محمد الوشيحي

2011 أوّاه

سيدة السنوات هي بلا منازع. كالعاشقة جاءت إلى عشيقها محملة بكل أنوثتها، وغادرته وفي قلبها غصة، وفي جسمها بقايا عطاء. الوقت لم يسعفها لتنثر كل ما لديها بين أحضانه. جاءت بعد 2010، السنة البليدة الكئيبة المظلمة الرطبة، ففتحت النوافذ وابتسمت في الضوء، وارتدت قميص حبيبها على جسدها العاري فكساها إلى نصف فخذيها، وربطت شعرها خلف رأسها، وأعادت تنظيف الصالة، ونثرت في الزوايا الزهور، ورشت العطور، وفتحت المذياع على صوت أم زياد: “تك تك تك يا أم سليمان، تك تك تك جوزك وين كان، تك تك تك كان في الحقلة، عم يزرع خوخ ورمان”، وراحت خطواتها تتكتك وتتقافز وتتراقص كعصفورة الحقل… حافية القدمين. 2011، آثار أقدامها وبقايا عطرها وصدى ضحكاتها، لن تزول… لن تموت. سيدة السنوات هي بلا منازع. دخلَت إلى قاعة الحفل دون أن ينتبه إليها أحد فصمت الضجيج، وأصدرت الأعين أوامرها إلى الرموش بنبرة قائد عسكري “ثاااابت”، فثبتت الرموش، وانسحبت الجهات الأربع، وباتت هي الجهة الوحيدة. كانت 2011 فاتنة الحفل، أو “فتنة الحفل” كما قال شاعر الجنون فهد عافت، في قصيدته التي صنفها البعض “أفضل قصائد الغزل في عصرنا الحالي” عندما وصف معشوقته وهي ترقص “ارقصي بين حد الذنب والمغفرة، وارحلي في سكونك واسكني في الرحيل / وارجفي كنّك* الماء فززته احْجرة، واثبتي كنّك الفضة بعين البخيل/ وانحني مثل غصنٍ في طرفْه اثمرة، واوقفي مثل فزعات ابدويٍّ أصيل / وإلفحي** علمينا كيف تقدر مَرَة، تزرع الليل صبح وتزرع الصبح ليل”! الله الله الله عليك يا عافت. 2011 أوّاه، وقفتُ أمامها كمصور محترف يجيد التقاط الصور، الثابتة منها والمتحركة، تراجعتُ خطوتين لأنتقي الزاوية الأجمل، وانحنيت إلى الخلف لأقيس المسافة الأفضل، فاحترت (أو كما في الفصحى… حرت)، قبل أن أرمي كاميرتي على الأرض وأركلها بكل طيشي، وأصفق على إيقاع خُطاها… وبالطبع، لا يمكن للمصور التقاط الصور ويداه تصفقان. 2011، مزّق العرب قميصها من دبر، لفرط حسنها، فمزقت هي قمصان الطغاة، وأسقطت تيجانهم، وأطفأت نيرانهم… وهربت تضحك بغواية. 2011، غادرتنا قبل أن نهز فناجين قهوتها، وغابت… ولا نامت أعين 2010 وما قبلها. * * * * كنّك: كأنك… والشاعر، لمن لا يتحدث الخليجية، يطلب من تلك الصبية أن ترتجف في رقصتها كما يرتجف الماء الذي رُميت فيه حصاة. ** إلفحي: هزي شعرك بقوة (طريقة رقص قديمة ما زالت موجودة)… وضعت الهمزة في كلمة إلفحي مضطراً لتوضيح طريقة النطق.

