أحمل في يدي اليمنى هذه المقالة، وفي اليسرى اعتذاراً عن غياب مقالتَي الثلاثاء والخميس الماضيين. والسبب، أقصد سبب غياب المقالتين، هو كل هذا الغبار النووي الذي ارتفع في سماء الكويت، ما دعانا إلى ربط الاجتماع بالاجتماع، والنقاش بالنقاش، والاختلاف بالاختلاف، والصراخ بالصراخ، والضحك بالضحك، والإرهاق بالإرهاق… فتشوّشَ الذهن، وانكمش الوقت المخصص للكتابة، فخشيت أن أقدم شيئاً لا يليق، فاعتذرت، لأنني أرى أن “المقالة قصيدة” يجب أن يرسم بدايتها امرؤ القيس، ويتولى متنها وخاتمتها أبو الطيب المتنبي (يقول بعض النقاد: “الاستهلال – أي بدء القصيدة – لامرئ القيس، والبقية للمتنبي”).
وتسألني فأجيبك: ليس لدي نقطة شك في أن نواب البرلمان المقبل سيدخلون القاعة وهم مكشرو الأنياب، والدماء تقطر من أفواههم بعد كل ما جرى.
أمسك قلمك، أو قلبك، وسجل ما أقوله… سيتراوح عدد “الغاضبين” في البرلمان ما بين 32 و37 نائباً غاضباً، منهم 16 نائباً “مسجل خطر”، بزعامة أحمد السعدون، وأنت تعلم أن السعدون يمتلك صبراً يُخجل عمّال النسيج والسدو، ومعه “حامل البيرق” الملهم مسلم البراك، ود. جمعان الحربش، ود. فيصل المسلم، وعبد الرحمن العنجري، وأمثالهم ممن سيتولى قيادة “كتيبة المواجهة والصدام”. أما “كتيبة التطويق” فسيقودها مجموعة من الانتحاريين الشبان، كطارق المطيري، وخالد الفضالة، وعبد الله الأحمد، وأمثالهم من نواب الـ “كاموكازي”.
أما النساء النائبات، فيبدو أنهن “خسائر حرب”، باستثناء د. أسيل، التي “قد وقد”. وبالمناسبة، آه ما أشرس النساء اللواتي شاهدتهن في ساحتي “الإرادة” و”ناصر المصري”، وما أعمق اللواتي قرأت آراءهن في “تويتر” وفي “المدونات”.
عموماً، لن أشغلك بالتفاصيل، سأوجز لك… الشعب، في غالبيته، متأهب متحفز، يجلس على ركبته اليسرى ويثني ركبته اليمنى، كما يفعل عدّاء الأولمبياد قبل الانطلاق. ويقول البدو: “فلان مستفرس”، وهي كلمة تقال بعد الحرب مباشرة عن الفارس الذي قتل عدداً من الأعداء، ويلاحظ أنه حتى بعد أن تضع الحرب أوزارها تبقى “شهية القتال” مسيطرة عليه، لذا يتفادى الجميع إغضابه. والشعب اليوم “مستفرس”، ألا هل بلّغت، اللهم فاشهد.
وأظن أن على الحكومة المقبلة، برئاسة الشيخ جابر المبارك، أن تطلب التفاوض في الحال، وأن تتفادى الصدام بأي شكل من الأشكال، بدءاً من أصواتها في انتخابات رئاسة البرلمان، وليس انتهاء بأصواتها في انتخابات اللجان، وأظن في الشيخ جابر المبارك – حتى هذه اللحظة – الظن الحسن، ما لم، و”ما لم” أداة تنقض الميثاق، وترفع الوضيع وتضع الرفيع.
وتسأل أكبر العرافين السياسيين، فيضم منكبيه ويمط شفته السفلى ويُظهر باطنها، دليل جهله، لكنني سأقرأ الفنجان وأتفحص الفلك فأقول: ستعود رئاسة البرلمان إلى الشعب، وستعود اللجان معها، ومكتب المجلس، وستتقدم الكويت خطوات، وستتوقف فترات متقطعة، بسبب فواتير الحكومة السابقة ولدواعي الطائفية التي ستنشط انتقاماً لغياب رئيس الوزراء السابق، قبل أن تتوقف الدولة وتبدأ مرحلة التراجع، ويبدأ الصدام من جديد، فينتصر الشعب مرة أخرى، وتنطلق الكويت انطلاقتها الدائمة.
التصنيف: محمد الوشيحي - آمال
محرقة
كلهم دون استثناء، كل من أيد هذه الحكومة بالقول أو بالعمل دخلَ المحرقة برجليه… الوزراء والنواب والتجار والبسطاء والشعراء وشيوخ القبائل ووجهاء العوائل والممثلون، ووو، كلهم دخلوا، أو أُدخِلوا، في الفرن وراحوا في الكازوزة، باستثناء “موضي علف”، فهو، أو فهي، ضد الحرق.
حتى الكتّاب والصحف والفضائيات الذين كانوا يمشون “على الحدود” ويدّعون معارضتهم الحكومة، كشفت أضواء النيران موقفهم، وشوهت الحروق وجوههم وأتلفت ملامحهم.
