في كوكب الأرض كله، من الجلدة إلى الجلدة، هناك قاعدة ثابتة راسخة: “الساسة تحت رحمة سيوف الإعلاميين”. والإعلاميون هنا بجزءيهم؛ سواء كانوا مرتزقة من “ذوي الكابات الزرقاء” -كما كان يُطلق على المرتزقة الأفارقة الفرنسيين- أو كانوا أحراراً صادقين.
على أن تأثير إعلاميي الكابات الزرقاء يأتي دائماً بنتائج معاكسة لرغبات أصحابها ومخالفة لمخططاتهم، فالبضاعة التي يذمونها يرتفع سعرها، وتلك التي يمتدحونها ينخفض سعرها، وكلنا يتذكر ما فعلته بعض وسائل الإعلام بالرئيس السعدون وفيصل المسلم والحربش والبراك والطبطبائي وغيرهم قبل فترة، والنتيجة كانت ارتفاع أسهم هؤلاء إلى الحد الأعلى في قلوب غالبية الناس.
في حين أن الإعلام الحر الصادق عندما يدهن “سبطانة” مدفعه و”يزيّتها” ويمسح زجاج بوصلته، مباشرة يرفع الساسة عيونهم إلى السماء وأيديهم بالدعاء: “اللهم سلّم سلّم.. اللهم حوالينا لا علينا”.
على أن أسلحة الإعلاميين ليست متشابهة، فهناك من لا يسمع صوته حتى عياله الجالسون في الصالة، وهناك من إذا كتب سطراً أو قال جملة، ولو كانت مختصرة، تناقلتها قوافل اليمن والشام، وتساقطت “غُتَر” (جمع غترة) بسببها وارتسمت البسمات على وجوه الأيتام وأمهم الأرملة.
وكان الشاعر “الساخر الشاخر” بيرم التونسي، كما كان يسمّيه تلميذه الساخر الأعظم محمود السعدني، يكتب مقالات كالزلازل، تهتز لها أركان “السراي الحكومي”، وكان غيره يقدح أو يمدح ولا يسمع صوته حتى حليلته أو خليلته التي تشاركه البيت. أما مقالات السعدني فكانت كالعاهات المستديمة التي يصاب بها المسؤول فلا يشفى منها إلى أن يموت.
وكان رحمه الله (أتحدث عن السعدني) يجلب القلق لأصحاب الصحف التي يكتب فيها، لذا لم يكن يعمّر في الصحيفة الواحدة أكثر من أشهر معدودة، وهذا ما جعله يتنقل بين أربع عشرة صحيفة في غضون سنوات قليلة، الأمر الذي دفع أنصار الحكومة إلى تشبيهه بالراقصة التي تتنقل بين المسارح! كل هذا لأنه حر يكتب ما يريده هو لا ما يريده رؤساء التحرير.
وكنت أتفادى الحديث عن مقالات زميل لطالما سألني: “ما رأيك بمقالاتي؟”، وليته يسكت بعد السؤال ولا يردفه برفع السبابة والحاجبين: “أجبني بشفافية أبا سلمان”، وبعد أن “فاض بيّه ومليت” اضطررت إلى الإجابة عن سؤاله بسؤال، من باب “وداوها بالتي كانت هي الداء”: “هل أضحكَت مقالاتك مؤيديك وأبكت معارضيك؟ إذا كان الجواب “لا” فلا تُضع وقتك في ما لا ينفع ولا يضر، وتفرغ لقوت عيالك في أرض أخرى بعيداً عن أرض الصحافة”.
وللساسة أقول ما قاله أتاتورك للقوات البريطانية التي كانت تحتل بلاده، فأعلن بدء الاستعداد لحرب التحرير، فأرسلت بريطانيا إليه رسالة منها: “نحذر تركيا من استفزاز بريطانيا”، وعندما قرأ الرسالة شطب كلمة بريطانيا وكتب فوقها تركيا، وشطب كلمة تركيا وكتب فوقها بريطانيا، وأعاد الرسالة ذاتها إليهم بعد أن أصبحت الجملة كالتالي: “نحذر بريطانيا من استفزاز تركيا”.