محمد الوشيحي

أنا قحطاني… وهذا طبّال

تماماً، كما نسمي “طبال الراقصة” ضابط إيقاع، و”الراقصة” فنانة استعراضية، و”الخادمة” مديرة منزل، مراعاة للذوق العام ولنفسيات أصحاب هذه المهن، كذلك نفعل مع “الأغلبية الجبانة”، أو “الأغلبية المتواطئة”، أو “الأغلبية الأنانية”، عندما نسميها “الأغلبية الصامتة”. فإذا كنتَ واحداً من هذه الأغلبية فاختر ما يناسبك من التسميات الثلاث الحقيقية، مواطن متواطئ أو جبان أو أناني نذل، ومبروك عليك، وبالهناء والشفاء. وكلما ازدادت نسبة الأغلبية الصامتة في المجتمعات ازدادت معها نسبة الفساد واللصوصية والطغيان. فالأغلبية الصامتة هي الشمس التي تمد مزروعات الفساد بالطاقة. وتناقش أحد أعضاء هذه الأغلبية عن الفساد المستشري الذي سيُهلك الناس، وتطلب منه الخروج إلى التجمعات الرافضة للفساد، فيرد عليك: “يا عمي وأنا شعَلَي؟”، أي “وما دخلي أنا؟”، أو “أنا الحمد لله في نعيم مقيم”، أو “لن تتغير الأوضاع بخروجي فالدنيا ليست متوقفة علي، أنتم فيكم البركة”… وهو بهذه الإجابات حقق المعادلة الكاملة وجمع الخزي من جميع أطرافه، إذ كشف عن جُبنه وتواطئه وأنانيته في جملة واحدة. ولفرط جبن هذه الأغلبية، ولفرط رخصها ومهانتها، استطاع كل عابر سبيل أن يمتطي ظهرها ويدلدل رجليه ويرفع سبابة التحذير في وجوه خصومه ويصرخ: “أنا هنا أمثل الأغلبية الصامتة”. هي هكذا، فالأمر أقل من أن يحتاج إلى توكيل، ولن يعترض أحد من هذه الأغلبية الجبانة السائبة. وفي الوقت الذي تتحمل فيه الجموع الأوروبية مسؤولياتها وتخرج في مظاهرات لنصرة “كوكب الأرض” ضد التلوث، وتخرج الجموع الأميركية في مظاهرات لإيقاف الحرب على العراق أو أفغانستان في أقاصي آسيا، نرى كيف تلتحف الجموع العربية بالبطاطين وتتوسد ريش النعام وتصمت عن الفساد على الرصيف المقابل، خوفاً وطمعاً وتواطؤاً… باعتبارها “الأغلبية الصامتة”… جتكم الخيبة على رأي إحسان عبد القدوس. ولحكمته سبحانه خلقني عربياً، أعيش وأتكاثر بين العربان، حيث ينتشر الجبن والأنانية والنفاق والتفنن في الاستعباد! وليتني عربي فحسب، لا، بل من العرب العاربة لا المستعربة، ومن قحطان تحديداً أصل العربان، أي من عمق العمق ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولو أردت أن أنسلخ من عروبتي، أو جبني ونفاقي وأنانيتي، ما استطعت، فدخول العروبة ليس كالخروج منها. ويا بخت المصريين الذين إذا أرادوا العروبة “تعربنوا” وإذا أرادوا التخلص منها لملموها في كيس أسود ورموها من شرفات منازلهم لتتكفل بها البلدية. ومع قحطانيتي أرى أن التسمية الحقيقية لضابط الإيقاع ليست “طبال الراقصة” بكامل جسدها، بل “المسؤول عن حركة أقدام الراقصة” أي أنه “طبّال القدَم”، وأرى أن الأغلبية الصامتة أغلبية جبانة خسيسة رخيصة.

محمد الوشيحي

بو رمية… في البر والبحر

سامح الله “ضيف الله بورمية”، النائب السابق والمرشح الحالي، فقد بدا لي باليقين القاطع ألا علاقة له بـ”الفِلاحة” ولا الزراعة إطلاقاً. فالفلاحون يملكون صبر البحارة وأكثر. يراقبون مزروعاتهم تكبر يوماً إثر يوم إلى أن تستوي ويحين قطافها، قبل أن يمدوا أيديهم إليها بحنان أم على خد وحيدها الذي تعافى بعد طول مرض، يمسحونها ويغسلونها ويقبّلونها. وأخونا “بورمية” شريك لنا في البستان، لكنه لم يُطِق صبراً، فقطف تفاح بستاننا قبل أن يستوي، وحمله إلى السوق، فأساء، بغير قصد، لسمعة البستان، ودمّر حصاد موسمنا. أخونا بورمية هدد رئيس الوزراء الشيخ جابر المبارك بالزلازل والبراكين إن هو “وافق” على خوض “محمد الجويهل” غمار الانتخابات. يا عزيزنا بورمية لا تستعجل، فالحكم القضائي الصادر بحق الجويهل يقرأه من في عينه رمدٌ ومن في أذنه صممٌ ويفهمه حتى من في عقله ورمٌ، ثم إن باب التسجيل لم يغلق بعد كي تباشر لجنة فحص الطلبات أعمالها، فتسمح بعبور هذا وترفض عبور ذاك، بل أزيدك من الشعر بيتاً، حتى إنْ سُمِح للجويهل بالترشح وخوض الانتخابات، بل حتى إنْ حالفه الشيطان وأبناء الشيطان ونجح في الانتخابات، فسيتقدم الناس بالطعن في عضويته، وبالتأكيد ستسقط عضويته استناداً إلى الحكم الصادر في حقه (بالمناسبة، مضمون الحكم الصادر في حق الجويهل، الذي يحرمه من الترشح، يرتكز على أنه لا يتولى المناصب القيادية، ومنها عضوية البرلمان، مَن عُرِف عنه بذاءة القول وسوء السمعة، وهو ما دفع المحكمة عام 2008 إلى رفض الطعن في حرمانه من خوض الانتخابات عامذاك، معززة حكمها بمنطوق الأحكام الصادرة في حقه). بورمية وضع رئيس الوزراء في خانة ضيقة للغاية، فالرئيس سينفذ القانون، بالطبع، وقد يمنع ترشح الجويهل بناء على مضمون الحكم القضائي، لكنه بهذا سيظهر أمام الناس وكأنه أذعن لمطالب بورمية، وهو ما لا صحة له. يا أخانا بورمية، لن أشاركك بعد اليوم في أي مشروع كان، إلا مكرهاً، ما دام نهجك هو الاستحواذ على الأرباح وحدك، حتى لو خسر المشروع. نحن نعلم يا بورمية أن الانتخابات بحر متلاطم الأمواج، لا يعبره إلا المراكب ذوات الأشرعة المتينة، وندرك أن على المرشح أن يتبنى قضية تلامس قلوب ناخبيه فيرفعها شراعاً، كـ “قضية القروض”، مثلاً، وهي القضية التي رفعتها شعاراً فأصبَحَت شراعاً لمركبك، دفعَته في لُجَج البحر الأحمر غرباً، إلى أن أوصلته إلى أرض الكنانة، وقبة البرلمان. ونعلم أن شعار تلك الحملة، أو شراعها، قد تمزق، وأنه يلزمك شراع آخر يدفع مركبك، وليس أجمل ولا أكبر من شراع عضوية هذا الجويهل. نعلم كل ذلك، لكن المروءة، وأنت لا تخلو منها بالتأكيد، توجب عليك التعامل مع قضية كهذه بحصافة القباطنة الهنود، فلا تغرق المراكب لينجو مركبك وحدك. ثم دعني أهمس في أذنك كي لا يسمعنا إلا الأرض ومن عليها: “المسألة، كما أبلغني بعض القانونيين، مسألة وقت ليس إلا، وسيُرفض ترشيح الجويهل… فاطوِ شراعك هذا يا أبا خالد، وابحث عن شراع آخر”. يا أخانا الطبيب بورمية، فلّاح أنت في براري السياسة وبحّار في بحورها، لكنك في القضية هذه لا فلاح ولا بحار، فلا تُفسد الحصاد ولا تُغرق المراكب… يرحمنا ويرحمك الله.