قالوا: كل الوزراء؟ حتى محمد العفاسي؟ قلنا: هذا بالذات حروقه بليغة لن ينجو منها… قالوا: وعبد الوهاب الهارون؟ قلنا: يرقد في مستشفى البابطين للحروق السياسية… بدهشة كرروا: عبد الوهاب الهارون عضو التحالف الوطني؟ وبتأكيد أجبنا: نعم، شاهدناه يحترق ويتقلب على جمر النار، بل إنه أكثر الضحايا احتراقاً، هو ود. هلال الساير… قالوا: وماذا عن د. محمد البصيري وأحمد المليفي وعلي الراشد؟ قلنا: مغطاة أجسامهم بـ”كريمات الحروق” والشاش الأبيض، لا تظهر إلا عيونهم، حالاتهم ميئوس منها، هؤلاء الثلاثة تحديداً “في الدرك الأسفل من الفرن”… قالوا: وبقية الوزراء “الشعبيين”؟ قلنا: حطب نار، لا يشغلون حيزاً في الفرن، أعواد صغيرة يابسة سرعان ما احترقت و”تجمّرت”… قالوا: طيب والشيخ أحمد الحمود؟ قلنا: يتطلب علاجه نقله بسرعة إلى ألمانيا، وقد يموت “سياسياً” قبل أن يصل إليها، ولا تطيلوا الحديث عن أحمد الحمود الذي هرول بأقصى سرعة له في اتجاه أكبر الأفران وأكثرها “وجيجاً” ورمى حقائب أرصدته كلها قبل أن يقفز وراءها في قعر الفرن الأكبر…
لا حول ولا قوة إلا بالله، قالوا، ثم أضافوا: طيب والشيخ حمد جابر العلي الذي لم يجف بعد حبر توزيره؟ قلنا: في بداية الاحتراق، وسيتفحم بسرعة، هو من هذا النوع الذي يتفحم بسرعة، حاله كحال صغار الوزراء الشعبيين، فلا رصيد له يشفع، ولا ذكرى سيئة ولا طيبة تقيه الحرائق وتحافظ على جلده لفترة أطول، فقد كان سفيراً، والسفراء في بلادي، غالباً، لا يجيدون إلا ترديد “العلاقة بين البلدين متينة”، ونظنه في لحظات احتراقه يردد: “الأفران بين البلدين متينة”.
***
إلى هؤلاء الشبان والشابات الذين واللواتي ما فتئوا يهاتفونني وغيري من الكتّاب والنواب: “لدي مستند يكشف تلاعباً خطيراً، قمت بتصويره… مشروع سرقة، أو مشروع ظلم، أو مشروع فساد أو أو أو، وأتمنى وأده قبل أن يكبر ويشتد عوده”.
إلى هؤلاء كلهم أقول: لولاكم وأمثالكم لماتت الكويت. أنتم وأمثالكم من يتعهد الكويت وهي على فراش المرض، ويسند رأسها على زنده ليطعمها دواءها، في الوقت الذي يستغل فيه اللصوص مرضها ويتزاحمون على “كبتها”.
هل أقول لكم “شكراً”؟ وهل يُشكر الابن لبرّه بأمه؟ صدقاً لا أعلم ماذا أقول… فقط سأردد ما تقوله أمكم الكويت: الحمد لله.
التكتل الوطني… الفرق ثلاث ساعات
إحدى مشاكل كتلة العمل الوطني هي “ساعة يدها”، دائماً متأخرة، وهي ليست سويسرية بالتأكيد، مع أن “كتلة الوطني” الأقرب إلى سويسرا. هي تصل (أقصد الساعة، والكتلة أيضاً)، لكن متأخرة. فالساعة العاشرة بتوقيت الحياة السياسية في الكويت توافق الساعة السابعة بتوقيت كتلة الوطني. الفرق ثلاث ساعات.
ونقول في لهجتنا “شربت مروقها”، وهو مثلٌ يعني أن “الذبيحة شبعت موتاً وهي الآن في المراحل النهائية من الطبخ”، أي أن القصة انتهت، وكتلة “الوطني” تأتي دائماً في المراحل النهائية للطبخ لتطرح رأيها في نوعية الذبيحة التي يجب اختيارها… خلاص، شربت مروقها يا الربع! وبعد أن ينفضّ المصلون من المسجد، بعد أن أدوا الفريضة والسنة، تأتي “الوطني” لتؤذن من جديد للصلاة، فيسارع الناس إلى تفقد التوقيت في ساعات أيديهم، قبل أن يضربوا كفاً بكف دهشة.
ويقول شاعر معركة الصريف، ماضي بن مفرج، وهو من الكنادر من العوازم: “كل شيٍّ (ن) طراته على حله… بدّلوا سير الأنضا بدرهامي”، يستحث أصحابه على الاستعجال فيقول “لذة الشيء أن يأتي في توقيته” ويطلب من أصحابه أن يستحثوا إبلهم “الأنضا” لتركض بدلاً من أن تسير على مهل. و”الدرهام” هو: جري الإبل.
وتطلب من “الوطني” تحديد موقفهم، فيجيبك أحدهم: “نحن نتلمس نبض شارعنا”، فتتلمس أنت معهم نبض شارعهم، وتقيس درجة حرارته، فإذا هو فرن يغلي غضباً على الحكومة، ودرجة حرارته تفوق بكثير درجة حرارة “الوطني”، فتتمتم: “إذا كانت ساعة يد (الوطني) متأخرة، وترمومتر (الوطني) غير دقيق، فالعلة إذاً في الأجهزة والمعدات”.