التصنيف: محمد الوشيحي - آمال
محاكمة حذاء
شيخ الدين جاسم مهلهل الياسين اقترح أن يُربط النائب “التافل” (لم يقل السافل… والتافل، لمن لا يتحدث اللهجة، اسم الفاعل لفعل تفلَ أي بصقَ) أقول اقترح أن يُربط التافل بسارية العلم تعزيراً.
وأقول للشيخ الياسين: لماذا نعاقب الثور الذي دمّر البستان، ولا نعاقب صاحب الثور الذي سمّنه وربّاه لمثل هذا اليوم، ثم أوصله بنفسه إلى البستان وأطلق قيده، واختبأ يراقبه من خلف الجدار؟ وإن سألتني يا شيخنا المفضال عن صاحب الثور فسأحيل سؤالك إلى زملائك في الجريدة التي تكتب فيها علّ أحداً منهم يساعدنا في البحث عن وسائل الإعلام التي وفرت له البرسيم والعلف، وأشركته في مسابقة “مزاين الإبل” وهو ثور.
وسنسأل، أنت وأنا، بعض كبار التجار وكبار المسؤولين السابقين وكبار الطائفيين، وهم كلهم كبارٌ صغار، عمن سمّن الثور أيضاً، فقد نصل إلى نتيجة، ونعرف المستحق الحقيقي للعقاب.
الناس يا شيخ تعرف “ما في بطون التمر”، وتعرف الكوع من البوع. ثم إنه لا يصح ربط القاذورات بعَلَم الدولة، حمى الله العلم من النجاسة والقذارة، وحماك وحمانا.
يا شيخنا، وأنت بهذه الحكمة التي تبدو على محياك وتظهر في حديثك، ألا تظن معي أن مسؤولية تسمين الثور تقع أيضاً على عاتق من سكت عنه طوال فترة تسمينه وتمرينه وتجهيزه لمثل هذه اللحظة؟ بل وهاجم كل من صرخ محذراً من خطورة إطلاق الثور في البستان وفي شوارع المدينة، على أنني أجزم أن “تفلة التافل السافل” أجلك الله وأجل القارئ، أغضبت، أول ما أغضبت، أصحاب الثور أنفسهم، فالتفلة كانت من ضمن “المقرر”، هذا صحيح، لكن الثور استعجل بها، فلخبط “العملية” كلها، تماماً كما لو قامت جماعة إرهابية بتلغيم جسد أحد الانتحاريين، وعبأت جيوبه بالقنابل اليدوية، وأمرته بالتسلل إلى المرفق الفلاني، وحذرته من تفجير نفسه قبل أن يتمكن من تدمير أكبر مساحة ممكنة من المبنى، وقتْل أكبر عدد من الناس، لكن الانتحاري، الذي هو هنا “السافل التافل”، استعجل ففجر نفسه أمام البوابة، فلم يتهدم شيء من المبنى ولم يمت أحد، باستثناء إصابة طفيفة أصابت أحد الموجودين.
يا شيخنا المفضال، إن رمانا أحد بحذائه فهل نحاسب الحذاء أم صاحب الحذاء؟ مع تأكيدي على أن الحذاء يجب أن يمزّق ويُرمى في الحاوية.
عد بذاكرتك، شيخنا، إلى “ندوات تسمينه” وتفحص الوجوه جيداً، ودعني أنبّهك وأنبه الناس وأحذركم بجملة واحدة “ثمة ثيران أخرى لاتزال في البستان، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد”، وأيضاً وأيضاً، اسأل، إذا رغبت، زملاءك في جريدتك التي تكتب فيها عنه، لعلهم يفتونك فتفتينا.
سَفَلة ووطنيون
كذاب ابن نصاب من يدعي أن الكويتيين كلهم شعب من الأتقياء، يلمع لشدة نقائه وصفائه. ومجنون ابن ملعون من يظن أن الكويتيين على درجة واحدة من الوطنية وحب البلد.