محمد الوشيحي

فضفضات بدوي

كما هي مدينتي/ موطني الكويت مدججة بالفوضى في كل زواياها، أعيشُ مدججاً باللخبطة وبتراكم الأفكار غير المرتبة في كل زواياي.
غداً سأموت، أو بعد غدٍ، على أقصى تقدير وأبعد تفاؤل، فهل جازيت مدينتي بما جازتني به؟ هل سأموت مرتاحاً؟
كنت صغيراً أعيش في منطقة تقع قريبة من الاهتمام، اسمها “العمرية”، وغادرتها صغيراً، قبل أن أعرف العشق والحرف، إلى منطقة تقع خلف الاهتمام، اسمها “الصباحية”… وفيها تعلمت الهوى ومداعبة خصلات شعر تلك الصبية، وتعلمت الصياعة، والتدخين في الأماكن القصية بعيداً عن الشمس التي تشهد جلودنا على حضورها وغيابها، وتعلمت التحدي، وتعلمت الجري حافي القدمين، وتعلمت الكويت.
وُلِدتُ لأبٍ من النوع الذي يجب أن تقرأ الوصايا العشر قبل أن تجالسه، كان الفارق في السن يناهز الستين سنة والستين ثقافة والستين مبدأ والمليون أولوية، فلا ترفع كم ثوبك في حضرته، ولا تجلس، إذا جلست، إلا متأهباً لتلقي أوامر كبار السن، ولا تتحدث إلا عندما تُسأل، ولا تطل الإجابة، ولا تقهقه فالقهقهة للرعاة والعبيد، الابتسامة تكفي وتزيد، ولا تزحم المكان، ولا ولا ولا… كان ينثر لاءاته الناهية التحذيرية ببذخ، وكنا، أخوتي وأنا، نذعن بإتقان، فلا مجال للتحايل على لاءاته أمام حاجبيه المتحفزين على الدوام، إلا ما ندر… كان يرعب شوارع المنطقة فكيف بمن يشاركه البيت.
قال يوماً: “لن نجزي الكويت حقها ولو “حججناها” على ظهورنا… نقلتنا من الخيام والجوع إلى البيوت والشبع”، ومن يومها وأنا أهيم عشقاً بتلك الكويت التي آوت والدي وأشبعته. وقال ذات طريق سفر: “لا ينكر معروف الكويت إلا خسيس”، ومن يومها وأنا أخشى أن أكون خسيساً.
قد أكون أغضبت الكويت، من جملة من أغضبها من أبنائها. لا أعلم. الأكيد أنني كلما رأيت من يتكفل بإحضار الماء من البئر وحباله قصيرة، صرخت: “حباله قصيرة لن تصل إلى الماء… ستموت الكويت عطشاً”.
قد أكون أغضبت الكويت، من جملة من أغضبها من أبنائها، لا أعلم. الأكيد أنني أغضبت أقربائي لأرضيها، وخاصمت سراق الربيع والمطر ليعيدوا إليها ربيعها ومطرها… قال السراق ذات إغراء وإغواء: “المطلوب هو صمتك فقط، ولك منا ألا تستنشق إلا رائحة الخزامى البرية، وألا يبلل كفيك إلا قطرات مطر نقية، وألا يملأ بساتينك إلا فراشات ملونة، أو فلتحسب حساب الجراد”… وحسبت حساب الجراد.
عذراً يا كويت إن كنت أغضبتك أو ساهمت بجزء من الفوضى، من غير قصد… يشهد الله أنني لم أقطع عرقاً كويتياً بسيف: “من أنتم؟”، ولم أسع يوماً إلى نهش لحمك تحت شعار: “نريد أن نأكل معكم”، ولم أفاخر يوماً أن آبائي، أيام الغبار والدم، كانوا من بين جنودك الذين رفعوا “بيرقك”، في وقت كان فيه آباء البعض يجلسون على الموائد يتقاسمون “الذبيحة”… وكان نصيب أولئك الغبار والدم، ونصيب هؤلاء الذبيحة.
عذراً يا كويت فقد أصررتِ – أنتِ – على أن أكون “حضرياً”، وأصررتُ أنا على أن أرد جزءاً من جميلك بـ”بداوتي” وفوضويتي، كي لا أكون خسيساً في عينيك وعيني المرحوم… والدي.
عذراً يا كويت… وماري كريسميس.