وتبدأ المعركة بين الحكومة والمعارضة، ويتكرر المشهد في صفوف “الوطني”… النائب صالح الملا، عضو “الوطني” وفارسها، يرفع بيرق الحرب على الحكومة، ويتقدم الصفوف، فترتفع إلى جانبه بيارق بيضاء، فيتوقف ليقنع زملاءه “القادة” بضرورة الحرب، ويتقدم مرة أخرى، فترتفع البيارق البيضاء من جديد، وهكذا، كل هذا والمعركة تدور بضراوة أمام أعين “الوطني”، والقتلى يتساقطون والجرحى يتكدسون كالتلال، والقوانين تتساقط كأوراق الشجر في الخريف، ونيران الفساد تنتشر وتلتهم مساحات أكبر، ووو…
وبعد أن ينصرف الجمعان تظهر بيارق “الوطني” من خلف الجبل، فإذا صالح الملا منهك بعد أن استنزف أنصاره كل لياقته التي صرفها على إقناعهم… وترتب “الوطني” صفوفها، وتقرع طبولها إيذاناً ببدء الحرب، فيمتشق النائب مرزوق الغانم سهماً من كنانته، ويضعه في القوس، ويطلق صرخته: “لا حييت إن حييتِ يا حكومة الفساد”، ويطلق سهمه، فإذا هو في كبد المعارضة، فينبهه زملاؤه: “هنا هنا يا أبا علي، في هذا الاتجاه لا ذاك”، فيطلق صرخة أخرى، ويمتشق سهماً آخر ويطلقه فإذا هو في عين المعارضة… وبعد أربعة سهام تنطلق من قوس مرزوق لتصيب المعارضة في مقتل، يطلق سهمه الخامس إلى قدم الحكومة، فيصرخ أنصاره: “سدد الله رميك”، وتتشتت المعارضة بين جبهتين، جبهة الحكومة وجبهة مرزوق الغانم.
ويتكرر المشهد، ويتبين للناس أن مرزوق الغانم، يحتاج، إضافة إلى صيانة ساعة يده وترمومتره، إلى صيانة بوصلته.
عينك على جارتنا
تغني سميرة توفيق لحبيبها، ويغني شبّان المعارضة الكويتيون لبعض وسائل الإعلام وبعض نواب الحكومة: “عينك على جارتنا… يا عيوني… والا عينك علينا”، وجارتنا هي المملكة العربية السعودية، وهي ليست جارتنا فحسب، فإيران والعراق جارتانا أيضاً، إلا أن العراق نهبنا وهتك سترنا، وإيران أرسلت إلينا بعض أنصارها الذين يحملون أشياء لا علاقة لها بالزعفران ولا “السكر نبات”، ولعبت مع ناقلات نفطنا، قبل الغزو، “لعبة اللبّيدة”، أما السعودية فقد حملت، أثناء لجوئنا إليها في أشهر الغزو، صحن عشاء أولادها وقدمته إلينا وهي تعتذر: “اسمحوا لي يا كويتيين على القصور”.
ومَن يطالب بتطبيق الدستور فإنما يطالب بالانقلاب على نظام الحكم، كما يروجون، مع أن المادة السادسة من الدستور، التي ينظر إليها البعض كالورم الذي يجب بتره، تقول: “نظام الحكم في دولة الكويت ديمقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعاً…”! ومن يطالب بتطبيق القانون فسيحشدون له قواتهم من بعض الإخوة الوافدين ليرددوا: “غير السوباح ما نبي”، وكأن المعارضة تطالب بحكم تيمورلنك أو جنكيز خان، أو أي شاب طموح من التتار.
وكنا ندرس في القاهرة، وكانت ليلة “مغبرة من أولها”، عندما تعرضت بنات أسرة كويتية لمعاكسات من بعض الشبان الصيّع، فتدخل الطلبة الكويتيون فزعة لهن، ودارت بيننا وبين الصيع حرب ولا حرب البسوس، استخدمت فيها الأسلحة البيضاء، من قبضات يد وشلاليت وأحذية وأحزمة وكل ما أنتجته مصانع الجلود، وأدرك الجميع يومها الفرق بين “الصناعة الإيطالية” و”صناعة كرداسة”. وكانت الحرب تدور على أساس “اضرب واشتم”، ضربة وشتمة والرزق على الله، وشاهدت بأم عيني اليسرى أحد الشبان الكويتيين يتعرض “للفغص” على يد أحد ثقال الأوزان المصريين، وكان الأخ الثقيل يشخر وكأنه نائم، ولا صوت يعلو فوق صوت شخيره.
وبعد برهة من الكر والفر والضرب والشتم والشخير، تدخلت الشرطة، وأنقذت صاحبنا المفغوص، وأنقذتنا من مخالب “يأجوج ومأجوج” الذين تكالبوا علينا لا أعلم من أين، وبدأ التحقيق، ومع أول جملة قالها أحد الشبان الصيع فغرنا أفواهنا (مع الخبرة عرفنا أن هذه الجملة متداولة في أوساط الصيّع، يتحججون بها كلما اشتبكوا في خناقة مع صيّع العربان!) وبدأ التحقيق مع أحدهم: “سين: اسمك ايه؟ جيم: فلان الفلاني… سين: ما أسباب الخناقة؟ جيم: سمعناهم يشتمون الريس ويشتمون مصر وتاريخها فدافعنا عن بلدنا وريّسنا وتاريخنا”، سمعنا إجابته من هنا، فصرخنا صرخة رجل واحد في التو واللحظة، وبحلقنا بحلقة رجل واحد، ولطمنا لطم رجل واحد، ورحنا نقسم بالله للضابط أننا لا نعرف تاريخ مصر كي نشتمه، وليس بيننا وبينه عداوة، لا هو ولا ريس مصر الله يحفظه، وشرحنا للضابط القصة، فتساءل: “طب فين هيّه العيلة اللي دافعتوا عنها يا (معتصم منك ليه)؟”، فأجبته بحكمتي المعهودة: “من أين لنا أن نعرف؟ انشروا إعلاناً في الصحف عنها”، فشخرَ لي شخرة مباركة، مصحوبة بجملة “بتهزّر يا روح أمك”، وتعرفت قبضة يده على معدتي، فتلخبطت لائحتي الداخلية، واختنقتُ، وزغللت عيناي، وانقطع صوتي العذب، فلم أتمكن من شكره على مجهوده، كان لساني يخرج ويعود خالي الوفاض، كأنه لسان ثعبان… وبعد اتصالات وخذ وهات أُخلي سبيلنا بتدخل من الشرطة العسكرية التي تفهم قياديوها عذرنا، وصدّقوا حجتنا.
