكتور مصطفى، وطرحت الكثير من الأفكار وتنوعت الرؤى وشاعت حالة من الثراء الفكري.
لقد أفضت كل هذه المعلومات المغلوطة إلى أن يصف الوشيحي عبدالناصر بالمتدين الأكبر، وقد كان عبدالناصر بالفعل متدينا مستنيرا ويحرص على علاقته مع الله، أما الحديث بغرض السخرية والإهانة فإن الأمر يتجاوز حدود حرية الكاتب، ويظل الوشيحي برغم ذلك أحد أهم كتّاب الأدب الساخر في العالم العربي".
***
هذه كانت مقالة أستاذنا فؤاد قنديل، ذي القامة الشاهقة، وتظهر فيها اتهامات واضحة بأنياب ومخالب، تشير إلى أنني سقت معلومات لا أسانيد لها، أي أنني "معطتها من جيبي" كما نقول في لهجتنا… لذلك سأطلب من أستاذي قنديل ومن غيره من محبي عبدالناصر ومريديه مهلة من الوقت، كي أبحث عن أسانيد لمعلوماتي التي زودتني بها ذاكرتي الخربة.
على أنني إن لم أجد الأسانيد، وهذا أغلب الظن، فسأعلن هنا أنني مدين للأستاذ قنديل بعشاء بحري على النيل، وإن وجدتها– قولوا يا رب– فهو المدين لي بالعشاء البحري… ويا معين.

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

محمد الوشيحي

سارقو الألم

الشعراء يتبعهم الغاوون، وأنا من عتاة الغاوين، إذ حتى وأنا مشغول أترك الباب موارباً للشعر كي أبقى على قيد الحياة، فلا حياة بلا شعر.
ويقول الفيزيائيون والكيميائيون إن هطول المطر سببه «عملية التكاثف»، ويقول الشعراء وعشاق الحرف إن المطر ما هو إلا دموع غيمة تشارك شاعراً آلامه.
وأنا هنا أتحدث عن «الشعر الشعر»… دعك من الأمسيات الشعرية في الفنادق الفاخرة وأصبوحات كليات الجامعة الفاجرة (الفجور يعود إلى الأصبوحات لا إلى الجامعة)، وتمتم لنفسك: «يفتح الله» إذا سمعت شاعراً ذا أنامل مترفة يتصنع المعاناة في شعره، واحمل مزودتك على ظهرك واهرب مغيب شمس، فلا شعر في القصور والفلل، إلا ما ندر.
أقول هذا وأنا أشاهد الآن على إحدى الفضائيات «شاعراً» خليجياً كالزبدة التي ستذوب بعد قليل، ابتسامته خجلى، وعيونه تُسلهم حياءً وخفراً، يحكي معاناته وهو يرتدي «البشت»، وعلى معصمه تلتمع ساعة أغلى من مهر «كيت» زوجة وليام، وفي الصف الأول من الحضور يتزاحم مسؤولون يشع من أعينهم نفاق يُخجل عبد الله بن سلول، ومن أفواههم تفوح ابتسامات الرقيق، ويقاطعون أبياته بالتصفيق الصفيق، وهناك تتزاحم «معجبات» ترتدي كل منهن «النقاب الكذاب»، يطلقن آهات كالنعيق والنهيق.
لا أنكر أن ما يقوله هذا المترف «شعر»، بل هو شعر فاخر يسقي غرس القلوب، وأشهد أن الحمام على الأغصان القريبة ترك ما في يديه وأرخى آذانه وفغر أفواهه لعظمة هذا الشعر… نعم أشهد أنه شعر ويشهد عشاق الحرف قبلي على جزالته، لكنني أقسم يميناً ويساراً أن من أراه أمامي سارق للألم، وأقسم بأغلظ الأيمان وأطولها أنه لا يشعر بما يقوله ولا يفهمه أصلاً… هذا الإبداع، جزماً، لشاعر تعرّض للسموم والعواصف و»لواهيب الشمس» فخرجت منه هذه الأحرف الفاخرة، فالشعر كاللؤلؤ، إذا عانت المحارة الألم بكت فكانت دمعتها لؤلؤاً، ولا لؤلؤ من دون ألم، وصاحبنا «الشاعر المترف» كان آخر بكائه عندما خرج إلى هذه الدنيا من بطن أمه، قبل أن يبدأ «معاناته» مع العسل.
الشاعر المترف المتصنع أمامي على الشاشة اعتاد تناول إفطاره «بالهناء والشفاء» في حين أن القصيدة التي يقرأها أمام «الجمهور» هي لشاعر تناول آلامه «بالعناء والشقاء».
ستقول: «أعذب الشعر أكذبه، وليس شرطاً أن تحترق بالنار لتصف قسوة الحرق» فأرد عليك: «ويل أمك وأم أمك… هذا المترف لا يفهم ما هو مكتوب له، هذا يقرأ قراءة خاطئة كاذبة باهتة، لا يعرف «الوقفات والحركات»، ولا يعرف متى يتساءل في وقت التساؤل، ولا كيف يبدي السخرية في وقت السخرية… هو يقرأ كما يقرأ التلميذ أمام موجّه اللغة العربية (حافظ ويسمّع)… هو شوّه القصيدة وبقرَ بطنها وجعل أعزة حروفها أذلة… سحقاً له ولجمهوره وللفضائيات التي تنقل غثاءه… وتباً للجوع الذي أرغم شاعراً حقيقياً على الانحناء كي يُسكت صراخ بطنه».