محمد الوشيحي

الضفدع والأكواب الثلاثة

سابقاً، كنا وكانت حدس (الحركة الدستورية الإسلامية… ممثل الإخوان المسلمين في الكويت)… كنا لا ننام إلا بعد أن نغلق أبواب بيوتنا ونتأكد من إحكام إغلاق نوافذنا، خشية مرور “حدسي” متلثم. كنا كلما زارنا حدسي تحسسنا مسدساتنا، وكلما غادر تفقدنا أصابعنا وأشياءنا، وحمدنا الله إذا لم نفقد شيئاً منها. كنا نتناصح “إذا كنت رئيساً لموظف حدسي فابحث لك عن منصب آخر، فالحدسي سيقفز قفزة الضفدع الجسور ويتجاوزك، فتحزن فتُضرب عن الطعام فتجوع فتموت مقهوراً مدحوراً مكسورا… رحمة الله عليك”. كنا وكانت حدس تلاعبنا ألاعيب الحواة، تُمسك الأكواب الثلاثة المقلوبة على الطاولة وفي إحداها كرة صغيرة، وبسرعة تبدّل مواقع الأكواب، ثم تسألنا: “وين الكرة يا شطار؟”، فنجيبها ببراءة: “في الكوب الأوسط”، فتبتسم لنا بخشوع وهي تجمع فلوسنا: “للأسف خسرتم، كانت الكرة في الأيمن”، وكانت الحكومة هي التي توفر لها الأكواب والكرة وتحشد لها الجمهور: “قرّب قرّب بص بص”. وتباعدت المسافات بيننا وبين حدس، وطلّقنا بنتهم وطلّقوا بنتنا، وبعد أن كانت إبلنا ترعى في رياض حدس بلا حماة لاعتقادنا بورعها، أعدنا إبلنا إلى رياضنا وطوّقناها بخيرة فرساننا ليحموها من غدر حدس، وبنينا سياجاً بيننا وبينها أمتن وأطول من سور الصين العظيم. ودارت الأيام ومرت الأيام ما بين بعاد وخصام، كما تقول أم كلثوم بلسان مأمون الشناوي، إلى أن ظهر في ديار حدس رجل اسمه “جمعان الحربش”، يحمل سحنة الصدق وملامح الطمأنينة وغضبة بني وائل، يقود مجموعة من الشبان الغاضبين، فاقتحم بهم خيمة القيادة، فكسروا الأكواب ورموا الكرة، وهدموا السياج، وأرسلوا إلينا: “هاتوا إبلكم إلى رياضنا بلا حماة، نحن حماتها، وهاكم امرأتكم وأعيدوا إلينا امرأتنا حفظاً للشمل”، قبل أن يحتذوا بالأديب الفرنسي “دوما” فيمزّقوا مؤلفاتهم المخادعة ويشرعوا في كتابة مؤلفات جديدة، وانتزعوا حدس من أحضان الحكومة ليعيدوها إلى أحضان الناس. هنا، استقبلنا جمعان وجيشه الشاب وحدس بالأحضان، وأكملنا قصيدة مأمون الشناوي: “وقابلته، نسيت إني خاصمته… ونسيت الليل اللي سهرته، وسامحت عذاب قلبي وحيرته… معرفش ازاي أنا كلمته”. وولدت حدس جديدة، صادقة واثقة، وماتت حدس القديمة ذات الغمزة واللمزة، لكن روحها مع الأسف الحارق والألم الخارق انتقلت إلى جسمين سياسيين آخرين، متناقضين، “التجمع السلفي” و”التيار المدني”.* وفجأة… أطال التيار المدني لحيته وقصّر ثوبه وحمل مسبحة حدس القديمة ورسم على جبهته زبيبة تشبه زبيبتها، قبل أن يتبنى سياسة “الضفدع الجسور” الذي يجيد القفز إلى المناصب بنظام “هوووبّا”!  في حين قصّر التجمع السلفي لحيته قليلاً، وأطال ثوبه قليلاً، ليتشابه شكلاً ومضموناً مع حدس القديمة، قبل أن يضع أكوابه الثلاثة مقلوبة على الطاولة، ويطلب من الحكومة الصراخ في السوق: “قرّب قرّب بص بص”. ونحن إذ نتابع ما يفعله “التيار المدني” و”التجمع السلفي” نقول: “رحم الله (حدس)، فقد كانت أكثر حياء”… نقول ذلك ونحن ننتظر ولادة “جمعان” في كلا التيارين السياسيين، يكسر الأكواب ويقتل الضفدع.

* الحديث هنا عن جزء من التيار المدني وجزء من التجمع السلفي.