الحجة ذاتها يستخدمها أنصار حكومتنا، فالتجمعات يراد بها تشويه تاريخ الكويت، وتنفيذ أجندة السعودية لوأد الديمقراطية، ومعارضة رئيس الحكومة تعني معارضة الحكم… ومؤسسات الدولة تشخر لنا، وتتعرف قبضتها على معدتنا، فنختنق، وتزغلل أعيننا، لكن صوتنا العذب لا ينقطع: وعينك على جارتنا، يا عيوني، والا عينك علينا… هالله الله.
القبّيضون للقبيضات.. والقبيضات للقبيضين
اختصاراً للوقت… أنت وراك شغل وأنا وراي وأمامي وبين يدي شغل. أنت مؤمن بهذه الحكومة وأنا كافر بها.
أنت ترى خصوم الحكومة من الغوغاء، وأنا أرى أنصار الحكومة من الهوهاء، أنت تقول إن خصوم الحكومة مدفوعون من الخارج، وأنا أقول إن أنصار الحكومة “مدفوعٌ لهم من الداخل”.
أنت تعتقد أن سمو رئيس الحكومة فند استجوابات المعارضة في جلسات الاستجواب السرية، وأنا أعتقد أنه “زاد الطين بلة”…
خلاص يا صاحبي، تعال أنت وأنا نجلس تحت ضوء الشمس، أو ضوء استوديو قناة فضائية، أي فضائية تشتهيها أنت، واحسب لي إنجازاتها وأنا أحسب لك كوارثها، والناس تسمع وترى فتحكم.
أو لتأتِ الحكومة برئيسها ووزرائها وقضها وقضيضها، لتقابل نائباً واحداً فقط، لها هي أن تختاره من بين نواب المعارضة؛ أحمد السعدون أو مسلم البراك أو د. فيصل المسلم، أو د. جمعان الحربش، أو عبدالرحمن العنجري، أو أو أو… وإذا قلت لي إن الحكومة تخشى من التجريح والبذاءات، فلكَ منا أن نصطف مع الحكومة ونرفع “بيرقها”، ونعمل سيوفنا في أجساد المعارضين، وأن تتفرغ نساؤنا لحذف الحصى من الشرفات على نواب المعارضة، في حال شتموا الحكومة أثناء الحلقة.
وإذا لم تشأ الحكومة المواجهة فلترسل نوابها بدلاً منها، أو حتى أنصارها من خارج البرلمان، وما أكثرهم… وبالمناسبة، قرّب لي أذنك كي أروي لك رواية حديثة طريفة، لها علاقة بما يجري على الساحة، رواها لي صديق يرتبط بأبطال الرواية أسرياً… الرواية تقول إن أحد الشبان، أو بالأصح أحد الرجال (بلغ الأربعين من عمره)، البعيدين عن السياسة، تقدم لخطبة سيدة مطلقة تنتمي إلى بيتٍ ذي وجاهة وواجهة، فأبوها من “كبار القوم” اجتماعياً. ولما علم الشقيق الأصغر للرجل الذي ينوي الزواج، تحدث مع شقيقه وحذّره: “صحيح أن خطيبتك من بنات العائلة الفلانية، إلا أن أباها وشقيقيها من النوع “الخانع الخاضع” للفاسدين في السلطة، يباعون ويشترون كالعبيد والجواري، ويتلقون الهبات والعطايا كي يهاجموا أبناء عشيرتهم المعارضين، تقرباً وتزلفاً للفاسدين المفسدين…
والخشية، يقول الشقيق الأصغر، أن يرزقك الله منها بأبناء يحملون “عرق الخنوع والخضوع” لكل ذي سلطة ومال… وراح يحسب له “مخازي” أهل العروس كما يراها ويفهمها، كون أخيه الذي ينوي الزواج مشغولاً بتجارته، لا يتابع الأحداث المحلية لا عن قرب ولا حتى عن بعد… وانتهى النقاش بأن اقتنع الأكبر بكلام أخيه “لأن العرق دساس”، وتكفل الشقيق الأصغر، الذي عرف كيف يدخل إلى قلب أخيه، بالبحث عن امرأة بديلة… ووجدها.
قلت لمحدثي الذي نقل لي الرواية: “القبّيضون للقبيضات، والقبيضات للقبيضين… والمعارضون للمعارضات، والمعارضات للمعارضين”.
وقلت: الحذر الحذر يا قوم، واخشوا يوماً تحبل فيه نساؤكم بنات الخانعين، فإذا الجنين في بطن أمه “قبّيض” يبحث عن “كبت أمه” وأقصى مطالبه “مطبة” في هذا الشارع، وفتحة استدارة في ذاك الشارع، ودعم أعلاف مع كل استجواب.