محمد الوشيحي

أعمامنا

الكاتب الفرنسي الخالد «بلزاك»، وهو بلزاك على سن ورمح، كان يُتهم في حياته بتشويه الثقافة الفرنسية والدعوة إلى الإلحاد ومعاداة الكنيسة ووو، إذ كانت رواياته تتحدث عن فساد بعض الرهبان والراهبات، عن مجونهم ومجونهن، عن تكسبهم وتكسبهن، عما يدور في غرف النوم… وكذلك حال مواطنه «سارتر»، وحال الأميركي «همنغواي» الذي سل سيفه وسنّ سكينه ضد العادات الغبية في المجتمع الأميركي، فسنّ المجتمع مقصلته لهمنغواي، ونصب له أعواد المشانق بعد كل عمل أدبي يكتبه هذا العظيم الخالد… هؤلاء وغيرهم كانوا يتعرضون لقذائف المجتمع الخارقة الحارقة، لكنهم تجاهلوها ولم يتوقفوا عندها، فأثروا الأدب العالمي.

وفي مصر، أرسل عبدالناصر أفّاقه الأكبر ودجّاله الأعظم محمد حسنين هيكل إلى كل من إحسان عبدالقدوس ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم يبلغهم «غَضَبَ الرئيسِ بسبب المجون في رواياتكم»، فخضع الحكيم وأذعن محفوظ ورفض عبدالقدوس الانصياع للأوامر، وكتب رسالة وجهها إلى الرئيس من خمس عشرة صفحة يعلن فيها أن رواياته هي مرآة للمجتمع تعكس ما يدور فيه بكل صدق، فذاق عبدالقدوس الأمرّين، ولعن الساعة التي رفض فيها إملاءات المتدين الأكبر عبد الناصر (كان من ضمن أوامر عبدالناصر لعبدالقدوس إيقاف مقالات مصطفى محمود في مجلة روز اليوسف «لأنها تدعو إلى الإلحاد»، وكان عبدالقدوس قد سمح لمصطفى محمود بالكتابة «الإلحادية» بعد أن دعا كبار رجال الدين للرد عليه ما أثرى النقاش وفتح الآفاق).