صحيح أن غالبية الشعب من الشرفاء والأحرار، لكن الصحيح أيضاً، كما هو حال بقية الشعوب، أن جزءاً من الشعب لا يعرف الشرف ولم يسمع عن الحرية ولا يعرف شكلها.
لذا، لذا فقط، خرجت هذه التشكيلة من النواب التي أجزم أنها التشكيلة الحقيقية للشعب الكويتي؛ فهناك المتدين، ممثلاً للمتدينين، وهناك النائب المهموم بحقوق البسطاء، ممثلاً للبسطاء ومصالحهم، والتاجر، ممثلاً للتجار ومصالحهم، والسافل، ممثلاً للسفلة وأهدافهم، والشجاع، ممثلاً للشجعان، أو على الأقل لمحبي الشجاعة، والوطني، ممثلاً للوطنيين، واللص، ممثلاً للصوص والحرامية متسلقي الجدران أنصاف الليالي، ووو…
والاستعباط، والادعاء بأن أحداً من الشعب لا يمكن أن ينحط أو يسرق أو يخون هو ضحك على الشوارب واللحى.
هذه هي الديمقراطية، وهذا هو الشعب الذي استهزأ به أحد كبار السن من البسطاء، عندما سأل ابنه مذهولاً: “المسؤولون يتغزلون بالشعب، ويقسمون أنهم يسهرون لحمايته، ويخدمون مصالحه، ويهمهم رضاه، ووو… (اهيب) يا الشعب ما أقواه وما أعلى شأنه! مَن هو الشعب هذا؟”، فأجابه ابنه: ” الشعب هو أنت وأنا وأمي وخالي وعمي وجيراننا وأبو مبارك وعياله وبناته وأبو يوسف وعياله وبناته وبقية الناس”، فكان الرد من الأب مختصراً: “أمك طلعت هي الشعب… يا خرطي”.
وأجزم جزماً مغلظاً أن التشكيلة البرلمانية الحالية هي الأقرب للتمثيل الحقيقي للشعب، وهي الأصدق.
ولك أن تتخيل أن ينتخب الشعب خمسين نسخة من محمد هايف، مثلاً، أو محمد الصقر، أو مسلم البراك، أو نبيل الفضل، أو أو أو… فهل كنا سنقتنع أن الانتخابات كانت مرآة حقيقية للشعب؟ الجواب، حتى قبل أن تُنهي سؤالك: لا طبعاً، أو طبعاً لا، أيهما تحب.
على أن مرآة الدائرة الواحدة، بنظام انتخابي معين ومدروس، ستكون أكثر وضوحاً ونظافة من غيرها من المرايا.
وعسى أن أموت قبل أن يُقر قانون يسمح بـ “الكوتا” (أي عدد معين من الكراسي في البرلمان) لكل فئة من الفئات التي ذكرت، كما هو الحال في انتخابات برلمان مصر، عمّال وفلاحون، أو في بعض الدول الأوروبية التي تمنح الشواذ كوتا في الحكومة، وأظن في البرلمان كذلك! وعسى أن يكبّر على جثتي أربعاً أبنائي والمشيعون قبل أن أقرأ خبراً في صحيفة: “البرلمان يوافق على تخصيص كوتا للسفلة، بواقع مقعدين”… آمين.
الجويهل… يرسخ العادات
لو كانت هناك نقابة للمبذرين، إخوان الشياطين، لكنت نقيبها الذي لا يتزحزح عن كرسيه إلا بعد تدخل عزرائيل، ورغم ذا، لا أظنني على استعداد لتبذير وقتي ووقتكم في استجواب الجويهل لوزير الداخلية، وهو استجواب أشبه بالمطبة التي لا تأخذ من وقتك إلا نتفة، ولا يتطلب التعامل معها إلا تخفيف السرعة قليلاً، قبل معاودة السير بالسرعة السابقة ذاتها. ولولا الحياء لقلت إن استجوابه لا يرقى حتى إلى أن يكون مطبة أصلاً، ولا يتجاوز مستوى وتأثير “عيون القط” المتناثرة في الشوارع، التي أسماها الشاعر ضيدان بن قضعان “مطبات طرررط”، في حين أن استجواب الأغلبية يعادل ويفوق متانة جدران الملاجئ، تصطدم به سيارة الوزير فتتهشم، وتمتنع شركات التأمين عن تعويضه.