احذروا المطبات والأكبات ودعم الأعلاف… من حيث المبدأ.
مواري ربيعٍ عظيم
دوماً كان الربيع، بالنسبة إلي، ليس إلا “تمشية” لمرة واحدة أو مرتين في “المطلاع” و”الوفرة” وغيرهما من صحارى الكويت. وكنت أضحك حتى أختنق بدخان سيجارتي عندما أقارن ربيع الكويت وأمطارها بربيع أوروبا ولبنان وسورية ودول إفريقية وأمطارها. هنا تنبت شعرتان في رأس أرضنا الصلعاء فتزغرد فرحاً بهما ويرقص الناس ويرددون أهازيجهم، وهناك يطول شعر الأرض حتى يغطي خصرها وأردافها، ولا يهتم الناس.
وحده ربيع هذه السنة سيكون مختلفاً، سيكسو الكويت لسنين وسنين، سيكون شامخاً، شاباً، فاخراً… هو ربيع لا ينطلق من السماء إلى الأرض التي تنتظره مستجدية، بل من الأرض يحلق إلى السماء… هو ربيع مختلف في لونه وشكله ومضمونه… هو ربيع عظيم… هو ربيع مجنون، وما أحلى جنونه.
لحضوره رهبة وهيبة، أتحدث عن ربيع هذا العام، لحضوره صرخة وفرحة، يفرح به عشاق هذا البلد، وتهرب الزواحف وتختبئ في جحورها خشية الغرق في سيله الغاضب.
حتى نوافذ بيوتنا، المبللة بأمطار هذا الربيع، لن تجفف وجهها. قسماً لن تجفف وجهها من مياهه الطاهرة. وكان الله في عون فراشاتنا هذه السنة، أو هذا الربيع، من يخلصها من حيرتها وهي تتلفت بين الورود البنفسجية الفاتحة والحمراء القانية والصفراء الضاحكة والبيضاء المشرقة. ستحتاج الفراشات إلى وقت طويل كي تمرّ على كل هذه الورود، لكن أيها أولاً؟
أبطأتَ علينا أيها الربيع العظيم، أبطأت فجفّت كبود عشاقك، أبطأت فتكاثرت الزواحف في مدينتنا وصحرائنا، أبطأت فاصفرّ “الخضار”، ولولا علمنا بانشغالك هنا وهناك لما عذرناك.
وها نحن نحذرك، ربيعنا العزيز، لا تأتِ مستعجلاً وتذهب مستعجلاً، فبلادنا الجافة بحاجة إلى وقت قد يطول. ولا تلمها، فكم من السنين مرّت على الكويت بلا ربيع، بعد أن كان ربيعها يبهر وأرضها تسحر.
تعبنا أيها الربيع العزيز من الوعود الكاذبة لمندوبَيك، الرعد والبرق. كم من مرة ومرة أبلغانا قربَ مجيئك وطلبا منا الاستعداد لاستقبال موكبك، فهرولنا فرحين نبشر أرضنا التي تحتضر وتنازع الموت عطشاً، لكنك لا تأتي.
آهٍ، أيها الربيع، ما أجمل كلماتك التي استقيتها من القرآن، وآه ما أعظم القرآن ولغة القرآن، فبأي آلاء الربيع تكذبان.
هاهو الشعب يترك كل ما في يديه ويصلي صلاة الاستسقاء، ويبدو أن الله استجاب لهم بعد طول صبر، فبانت العلامات و”المواري”.
أحمد الحمود… المريض المتورط المتلبّس
هي وزارة الصداع لا شك. أتحدث عن وزارة الداخلية. حمانا الله وإياكم من طيشها و”نفشة” ريشها، ورزقنا الله وإياكم نقاءها وارتقاءها.
منصب وزير الداخلية يتطلب قدرات خاصة، كقدرات تلك السيدة التي ظهرت في فيلم هوليوودي تقود سيارتها هاربة من سيارة مملوءة بالأشرار تطاردها، وإلى جانبها يتمدد ابنها الذي يتأوه ويصرخ ألماً وينزف دماً من طلقة رصاص أطلقها عليه أولئك الأشرار، وكان عليها، أثناء قيادتها السيارة، أن توقف نزيف دم ابنها وأن تهدئ من روعه، وأن تتمالك نفسها، وألا ينشغل ذهنها عن الطريق، وأن تتخلص من الأشرار، كل ذلك في لحظة واحدة. وقد نجحت الممثلة، طبعاً برغبة المخرج والمؤلف، فهل ينجح الحمود أم يرفض المخرج والمؤلف؟
منصب وزير الداخلية، تحديداً، يُشترط ألا يتبوأه كائن لزج دبِق، مواقفه لزجة وتصريحاته دبقة. منصب وزير الداخلية، تحديداً، يجب أن يشغله سليل عنترة في الشجاعة، ولقمان في الحكمة، وأتاتورك في الحزم، وكيسنجر في الدهاء، وغاندي في السمو، وعبدالله السالم في حب الشعب.
وبعد غبار، وذات صحو، تسلم الشيخ أحمد الحمود “سيف” الداخلية، وهو رجل يحظى بحساب بنكي ضخم في قلوب الناس، يثق به الناس ويصدّقونه، خصوصاً عند مقارنته بـ”راعي السيف” السابق، وهو ما يُرجح كفة الحمود لا شك، دون حتى أن يبذل “عطسة” من مجهوده، فحساب الوزير السابق مكشوف على مصراعيه.