واليوم، يحتفل الفرنسيون بيوم ميلاد «بلزاك» ويوم مماته، وكذلك يفعل الأميركان بصاحبهم «همنغواي»، والمصريون بعبدالقدوس، وبَقِيَت أسماؤهم خالدة، وتلاشت أسماء منتقديهم دعاة المحافظة المزعومة وتطايرت كالدخان أسماء دعاة التدين المزعوم غير الحقيقي… فلا تهن ولا تحزن يا صديقي، فلن يصيبك ربع ما أصاب أعمامنا كبار الأدباء والكتّاب.

قلت هذا الكلام لزميل هاجم تجار الدين والعادات الكاذبة، فثارت عليه جموع من النوع الذي يصنفك بناء على المقالة التي أمامه، فأنت اليوم قبليّ ولا عامر بن الطفيل، وأنت غداً منسلخ عن القبيلة وأعرافها وأميرها ولا عروة بن الورد، وبعد غد أنت مع رئيس الحكومة، وبعده أنت مع الشيخ أحمد الفهد، واليوم الذي يليه أنت ضد الدين، والذي يليه أنت متدين طائفي، وهكذا… هؤلاء القراء لا يتذكرون كل ما كتبته، ولا يقيمون وزناً لكل الحبر الذي سكبه قلمك في مقالاتك السابقة، هم «عيال اليوم» فذاكرتهم لا تتسع إلا للمقالة المنظورة أمامهم.

والمصيبة الكبرى عندما يرتدي أحدهم جبة لقمان الحكيم وهو يحدثك بعد أن كتبت مقالة انتقدت فيها تجار الدين، أكرر، تجار الدين لا الدين: «لا تقترب من حمى الدين وأنت ابن تلك الحمولة التي والتي… إني لك من الناصحين»، فتجيبه بحروف الحزن: «أخشى أن ينفر الناس من الدين ويكرهوا الحمايل بسببك وأمثالك»، وتتمتم بصوت لا يسمعه إلا قلبك: «ملعون أبو الحمايل، أنصاف الليال وأطراف القوايل».

يا صديقي الكاتب… ليس أسهل من تكديس الرمل تحت السجادة كي يرضى عنك مجتمع الحمايل، لكن الصعوبة يعرفها من يرفع السجادة ويضربها بعصاه ليتطاير غبارها… فاغمض عينيك عن غبار سجادهم.

***

كتلة العمل الوطني تلعب بالطريقة البرازيلية، هات وخذ، وتتفاوض مع «الحَكَم»، وتتفاهم مع حاملي الراية، وتنسّق مع لجنة البطولة، فتفوز بدرع الدوري وكأس اللعب النظيف، قبل أن ترفع شعار «الرياضة… أخلاق».