ولن أضرب الودع كي أدرك أن الشمالي، وزير المالية، أصبح منصوباً بالفتحة، كخبر كان “كان الشمالي وزيراً” وعلى من يرغب في “وراثة” كرسيه الإسراع بتلميع نفسه منذ اللحظة. خلاص. قُضي الأمر.
على أن استجوابات الأقلية ضرورة طبية للوزراء، تماماً كالأمصال المضادة للأمراض. والأمصال، كما تعلمون، هي كميات قليلة من البكتيريا المسببة لمرض ما يُحقن بها الجسم ليشكل درعاً واقية أمام المرض ذاته. وأجزم وأزعم أن الوزير الذي استجوبته الأقلية ونجا، أو ستستجوبه وينجو، قد بنى قلعة يصعب حتى على تيمورلنك وجيوش التتار دكها بمنجنيقهم العظيم، مالم تقرر الأغلبية خلعه كضرس العقل. مع التأكيد على جملة “مالم تقرر الأغلبية”.
وأشعر أن البعض، من داخل المجلس وخارجه، يسعى إلى اظهار الاستجواب كالعجوز الأرملة، لا حول لها ولا هيبة ولا قوة، ويحرض الأطفال على السير خلفها ورجمها بالحجارة لإهانتها، ناسياً، هذا البعض، أو متناسياً، أن السيف وحده لا يخيف، ما لم يكن في يد من يجيد التعامل معه، وكم من سيف اشتكى الجفاف، وصلى صلاة الاستسقاء بحثاً عن قطرة دم واحدة، في الوقت الذي غرق فيه سيف عنترة في بحار من الدماء. فيا سيداتي سادتي، لا تخشوا السيف ولا تستهينوا به، بل اخشوا حامله أو استهينوا بحامله واحتضنوا وسائدكم وناموا، كما في استجواب الجويهل للحمود.
وتسألني عن محاور استجواب الجويهل، فأجيب: “هو استجواب قائم على محاسبة الحمود بما فعله ذوو القربى من الوزراء السابقين”، وفي عادات القبائل العربية، يتحمل المرء جرائم قريبه. والجويهل باستجوابه هذا إنما يرسخ عادات أجدادنا التي يحفظها جيداً، بدءاً من نوعية القهوة وليس انتهاء بالقصاص من أقرباء الجاني إذا تعذر العثور عليه.
آيساد
سحقاً للدول الصناعية، و”طز مرة ثانية فأمريكا وبريطانية”، وسحقاً لألمانيا، وسحقين اثنين لليابان، وسحقات لا حصر لها لكبريات الشركات الصناعية وأصحابها، ووو، وسحقات أكثر منها وأكبر لكل الاختراعات التي عجزت أن تنجب لنا جهازاً واحداً، واحداً بس، يضعه الواحد منا في جيبه فيكتشف كذب الكذوب وصدق الصدوق.
وسأشرح فكرته كي يتبناه مصنع من مصانع الخير؛ يكون بحجم علبة السجائر، نضعه أمام المسؤول أثناء حديثه، فيعطينا ضوءاً أخضر إذا كان المسؤول صادقاً، وأصفر إذا كان كاذباً، وميزات أخرى بحسب ما يراه، وبحسب الكذب ومستواه… نمرره على بيانات الحكومة أو التيارات السياسية فيضيء بأحد اللونين، ونضعه على مقربة من التلفزيون ونختار المحطة، ونراقب ضوءه فنحكم على المحطة الفضائية، صادقة هي أم كاذبة، وهكذا، بشرط ألا يستخدمه الزوجان، حفاظاً على البيوت والأولاد. ويمكن تسميته “آيساد” على وزن آيفون آيبود وآيباد.