ورغم أن الحمود جزء من شجرة الحكومة التي تطرح حنظلاً أصفر، فإنه أحد الأغصان القليلة التي تطرح “الورد الجوري”، فما أغرب تلك الشجرة! ويقول القوّالة: “بما أنه قبِلَ الانضمام إلى تلك الشجرة فهو منها، فالجِذر واحد والماء واحد والنهج واحد”، وأقول أنا: “إلا الداخلية”، هي وحدها، على الأقل، يجب أن نعزلها عن بقية “الأغصان”، لأنها إن تلوثت ستلوّث بيوت الناس وغرف نومهم، وستتحول لحوم الناس إلى لحوم ظباء طيبة المذاق تلتهمها الضباع، وهذا ما يجعلنا نغض النظر عن خطأ “قبوله بالمنصب”.
دققوا في الأمر… فساد وزارة الخارجية أو التخطيط أو البلدية أو ما شابهها، يشبه الجرح السطحي، أما فساد وزارة الداخلية فيضرب الأوردة الدموية مباشرة. ثم إن فساد تلك الوزارات يجرح ويدمي، هذا صحيح، لكنه لا يميت، أما فساد وزارة الداخلية فيمكن أن يشعل حروباً أهلية في المجتمعات المفككة، ويمكن أن يفتح شهية المقابر.
نعم، أرى أن جملة “اجتماع الوزراء” خاطئة لغوياً، والأصح “استماع الوزراء”. بيد أن الحمود من الوزراء المصابين بمرضين اثنين، لا شفاه الله منهما، الأول “عدم قدرته على الاستماع إلى الأوامر الخاطئة الهوجاء لخلل في أذنه”، والثاني “آلام في أعلى الرقبة تمنعه من الانحناء”. اللهم لا تشفِ أذن أحمد الحمود ولا رقبته. آمين.
جاءوا إليه بطبيب أنف وأذن وحنجرة، وجاءوا إليه بمرهمٍ يليّن عظام الرقبة، لكنه يرد عليهم بأنه “معافى يطمر العرفج”، هنا مد أحدهم يده خلسة، مستعيناً بالظلام، وشقّ بالموس جيب دشداشة الحمود ليتسرب منه “رصيده الشعبي”، وحاصروه براً وبحراً وجواً كي لا يتخذ قراراته “الضميرية”، وصدرت الأوامر لمجاميع الذباب بالهجوم عليه، حاملة معها عدوى “الخضوع”.
هم يريدونه جثة بلا قرار، رفاتاً بلا إرادة، يجيد ابتسامة الخضوع، كالخادم يفعل ما يؤمر به، ونحن نريده فارساً يهز سيف القانون بقوة، فإن عجز فليهز استقالته، وليجمع حاجياته ومبادئه، على أن يتأكد من أن شيئاً منها لم يقع على الأرض، ثم يغادر… عزيزاً كريماً.
أحمد الحمود، متورط بمراعاة ضميره، وقد شوهد متلبساً يمارس الإصلاح في مكان عام، وهما جريمتان لا تغتفران، من وجهة نظر الشيطان.
ونطفئ النار بالنار
الكويت تشتعل يا صاحبي، بالصلاة على النبي، وكلما اشتعلت نار أطفأها “الحكماء” بنارٍ أشد منها وأنكى وأمرّ. وما تشاهده الآن هو نيران وهمية تشد الأنظار بعيداً عن النيران الحقيقية.
ولا أخفيك، قلت لصاحبي الذي سألني “وبعدين؟ متى تتفرغ للأدب الروائي وتغادر مدينة السياسة وضجيج مصانعها وقذارة أموالها؟”، أنا مثل تجار السلاح الذين تنتعش تجارتهم في أيام الحروب، ويلعنون كل “غاندي” يمشي على الأرض حاملاً غصن الزيتون، ويكرهون معاهدات السلام أكثر من أزواج أمهاتهم، هكذا تراني أنت، وهذا غير صحيح، فأنا أتمنى أن تخسر تجارتي، أتمنى أن أشاهد معاهدة السلام في الكويت، كي أغلق حانوتي وأتخلص من بنادقي، وأحمل مزودتي على كتفي وأتوجه إلى حيث أحب، إلى حيث أتمنى أن أكون، إلى حيث الأدب الروائي والشعر والجلوس على الشاطئ لمراقبة ملامح أمواج البحر، هذه موجة تحتضر وتلك تولد من صلبها.
وأقسم بالله، قلت له وأنا أضع يدي على قلبي كما يفعل عساكر التاج البريطاني عند أداء القسم، لولا خوفي على ما تبقى من وريقات شجرة الجمال الكويتية ما كنت بقيت في هذا الضجيج، ولما تصديت لكل هذه الأسراب المخيفة من الجراد التي تنوي الانقضاض على “شجرتنا”، صدقني ليس أمامنا إلا أن يحمل كل منا عصاه ويهرول مسرعاً للدفاع عنها، كما أزعم وأظن. وأرى أن ترْك “شجرتنا” عرضة لجحافل الجراد ليس إلا نذالة في أبهى صورة. ثم هل تعلم أنني لو أردت أن تنتعش تجارتي في ثوان معدودات لما عانيت، فليس مطلوباً مني إلا الصمت، الصمت فقط! الناس ترتزق من أصواتها كالفنانين والسياسيين وغيرهم، وأنا وأمثالي “كلامنا من فضة رخيصة، وصمتنا من ذهب”، آه لو أنك سمعت، وآهين لو أنك علمت.