محمد الوشيحي

المجد للقلم والموت للدفتر

هكذا هي قوانين الحياة… يضغط الشاعر بقوة على أعصابه ومشاعره وأحاسيسه ويستعين بكل معارفه من الجن لينظم قصيدة محبوكة مسبوكة، ويعاني الملحن ما يعاني ليخرج بلحن «يركب على» القصيدة، ويلامس ذائقة الجمهور، وبعد كل هذا العرق والتعب والأعصاب، يتقاضى كلّ منهما مبلغاً لا يكفي «الباب الأول» من احتياجاتهما، ليأتي بعد ذلك المطرب الذي وُلِدَ وفي فمه حنجرة جميلة، جاءت من دون أي مجهود منه، فيغني، فيكسب الملايين والشهرة والمكانة.
الشاعر السعودي العميق «نايف صقر» اختصر لنا المسألة عندما قال: «الموت حظ القلم والمجد للدفتر»، فعلاً… يشقى القلم وينزف، في حين يستلقي الكتاب على ظهره فيُمتدح، ويقال: «كتاب فلان الفلاني في غاية الجمال»، ولا يتطرق إلى سيرة قلمه.
ونتمايل طرباً ونمتدح عبدالمجيد عبدالله في أغنية «يا طائر الأشجان»، مثلاً، ولا نعرف شاعرها ولا ملحنها (الشعر ليحيى حداف والألحان للنجم الذي انطفأ، أو أطفأ نفسه، خالد الشيخ، صاحب أغنية «يا عبيد» الخالدة)، وسنعتبر المطرب كريماً متواضعاً إذا ذكر اسميهما في لقاء تلفزيوني أو صحافي.
هكذا هي قوانين العصر، فبعد أن كان المجد في الجاهلية للشعراء، ولا مجد للمطربين والمطربات، رغم إتقانهم الشعر وامتلاكهم الذائقة، جاء عصرنا هذا ليفرض قبحه وظلمه، فتسيّد عبدالمجيد عبدالله وراشد الماجد ونبيل شعيل وغيرهم ممن لا يمتلكون أدنى ذائقة شعرية، ولا يعرفون من المحسنات اللفظية حتى اسمها، فلا وجود في قواميسهم لمصطلحات «الكناية والتشبيه والتورية والاستعارة والمجاز…»، ولا يفهمون الوزن الشعري، ولا يفرقون بين قصيدة وأخرى إلا بحسب اسم قائلها ومكانته الاجتماعية، والمالية أحياناً.
تأملوا كلمات بعض أغاني راشد الماجد. وخذوا هذه على سبيل الحزن والقهر ليس إلا:
«بيني وبينك شي أكثر من الأحلام، حقيقة حبي لك ما هو حكي وأوهام، تسهر مع أشواقي تحت الرموش تنام، ومنك أقل كلمة تخفف الآلام، زاد الوله فيني قلبي في حبك هام، واللي يحب مثلي ما تغيره الأيام»، إنا لله وإنا إليه راجعون. ولو أننا طلبنا من الشاعر إضافة بيتين لقال: «تعالي نروح للسينما نشوف آخر الأفلام، شدعوه ما تردين شدعوه صاكة الجام»، لكن الحمد لله أنه توقف قبل وقوع الكارثة بقليل… وها هو «السندباد» كما يحلو لمريديه تسميته، راشد الماجد، بجلالة سطحيته وقماءة ذائقته الشعرية يحتار في ثروته وشهرته ومعجبيه ومعجباته.
وتأملوا كلمات بعض أغاني زميله في السطحية نبيل شعيل، وخذوا هذه على سبيل البكاء:
«حالتي حالة من يوم تركوني وحيد، الله لو يرجعون أسعد إنسان أكون / بالوصل فرحتي وبالهجر ماني سعيد»! ألا لعنة الله على الشعر بأوزانه وسحره وقوافيه وكل ما يمت إليه بصلة نسب أو قرابة إن كان هذا شعراً… ومع ذا ورغم ذا ها هو نبيل على سنام المجد محتاراً في أعداد معجبيه ومعجباته.
واسألوا عن نايف صقر وعن شعره وستجدون أن شهرته لا تصل إلى واحد في المئة من شهرة الإخوة السطحيين… تعالوا اسمعوا نايف واغسلوا زجاج ذائقتكم بكلماته لتروا الجمال بوضوح:
«الموت حظ القلم والمجد للدفتر، حبر القلم غلطتي وايامي أوراقي / الخوف يجتاحني.. وجه الطريق أسمر، راح أكثر العمر يا خوفي على الباقي / يا صوت لا تلتحف صمتي ولا تصبر، قل ما تبي واترك الهقوة على الهاقي / ثراي ما ينشد الغيمة متى تمطر، مدامها في سماي تحن لاغراقي»…الله الله الله يا نايف. أين أنت يا عظيم؟ تعال فالقلم يستجديك وأمثالك للانتقام ممن استهانوا به، تعال يا نايف لتقف أنت وأمثالك العظماء على أبواب المكتبات دروعاً بشرية كي تمنعوا المستشعرين من الإساءة لتاريخ الأقلام، تعال يا نايف فالبعض يتعامل مع الشعر كما يتعامل مع القمصان التي لا تحتاج إلى كيّ… اغسل والبس.