جزماً سيحقق أرقاماً قياسية في المبيعات لم يسبقه إليها غيره، خصوصاً في عالمنا العربي الجميل، وعلي النعمة لأشترينّه، أو كما في اللغة، لأبتاعنّه، مهما كان سعره، ولو كلفني ثيابي التي أرتديها، على أن أكتفي بأوراق الشجر لتستر جسدي، فأضعه أول ما أضعه أمام رئيسي البرلمان والحكومة، قبل أن أضعه أمام بقية النواب والوزراء، ثم الإعلاميين المحترفين، ثم ناشري الصحف ومالكي الفضائيات، ثم ثم ثم…
وأقسم أن الجهاز بكامله، إذا وُضع أمام الفضائيات التي لا تمل من بث الأغاني الوطنية ولا تكل من المطالبة بهيبة الأسرة، سيصبح، الجهاز، كبقرة اليهود، أصفر فاقعاً لونه، وسيطلق أصواتاً لا تسر السامعين.
وأقسم مرتين أننا لو وضعنا الجهاز أمام بعض الليبراليين في البرلمان أو خارجه، لتمتم بكلمات يعاقب عليها القانون! ولو مر إلى جانبه بعض المتدينين في البرلمان وخارجه، خصوصاً ذلك المتدين، أو مدّعي الدين، عضو البرلمان، بملابسه المهيبة، لوقع الجهاز على ظهره وأطلق ضحكات تحرج الراقصة، قبل أن يستدير، الجهاز، ويقدم على فعل ما لا يحمد عقباه.
أما إذا وضعناه أمام الثنائي البرلماني، شهاب الدين وأخيه، فسيسد الجهاز أنفه، ويرتكب حماقات تذهل السكارى.
هو جهاز سيريح الناس ويتكفل بمهمة التفكير والتفسير، خصوصاً إذا ما تم تحديثه وأضيفت إليه ميزة “الختم على أنف الكذاب” بخاتم واضح لا لبس فيه، وأجزم أن ثلاثة أرباع المسؤولين الذين تمتلئ الصحف بصورهم، سينظرون إلى المصورين نظرتهم إلى ملك الموت، وسيهربون منهم هروبهم من الموت، وسيضع كل منهم ثوبه في أسنانه ويطلق ساقيه للريح، كما تهرب البغايا من شرطة الآداب، فيقفز هذا من النافذة، ويختبئ ذاك خلف الستارة! هو جهاز سيكفي لجان التحقيق العناء، ويكفي الناخبين الهراء، فأكثروا معي، يرحمني ويرحمكم الله الدعاء: “اللهم يسّر للمصانع تنفيذ “آيساد”، اللهم عجّل به فإنه رحمة، اللهم لا حول إلا حولك، ولا قوة إلا قوتك، فهب للمصانع وأصحابها القدرة على اختراعه، وهب لنا ابتياعه… آمين”.
صداع جميل
هذه اللحظات، أو اللحظات هذه كما تقول لغتنا، أجمل من الصبايا الحسان. أقصد اللحظات ذاتها. عليّ النعمة لا أدري أيها أغازل وأنظم قصائدي فيها، ولولا وصول السرية الأولى من الشعيرات البيض إلى رأسي لتتفقد الأوضاع قبل أن تستدعي بقية قبيلتها، لولا ذلك لوقفت على الناصية ورحت أتبسم في وجه هذه اللحظة، وأنثر معسول المفردات على تلك.
يا الله يا الله يا الله.. أنت تعلم أنني من الرجال الذين يُصابون بالصداع إذا ما رأوا حُسن حسناء لا يقاوم، فكيف بحسناوات فاتنات، يتبارين بالغنج والدلع والأنوثة. اللهم لا تشفني ولا تعافني من صداعي.