وسأكشف لك سراً: “رغم أن السياسة هي منجم الذهب، إلا أنني أشعر بالغربة بين أوساط السياسيين، وأزورهم متثاقل الخطى، بينما أحتضن عشاق الأدب كلما شاهدتهم احتضان طفل للعبته التي وجدها بعد أن بكى كثيراً لفقدانها”.
وسأكشف لك سراً آخر: “جهتان تعنيان بالأدب راودتاني عن نفسي، وطلبتا مني هجر السياسة والتفرغ للكتابة الأدبية، وتعهدتا بتوفير مؤونة الرحلة ومطايا القافلة، وأنا، بينما هم يقولون ما يقولون، أجاهد كي لا تتسلل دمعة من بين أمهاتها المتحفزات وتقفز من عيني! كم أتحرق شوقاً لتلك اللحظة التي أعلن فيها مغادرتي مدينة “السياسة المحلية” وألوّح لأهلها مودعاً”.
ثق، أو لا تثق، لا شيء في هذه المدينة يثيرني، يكفي أنني أمشي فيها وأنا أضع أصبعيّ في أذنيّ وأحسب عدد خطواتي، وأنا رجل تنبت أزهاره من أمطار التسكع والفوضوية، آآآآخ ما أجمل الفوضوية يا صديقي، وما أحر زفراتي التي أطلقها وأنا واضع رأسي على فخذ فوضويتي وأصابعها تعبث بشعري.
افسح لي، يا صديقي، مكاناً إلى جانبك في روضة الأدب، فسآتيك قريباً حاملاً فوضاي بين يديّ، تجلجل ضحكاتي وتزلزل “سُبّع الأرض”، وإذا نشبت رجلي في مدينة السياسة فسأقطعها وآتيك أحجل على رجل واحدة، سآتيك لا ريب فقد مللت المدينة التي يندر فيها الفرسان، وتندر فيها الخيل، وتكثر فيها الضباع وبنات آوى.
هل قلت لي إن الشعر العربي قام على كتفيْ شاعرين، امرئ القيس والمتنبي؟ طيب ماذا عن أبي تمام وشعره الحداثي؟ ولماذا انتُقد وهوجم؟ ولماذا وُضع بعد ذلك في منزلتهما؟ حدثني فإني مستمع، وتعال نشعل السيجارة بالسيجارة، والقصيدة بالقصيدة، ولا نامت أعين الساسة…
للمجاهيم والعقبان… شكراً
عيدكم مبارك…
بكامل قواي العقلية، أو بما تبقى منها، أعترف أن نسبة الذوق ارتفعت بين أوساط بنيّاتنا في الكويت من جهة، ونسبة الفجور حلّقت من الجهة الأخرى. أو قل: “مجموعة من بناتنا ارتفعت نسبة ذائقتها وبالتالي جمالها، والمجموعة الأخرى ارتفعت نسبة فجورها وبلواها”.
وكنت جالساً مع خمسة وسبعين بالمئة من أبنائي، ثلاثة من أصل أربعة، نستريح في أحد المطاعم من عناء التسوق، وكنت بذهنٍ متناثرٍ كحطام طائرة، عندما مرت بنا قافلة من “المجاهيم” (مفردها المجهم وهو كل ذي لون أسود) صبايا يرتدين عباءات تخجل أمامها المايوهات، وتذكِّرها ملابس الإثارة المنزلية بتقوى الله، عباءات أضيق من قبر الكافر وأشد سواداً، لو شاهدَتها نجوى فؤاد لصرخت: “اللي اختشوا ماتوا”.
على رؤوسهن نصبن خياماً كخيام القبائل الإفريقية، وفي عيونهن رسمن كحلاً من الكربون يكفي لتحريك محطة قطارات، وعلى أذرعهن، المكشوف جزء منها، نقشن حناء كالثعابين الملتوية، منقبات ماجنات، طرقعة علوكهن تُسمع من به صمم، وكعكعتهن تصم آذان عمال المناجم… تتبعهن، إلى درجة الالتصاق، قوافل من الشبان العاطلين عن العقل، بعيون جائعة ومفردات صائعة ضائعة.
جلست القافلة السوداء على مقربة منا، فأحاط بنا الشبان كأسراب العقبان بعيونهم الجائعة ووجوههم المائعة. عقبان تمنّي نفسها بنهش الجثث المكسوّة بالسواد. لا شك أن الفراغ والبطر وما شابههما فعلت بهؤلاء وأولئك الأفاعيل.
فجأة، لا أعرف كيف سافر ذهني إلى لبنان، إلى حيث المقهى وتلك النادلة (الجرسونة) المراهقة، وزميلها النادل المراهق، وحديثهما لي في صباح باكر في يوم أحد عن حياتهما بعد أن توطدت صداقتنا، وعن دراستهما الجامعية، وعن اضطرارهما للعمل في المساء وأيام العطل لتوفير مصاريف الدراسة الجامعية.
صعقت عندما علمت لاحقاً أن الصبية ابنة أحد كبار تجار العقار، وأن والدها أجبرها على العمل لتصقل شخصيتها بنفسها وتصرف على نفسها بنفسها، تحت رقابته العاقلة، على أن يحمّلها (قلت يحمّلها ولم أقل يمنحها) مسؤوليات إدارة أحد أفرع شركته العقارية حال تخرجها من الجامعة.