محمد الوشيحي

الصديقان المتناقضان… السعدون والبراك

إذا كان سيف عنترة “يداوي رأس من يشكو الصداعا”، فإن صفحات الثقافة في جريدتي “الجريدة” و”القبس” تداوي ذائقة من يشكو الغثاءَ.
وكنت قد قرأت في جريدة “الجريدة” مطلع هذا النهر الجاري، أو الشهر الجاري (أحب ديسمبر لأنه شهم، فهو المسؤول عن بقية الأشهر، يلملم أغراضها ويتفقد المكان بعد مغادرتها خشية نسيان شيء مهم، ولا يغادر المكان إلا بعد أن يطفئ الأنوار ويغلق الأبواب ويشكر مضيفيه… شهر يتحمل المسؤولية ويستحق التقدير)، أقول قرأت في هذا الشهر الشهم، في هذه الجريدة، عن كتاب “رجال الشرفات” الذي صدر حديثاً لبنت مدينة عاليه اللبنانية منى خويص، فوضعته في قائمة “الكتب المطلوب قراءتها”، وقرأت ملخصاً عنه في مقالة سمير عطا الله (بالمناسبة، لماذا لا تُكتب هكذا “عطاء الله”؟ أفتونا يا أهل اللغة).
الكتاب يتحدث عن الزعماء ذوي الخطابات الجماهيرية التي يلقيها من الشرفات زعماء تاريخيون أمثال موسوليني وهتلر والقذافي وغيرهم، وكيف أن خطاباتهم خاوية لا مضمون لها، وكيف يفعلون بخصومهم، حيث لا يقبلون الرأي الآخر، وما شابه.
وكنت أتحدث مع صديق “حكومي أنيق” عن الكتاب فقهقهَ: “مسلم البراك هو الوريث الشرعي لهؤلاء” يقصد موسوليني وهتلر والقذافي وأمثالهم، وأكمل: “لو عاش البراك في أوروبا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي لحكمَ دولة أوروبية وقادها إلى الحروب وأهلك الأرض” قلت: “سأرد عليك” فقاطعني: “طبعاً سترُد… فعين الرضى عن كل عيب كليلة”، فأكملت: “عين الرضى، عين السيح، عين الحسد، لا يهم، المهم أن البراك عاطفي بطبيعته، البراك رجل غارق في المروءة، وهذا قد لا يلفتك للوهلة الأولى، لكنك لو تفكرت لأدركت مغزى حديثي”.
على أن أكثر ما يحيّرني هو “الالتصاق السياسي” بين الزعيم أحمد السعدون والملهم مسلم البراك، رغم اختلاف الأسلوب، بل تناقضه، وتضاده. فالأول يرسم الخطوط العامة، ويجد الوقت للتوقف عند التفاصيل، والثاني لا يلتفت إلى التفاصيل بتاتاً ولا يعترف بوجودها. الأول دقيق والثاني فوضوي. الأول عقلاني والثاني عاطفي. الأول إذا رآك تغرق في حمام السباحة فسيبحث عن طوق نجاة لك مستعيناً بعقله وتماسكه وسينقذك قبل أن تموت بثانية واحدة، أماالبراك فسيرمي عقله قبل أن يرمي نفسه خلفك مباشرة بلا تفكير، فإما أن تغرقا معاً أو أن تنجوا معاً.
البراك يخاطب الجماهير وينهضها من مقاعدها لتسير “سكرانة” في الاتجاه الذي يشير إليه، لثقتها به، والسعدون يخاطب السلطة من خلال الجماهير، فينهضها من أسرّتها مرعوبة لتعقد اجتماعاتها. وإذا كانت الجماهير تفتح أفواهها دهشة وإعجاباً أثناء خطابات البراك، فإن السلطات تفتح دفاترها وأذهانها وتمسك أقلامها بأيدٍ مرتجفة عندما يبدأ السعدون خطابه، فخطابه يحمل رتبة “المخيف الركن”.
وباتحاد هذين الزعيمين، وبتبادلهما المهام، تسقط حكومات وتولد أخرى، يدرك ذلك خصومهما قبل أنصارهما. واحد منهما كان يكفي ويسد حاجة شعب كامل، وقد اتحدا، بقدرة ربك. بينهما يتلفت الفاسدون كما يتلفت جمهور “التنس”، يميناً ويساراً، مع حركة الكرة وهي تنتقل بين بطلي العالم، وفي نهاية المباراة يفوز اللاعبان والشعب ويخسر الفساد والفاسدون.
السعدون والبراك أثبتا بالملموس كذب المقولة العربية الجبانة “الكثرة تغلب الشجاعة”… وأثبتا صدق مقولتي التي لا أمل ترديدها: “التعسف في الفساد يحتاج إلى تعسف في المعارضة… تطبيقاً لقانون نيوتن”.