وكنا نعيش في بيت واحد مع حكومة شعثاء المخبر، كئيبة المنظر، وبرلمان أغبر، لا يهمه إلا الدفاع عن الحكومة، وجمعُ الغنائم، والسطو على أموال اليتامى وقوت الأرامل الثكالى. واليوم ذهبت الحكومة إلى حيث ألقت رحلها الهانم أم قشعم، هي وابنها قشعم، البرلمان الكسيح القبيح، وجاءتنا حكومة، لا أقول فاتنة، لكنها على الأقل أجمل من أم قشعم وأعقل، شعرها مسدول، وجسمها مقبول، ووجهها “مابو شي” كما يقول اللبنانيون، وجاء معها برلمان عفيّ فتيّ، يرقص على زنده الأسد الإفريقي، وجاء إلينا بالاقتراحات الباهية الزاهية، فهنا مشروع بتعديل قانون الانتخاب، وهناك مشروع بقانون لبناء المدن الجامعية والطبية، وفي الجهة اليمنى دراسات لتطوير نظام القضاء، وفي الجهة اليسرى فكرة تنظم المناصب والكراسي، وفي الخلف لجان تحقيق تقطع يد السارق المارق، ومعها لجنة للتحقيق في مصادر تمويل وسائل الإعلام، ووو…
يا الله يا الله يا الله، واليوم يتقدم النائب فيصل اليحيى بتعديلات دستورية يُحيي بها أحلام مؤسسي الدستور، ومعه، أو قبله، أعلنت كتلة التنمية والإصلاح، كذلك، نيَّتَها تقديم تعديلات دستورية منجنيقية، تدك الأسوار وتهدم الجدار تلو الجدار، لا لهو فيها ولا لغو. وكنا نقول ببكاء “وُئدَ الدستور” فبتنا نقول ببهاء: “وُلدَ الدستور”.
وبين هذا المقترح وذاك المشروع وتيّاك الفكرة، يَصِل نوابنا (قلت نوابنا ولم أقل نواب الحكومة) الليل بالنهار، فيربطون ذيل هذا اليوم برأس الذي يليه، متجاهلين صفير الصراصير وعريرها.
وأظن أن البرلمان هذا هو الأخطر على الفاسدين في السلطة وأتباعهم. هو الأخطر لا شك. هو الأخطر لأنه رفع شعار “ضحكنا معكم على أنفسنا ببلاهة وبما فيه الكفاية، واليوم انتهى وقت الضحك والمزاح”.
وأجزم أن الكويت لا تحتاج إلا إلى سنتين لا أكثر لتتعافى من تشوهات السنين الماضية وحروقها وكسورها، قبل أن تشترك في نادٍ رياضي وتمارس ألعاب الأكروبات، وتستعيد لياقتها، وتنضمّ إلى السباق إلى جانب الدول المحترمة.
وآه ما أجمل هذه اللحظات وأبهاها وأحلاها، وآه ما أجمل الصداع.
لصوص أذكياء
ممتعة قصص السرقات، خصوصاً العربية، القديمة منها والحديثة… ففي واحدة من المملكتين العربيتين قبل الإسلام، المناذرة أو الغساسنة (الأولى في العراق، والثانية في جنوبي سورية، وإلى الثانية، الغساسنة، ينتمي غسان تويني ناشر جريدة النهار البيروتية، والد شهيد الاستقلال جبران تويني، الذي اغتيل بتفجير سيارته على يد عصابة بشار الأسد، وينتشر كثير من الغساسنة في تكريت في العراق، إثر هروبهم نتيجة هزيمتهم على يد المسلمين بعد معركة اليرموك) أقول في إحدى هاتين المملكتين، اقتحم مجموعة من اللصوص بيت ابن الملك، أو شقيقه، وقيّدوا الحرس، وسرقوا كل شيء، حتى ثياب الحرس. ولا أظن أنني في حاجة إلى أن أسرد كيف تم الاستدلال عليهم، بعد أن استخدموا ثياب الحرس في مشاويرهم اليومية.
وعندما جيء بهم إلى الملك قال وهو يكاد يقع على ظهره من شدة الضحك: “لن أقتلكم بسبب السرقة، ولا لأنكم تجرأتم فاقتحمتم بيت ابني، بل لشدة غبائكم، يجب أن نبتر هذا النوع من الغباء الجريء”.