عاد ذهني من سفره، وحطّ في المطعم حيث تجلس القافلة الماجنة على مقربة منا، فأمرت أبنائي أن يلملموا حاجياتهم بسرعة، وغادرنا ونحن ننفض عيوننا من كآبة المنظر.
في السيارة أطلقت حشرجاتي الغاضبة في وجوه صغاري: “أولئك النسوة أسأن للنقاب كما يسيء المشعوذون للحية، فلا تربطوا هذه بتلك”. ثم أصدرت أوامري المستقبلية: “سأتوقف عن دفع مصاريفكم حال دخولكم الجامعة، على أن أبحث معكم عن وظائف تؤمّن لكم أدنى مطالبكم، أما أنت – وجّهت حديثي إلى ابني الذي ينوي الدراسة الجامعية في الخارج – فستعقد صداقة حميمة مع الأطباق التي ستغسلها في المطاعم والمقاهي، وسأحتفظ لك بمصروفك الذي تمنحك إياه وزارة التعليم العالي إلى حين تخرّجك من الجامعة”.
كانت قرارات غاضبة صدرت مني كردة فعل على منظر الماجنات أولئك ومنظر العقبان، لكن من قال إن كل القرارات التي تُتخذ في لحظات الغضب خاطئة؟
رب ضارة نافعة، فبسبب ذلك المنظر الكئيب الذي حرك شياطين غضبي في المطعم، رسمت أول خطوط الحياة لأبنائي الذين يعلمون جيداً أنني أنفذ ما أقوله لهم.
أنا مدين لقافلة المجاهيم ولأسراب العقبان… شكراً أيها العاطلون عن العقل والعاطلات عن الحياء… شكراً كبيرة.
هنا زي هناك وأكثر
أشعر برغبة عارمة صارمة بتعلّم الكاراتيه، كي أعضّ بأسناني رقاب بعض الأخوة العرب الذين يتساءلون: “ما بال الكويتيين؟ ما الذي حدث لكويت الستينيات والسبعينيات؟ أين اختفت؟”… وكأنهم عميٌ لا يبصرون.
ويأتيني اتصال من زميل في قاهرة المعز: “فيه ايه يا عم وشيحي؟ مالكم مشبعتوش خناق؟”، فأجيبه: “نقاوم الفساد كما كنتم تقاومونه”، فيعلق: “بس احنا كنا غير، احنا كنا بنتسرق جهاراً نهاراً”، فأعلق: “ونحن كنا وما زلنا نتسرق الساعة العاشرة صباح كل يوم”، فيعلق: “بس احنا الحرامية بتوعنا كانوا بيسرقونا بحماية من الدولة”، فأعلق: “والحرامية بتوعنا بيسرقونا، والمطلوب منا توفير القفازات لهم كي لا تظهر بصماتهم فنكتشفهم، وأن نقف على رأس الشارع لنتأكد من خلوّه من المارة”، فيعلق: “طيب عندكو فضائيات زي اللي كانت عندنا بتمجّد في الحرامية”، فأعلق: “لا، عندنا فضائيات بتمجد في الحرامية وبتشتم في الشرفاء”، فيتحدى: “معلش، احنا غير، احنا كان عندنا أحمد عز مبهدلنا ومشغّل الدولة كاشير عند حضرتو”، فأتحدى: “احنا عندنا أحمدات يتنافسون على بهدلتنا، ويدّعون الحكمة والعقل، وعايزين أجهزة الدولة خدامة تمسح البلاط اللي بيمشوا عليه حضراتهم”…
“بص يا وشيحي، يقول بحماسة، الكدابين بتوعنا بيقولوا عن مصر انها فقيرة ومتشحتفة يا عيني ومحتاجة صدقات ولاد الحلال، وده مش صحيح، مصر غنية ومش عايزة حاجة من حد، وكان المسؤولين بتوعنا ببساطة يقدروا يخلوها قطعة من أوروبا، بس هي بقت فقيرة من كتر ما نهبوها”، قلت له: “بص يا شرقاوي، الكويت تملك أكبر ملاءة مالية في العالم، وكانوا بتوعنا ببساطة يقدروا يخلوها قطعة من الجنة، لكنهم سرقوها حتى أصبحت الكلاب الضالة تأنف من السير في شوارعها لشدة نتانتها”، قال: “كان أي واحد عندنا يحتج على الفساد بيضيع في الكازوزة”، قلت: “كان وما زال أي واحد عندنا يحتج على الفساد يروح في الرجلين”، قال بفخر: “بس احنا الحمد لله قدرنا نجمع كل الحرامية في السجن”، فقلت بقهر: “واحنا الحمد لله قدرنا نتجمع كلنا في السجن والحرامية بره”.
واستمر النقاش ولم ينته إلا بعد أن جعلته يعترف أننا “ولاد أيوب”، وأننا مقصرون، وأن صوتنا خفيض ويجب أن يرتفع أكثر.
فانتهزت الفرصة، أو “استنزهت الفرصة”، كما قالت إحدى المتصلات على الإذاعة، وقلت: “كل ما يحدث في الكويت اليوم هو أن هذه الديرة، ولله الحمد، مازال فيها من يحبها ويجلس تحت بلكونتها، لا ليحظى بنظرة منها أو التفاتة، بل ليصرخ في وجه كل من يقترب من خزانة ملابسها”.
قال: “طب يا عم فين القفشات بتعتك والضحكات والذي منه؟”، فأجبته بسؤال يحمل على ذراعيه الجواب: “وهل تجوز القفشات والضحكات في أوقات العزاء؟”.