محمد الوشيحي

:الحروف… تنفجر أحياناً

يغني العاشق الأكبر، نزار قباني، في رائعته “من مفكرة عاشق دمشقي”: “ما أجبن الشعر إن لم يركب الغضبا”، وأغني أنا بعد التحريف والتصريف: “ما أجبن الحرف إن لم يُسقط الرتبا”.
ويقول العارفون: “الخارق، هو من يخرق قوانين الطبيعة”، فالطبيعة، وهي الطبيعة، لن تحترمك إن أطعتها وأذعنت لأوامرها وانقدت لها كالخروف. خذها مني، الطبيعة امرأة، والنساء لا يلفتهن الباحث عن رضاهن. الطبيعة تبحث عمن يهز كتفيها، فهزهما كي تهتز لك، وإذا أردت تقبيل عنقها فلا تحشر رأسك بين رقبتها وحنكها، بل شد شعرها ليرتد رأسها إلى الخلف وينفتح “ملعب العنق” أمامك لا أم لك. الطبيعة أنثى، والأنثى تبحث عمن يُشعرها بأنوثتها، ولا تشعر الأنثى، السوية، بأنوثتها إلا في حضرة “المتمرد”.
اكسر واجرح وانزع وامزع وعالج وافعل كل ما هو غير عادي، فإذا لم تُغضب هذا وتُفرح ذاك، وتُبكي هذا وتُضحك ذاك، فلا تُتعب الأقلام ولا تزحم الأوراق ولا تشغل الحروف.
التفت وراءك إلى التاريخ واسأله: “هل خلّدت (العاديين)؟” وسيجيبك مستنكراً: “لا وقت لدي للحشو”.
تطرق أذنيك عشرات الآلاف من القصائد، ولا شيء منها يبقى ويستقر، كلها تمر كما تمر القوافل، باستثناء “القصائد المتمردة”… وتملأ عينيك ملايين المناظر، ولا شيء منها يبقى ويستقر، كلها تمر كما تمر السيارات على الطريق العام، ما عدا المناظر الخارقة… تدخل في حياتك عشرات الصبايا، ولا واحدة منهن تبقى وتستقر في ذهنك، إلا “الصبية غير العادية”، تلك فقط، لا غيرها، تبقى وتُبقي مكانها محجوزاً خلفها في الذاكرة والوجدان، لا تسقط بالأقدمية… وتمتلئ الصحف بالأخبار والمقالات، ولا شيء منها يبقى ويستقر، ما خلا “الأخبار الثائرة والمقالات المتفجرة”.
وعودة إلى نزار وقصيدته ذاتها، عندما يعلن فيها بصيغة السؤال، وهو يحض العرب على حمل البنادق لا الكتب دفاعاً عن فلسطين: “متى البنادق كانت تسكن الكتبا؟”، سامحك الله يا نزار، كل هذه الدماء التي تسيل من الحروف لم تلفتك؟ كم من كتاب متفجر، وكم من كلمة متشظية، وكم من سطر حارق، وكم من حرف خارق، وكم من فاصلة فاصلة، كل هذا لم يُثِرك؟ ليتك سألت كتبك وكلماتك وحروفك وفواصلك، أو كتب أحمد مطر وكلماته وأبياته وحروف قصائده قبل أن تكتب هذا الشطر.
أيا نزار، إن لم تكن تعلم فاعلم أن “أبا نواس” لم يكن ليخلد في أذهاننا لولا حروفه وقصائده، وهو الوقح الشاذ الشحاذ، الذي وُلِدَ لأم بغيّ، وترعرع بين العاهرات وفتيات الليل اللواتي كانت أمه تجمعهن في بيتها للباحثين عن المتعة بمقابل، وانتسب – أبو نواس – لأبٍ لا يُعرف أبواه، وأدمن الخمر ووو، ولا مبادئ له ولا أخلاق، ومع ذا هو خالدٌ في أذهان أهل الأدب وسائر العرب، فقط بسبب حروفه وكلماته، في حين تلاشى الملايين من حملة البنادق.

محمد الوشيحي

السعدون والخرافي والصقر

قصتي مع الزميل محمد الصقر، النائب السابق وناشر هذه الجريدة، ليس لها أن تمر إلا من خلال رئيس التحرير خالد هلال المطيري، عندما اتفقنا أو قل «توافقنا» على أن أحمل عمودي الصحافي و»أركزه» هنا.
يومذاك، كانت سفننا تبحر في الاتجاه ذاته، كما يقول الطليان. صحيح أن رؤانا السياسية وآراءنا ليست «توائم» تحمل ملامح متطابقة لكنها كانت تحمل «سحنة» واحدة، وكانت شجرة الاتفاق السياسي بيننا أكبر من «شجيرة» الاختلاف، وكانت ليالينا «مغنى ورقيص» كما يقول السودانيون… لكن سرعان ما تغيّر اتجاه الريح، وتغيرت ملامح الرؤى والآراء، وكبرت شجيرة الاختلاف السياسي وتطاولت على شجرة الاتفاق، وتوقفت طبول «الرقيص» عن القرع، وبدأت مرحلة جديدة، مرحلة تبادل إطلاق النار بيننا، أو بصورة أدق وأصدق «مرحلة إطلاقي النار على أنصار محمد الصقر السياسيين».
هنا أيقن أبو عبدالله، محمد الصقر، أن مقالاتي لم تعد، ولن تكون بعد اليوم، برائحة المسك الأذفر ولا بنكهة الفراولة التركية منذ اللحظة، وعليه أن «يتجرعها» كما يتجرع المريض الدواء المر، فيغمض عينيه ويهز رأسه لشدة مرارتها قبل أن يتمضمض ليزيل طعمها من فمه. وتساقطت على الصقر قذائف العتب واللوم من أصحابه وأقربائه السياسيين الذين طالتهم سهام نقدي، فكتب مقالتين يبرئ نفسه فيهما، ويعلن ألا علاقة له بما يُكتب في المقالات والأعمدة، لكن أحداً لم يقبل العذر، فبدأت «مرحلة الجمارك»، وصدرت الأوامر بأن تتوقف مقالاتي على الحارة اليمنى لمزيد من التفتيش والتدقيق قبل العبور، وبدأ البحث عن «أدوات التجريح» و»مواد التقريع» وغيرها من «الممنوعات»، مع التغافل المتعمد أحياناً والسماح بمرور بعض الكميات الصغيرة «للاستعمال الشخصي».
وكان الشعار الذي رفعه الصقر هو «لك أن تنتقد أقربائي السياسيين – يقصد كتلة العمل الوطني – ورئيس الحكومة كما تشتهي، لكن دون أن تريق دماءهم أو تشوه وجوههم… استخدم الكتف القانوني»، وكان شعاري «إذا ضربت فافصل»، فكتبت مقالات هجائية عدة ضد كتلة الوطني، آخرها مقالة «تكتل صاهود»، في حين تفرغ أبو عبدالله لقراءة «سيرة أيوب» عليه السلام… والشهادة لله وللتاريخ، لم أكن أتوقع مرور بعض المقالات فخاب توقعي.
واليوم يتحدث ركبان القوافل عن «المعركة المنتظرة» على رئاسة البرلمان، بين أحمد السعدون ومحمد الصقر، دون أن يعلن أيّ من المتنافسين ذلك… ولأنني من عشاق الحروب، ولقناعتي بأن السعدون هو الأجدر، فسأقف معه بكل ما أستطيع، ولولا الحياء الأدبي لوجّهت منجنيقي على حصون محمد الصقر لأدكها قبل أن أبعث بطاقات دعوة إلى قبائل الغربان لتحوم فوقها.
ولو كانت المنافسة على الرئاسة بين محمد الصقر وجاسم الخرافي لارتديت حزاماً ناسفاً واقتحمت «موكب الخرافي» دفاعاً عن الدستور لا عن الصقر، ومع ذا… ما بذله محمد الصقر في دفاعه عن الدستور، كما أرى، لا يعادل حمولة بعير في قافلة أحمد السعدون، لذا فالسعدون هو الأحق، لا شك في ذلك ولا عك.

محمد الوشيحي

أسعار القبائل

إذا كان أمراء قبيلة “سبيع” الكريمة هم عائلة “أبو اثنين”، فإن بعض المرشحين حصل كل منهم على لقب قريب له في الشكل بعيد في المضمون… “أبو ثنتين”.
والأمر ليس مقارنة، يكرم “أبو اثنين” عن “أبو ثنتين”، فـ”أبو اثنين” حاز المجد والشموخ، و”أبو ثنتين” جمع خصلتين لا يجمعهما إلا وضيع، عندما قرر خوض الانتخابات الفرعية باستخدام المال السياسي وشراء أصوات أقربائه وأبناء عمومته من جهة، واستعداده لبيع أصواتهم في البرلمان لمن يدفع أكثر من الجهة الأخرى.
كل شيء عند “أبو ثنتين” قابل للشراء والبيع، فالدنيا بقالة، والمبادئ معلبة ومرصوصة على أرفف أو محفوظة في الثلاجة وعليها “تسعيرتها”، والدَّين ممنوع والعتب مرفوع.
وخذها مني واحفظها عندك: “كل من يشتري الأصوات اليوم يبيع صوته غداً، كبر منصبه أو صغر”. ولا أتألم إلا عندما يعلن “شاري الأصوات” خوضه انتخابات “فرعية القبيلة”، إذ يعني ذلك أن القبيلة التي ينتمي إليها فيها من “بائعي أنفسهم” ما يكفي لإنجاحه، أو هكذا يظن… إذا نجح فهي كارثة الكوارث وطامة الطوام، على القبيلة لا عليه هو، فالقبيلة التي صنعت – عبر قرون من الزمن – تاريخها بالدماء جاء هذا الفأر ليهدّ سد مأرب، وليؤكد بالدليل أنها قابلة للبيع والشراء، وليثبت باليقين أنها “مُسعّرة”، لا فرق بينها وبين الأدوات المنزلية وألعاب الأطفال ولوازم النساء وما شابه من السلع المعروضة في الأسواق.
وإذا كان الأمر كذلك، فيجب أن توضع القبائل، والعوائل كذلك، “المعروضة للبيع” تحت رقابة “حماية المستهلك” لقياس “معدل التضخم” قبل أن تُدرج في “البورصة” أو سوق الأسهم، كي يتسنى للجميع بيعها وشراؤها، ولتكف – تلك القبيلة أو العائلة – لسانها مرة وإلى الأبد عن التحدث بأمجادها، فلا أمجاد بعد اليوم وقد اشتراها وضيع في الانتخابات.
وكنت قد تحدثت في هذا العمود الصحافي عما كتبه البحارة الأوروبيون في مذكراتهم عن دهشتهم من الأفارقة السود، الذين يعملون عبيداً للأوروبيين لكنهم لا يكفون عن التفاخر بأنسابهم وأمجادهم التليدة، وهي كما أظن “أمجادٌ موضوعة” لا أصل لها ولا جذر. كذا هو الحال بالنسبة للقبائل العربية التي تُباع وتُشترى في الانتخابات في وقت يباهي فيه أبناؤها بتاريخها. أي تاريخ لكم يا سادة؟ إذا سلمنا جدلاً أن ثمة تاريخاً قد خطه الأجداد فلنسلّم يقيناً أنه قد باعه الأحفاد. وعلى القبيلة أن تبدأ من جديد صناعة تاريخها لتعويض خسائرها، فـ”تاريخك رصيدك”، إذا ما صرفته كله فقد خوى حسابك البنكي على عروشه، وعليك أن تجمع رصيداً جديداً “بدل فاقد” قبل أن تفاخر مرة أخرى، ولا أظن أن الوقت يسعفك.
والذي اشترى قبيلتك اليوم في الانتخابات الفرعية، سيبيعها غداً مستعملة “ساكند هاند” برجالها، أقصد ذكورها، ونسائها وتاريخها ووو مختومة على قفاها. تماماً كما يفعل شيخ القبيلة الذي “يغلّف” تاريخ قبيلته وسمعتها ومجدها ويقدمها هدية عند أقدام المسؤولين وهو خانع، فيمسح المسؤولون قفاه كما يمسح الصياد قفا كلبه الذي اصطاد له الفرائس، ويرمي له عظمة كمكافأة.
هذه هي الصورة الحقيقية للأوضاع، ومن لم يصدقني فليتنفس على مرآته ثم يمسحها بطرف كمه كي يتمكن من الرؤية بوضوح فيسمي الأمور بمسمياتها المؤلمة.

محمد الوشيحي

أميركا… بين الشماغ والخِبل

لا حول ولا قوة إلا بالله… دخل مجموعة من الأميركان إلى مبنى الكونغرس أمس احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية، وبعد التحريات الأولية اتضح أنهم من أصول “مكسيكية”، وظهر ذلك جلياً من “دشاديشهم المخصرة”، أي ثيابهم الضيقة، و”الكبّوس الأحمر” الذي كان كلّ منهم يضعه فوق رأسه.
احتج بعض عقلاء أميركا: “هذه ليست أخلاق أهل أميركا، بل هي أخلاق أتت من خلف صحراء تكساس” في إشارة إلى المكسيك، وصرخ آخرون: “هؤلاء همج، هؤلاء رعاع”، وظهر مذيع “مدربح” على قناة “فوكس نيوز” باكياً: “المكسيكيون اليوم اقتحموا الكونغرس، وغداً سيقتحمون البنتاغون”.
وبدأت “فوكس نيوز” حملتها الداعية إلى تجمع “غود سيف يو أميركا”، أي “الله يحفظج يا أميركا”. وفي التجمع شوهد الفنان “النص نص” بوي جورج، وشوهد معه فنانون لا تظهر أسماؤهم على “تترات الأفلام”، ولم يشارك أي فنان هوليوودي “عليه القيمة”.
ولوحظ في التجمع مجموعة من المسنين، تبين أنه تم إحضارهم دون علمهم، فقط من أجل زيادة عدد المتجمعين والإيحاء بأنه حتى المسنون شاركوا في التجمع رغم الشيخوخة والمرض.
وفي الشأن القانوني، تقدم رئيس الكونغرس وأعضاء مكتب الكونغرس بشكوى على المقتحمين المكسيكان، فتم زج المقتحمين في السجون الأميركية، فتجمّع أهالي المسجونين وأنصار الغوغائيين في ساحة مقابلة لمجمع المحاكم الأميركي، وراحوا يرددون أغاني و”شيلات” لا يعرفها أهل أميركا ولم يسمعوا بها من قبل.
اللافت أن تصريحات النواب “القبّيضة” الأميركان انهمرت بغزارة المطر في شهر يناير، فتكلموا عن “الشرف واحترام القوانين ومكانة أميركا وطاعة ولي الأمر الأميركي”، وطالبوا بإنزال أقصى العقوبات على مقتحمي الكونغرس، وعلى المذيع الذي نهض واقفاً أثناء تغطية الحدث، وعلى فريق برنامجه، وعلى القناة التي يعمل فيها لأنها غطت الحدث، وهي قناة تتبع “الإسطبل الأميركي”. وظهر على شاشة التلفزيون الحكومي (هم لغبائهم مازالوا مصرين على بقاء هذا التلفزيون الجثة) قسيس أميركي حكومي، لا يخرج إلا “وقت الحاجة”، فهاجم المقتحمين والمتظاهرين، وحذر من أن ذلك يخالف تعاليم الدين المسيحي الذي يحض على طاعة الرئيس الأميركي، ونهى عن محاسبة الحكومة مهما فعلت، مذكراً أن سبب تخلف أميركا هو ابتعادها عن طاعة الله وطاعة ولاة الأمر.
وخرج “وزير خبل” في أميركا مهدداً المقتحمين بالسجن المؤبد.
ثم دخل على الخط مجموعة من شيوخ قبائل أميركا بطلب من الحكومة الأميركية، كالعادة، فتصدى أحد هؤلاء “الشيوخ” للأمر، أو قل “أذعن للأمر”، وهو شيخ قبيلة “ألاباما”، ووعد بصياغة بيان “يوقّع عليه” كل شيوخ القبائل الأميركية يعلنون فيه دعمهم الحكومة الأميركية في كل ما تفعله، لكن أبناء القبائل هناك احتجوا وكشروا عن أنيابهم، فأعلن شيوخ قبائل نيويورك وكارولينا الشمالية والجنوبية، رفضهم للبيان، ثم تبعهم شيوخ قبائل أوهايو وأوريغون وكنساسولويزيانا وبقية القبائل في رفضهم البيان… هنا اضطر شيخ قبيلة “ألاباما” إلى صياغة بيان “لا وجه له ولا قفا”، تفادياً لإغضاب أبناء قبيلته الذين أصدروا بياناً غاضباً يحذرون فيه من المساس بالثوابت الدستورية الأميركية، ومن تسييس القبيلة. وأقسم مجموعة من أبناء القبائل الأميركية المثقفين بأن يتبرأوا في المستقبل من أي شيخ قبيلة يتحول إلى دجاجة تكاكي، في حالة هي الأولى من نوعها، إذ تتبرأ القاعدة من الرأس لا العكس.
وخرجت جموع الأميركان الغاضبة في تجمع هو الأكبر في تاريخ أميركا، تطالب – هذه الجموع – بإيقاف النزيف، وبدء صفحة جديدة، وتمزيق الصفحة السابقة.
… كانت ليلة البارحة طويلة، ثار غبارها فأعمى العيون، وهزّ الأميركان فناجين صبرهم دلالة على الاكتفاء، فاستقال باراك أوباما وتولى نائبه الأول المسؤولية، فتفتحت أزهار أميركا، وعلت ضحكات أطفالها، وفتحت أميركا صفحة جديدة لم يُعرف لونها إلى الآن.