وفي السودان الشقيق (لم أقل الشقي)، هذه الأيام، ثمة سرقة، لكنها سرقة تميت الحي وتحيي الميت لشدة الضحك! الناس تسرق خزينة أو مناقصة أو أجهزة أو معدات أو أو أو، لكن أحد المسؤولين في السودان سرق خط طيران “الخرطوم – هيثرو”، أي والله، فقد استيقظ موظفو الخطوط السودانية ليكتشفوا أن خط الطيران قد شُطب من الجداول، ولا أحد، حتى اللحظة، يعرف من قام بشطبه. ومازال الجماعة هناك يرفعون السجاد ويسحبون الكنب إلى الأمام بحثاً عن هذا الخط المفقود! اللهم لا تُضع لنا خطاً يا قادر يا كريم.
وفي دولة عربية أخرى، استولى رئيس هيئة المخزون الغذائي الاستراتيجي ومساعدوه على كل المخزون، وتقاسموه بينهم، وباعوه لحسابهم في السوق، واشتروا بأموال الدولة كميات بديلة عن المخزون المسروق، ليسرقوها مرة أخرى ويبيعوها.
الجميل أن رئيس اللجنة المسؤولة عن التحقيق في ملف سرقات المخزون الاستراتيجي هو ذاته رئيس هيئة المخزون الاستراتيجي، ومساعدوه في لجنة التحقيق هم مساعدوه في الهيئة.
عسى ألا أموت قبله
كنا صغاراً عندما لمعت فكرة في ذهن صديق “لماذا لا يتم اختراع مكواة تكوي الثياب (ع الواقف) دون الحاجة إلى وضعها على طاولة؟”، وطورنا الفكرة، في الجلسة ذاتها: “لماذا لا يكون في جيب كلّ منا مكواة يمكن طيّها، تُستخدم لكي الملابس وهي على أجسادنا، في حال سقط عليها، في مكان عام، كوب شاي، مثلاً، أو عصير أو أو أو؟”…
ودارت الأيام، وفوجئنا بأن المكواة التي تكوي الثياب ع الواقف تم اختراعها منذ “زمن جدي” لكنها لم تصل إلينا، تماماً كما أن الكي على الناشف لم يصل إلينا إلا قبل عقدين من الزمن أو ثلاثة، في حين أنه موجود في أميركا منذ نهايات القرن التاسع عشر! ولا أدري هل تم اختراع مكواة يمكن طيها ووضعها في جيوب ثيابنا، أو حتى في سياراتنا، تُستخدم عند الحاجة، أم لا؟
لم يبق شيء لم يُكتشف، وعنترة العبسي يستهل معلقته بـ”هل غادر الشعراء من مُتردَّمِ؟”، أي هل ترك الشعراء الأولون للآخرين شيئاً يمكن أن يتحدثوا عنه؟ والإجابة “نعم كبيرة”، فها هم الشعراء المعاصرون يرتقون شاهقاً إثر شاهق، وسيخلفهم شعراء يجدون “مليون بل تريليون متردم” يمكن الحديث عنه.
ولا أسوأ ولا أبشع من الاختراعات الصحافية، سحقاً لها، وأتساءل اليوم: “إذا كانت الصحف الإلكترونية قد سحبت الأضواء من الصحف الورقية، ولم تذر لها إلا “الحرس القديم” من القراء، عشاق التصفح الورقي باستخدام اليد وفنجان القهوة… ودخل “تويتر” على الخط وسحب قراء الصحف الإلكترونية… فما الوسيلة الجديدة التي ستسحب الناس من تويتر؟ وهل سيجري على الفضائيات ما يجري على الصحف؟ كيف؟ وما هي الوسيلة التي ستلتهم أنصار الفضائيات وتتركها كالزوجة الأولى؟…”.
الأسئلة كثيرة وإجابتها واحدة “لا أدري”. الأمر المؤكد هو أن “التكنولوجيا أنانية”، تستحوذ وتقصي الآخر، بل هي كالوباء تقتل البشر، وتقطع الأرزاق، وتدفعنا إلى حك الأعناق. وكانت مطابع الصحف تحتاج إلى “أمم” من البشر، لكل منهم وظيفته، واليوم تدور المطابع بضغطة زر واحدة، وكانت الفضائيات، إلى وقت قريب جداً، تحتاج إلى “شعوب وقبائل” من الفنيين، وجاءت التكنولوجيا فأبادت هذه الشعوب وأفنت القبائل! بل حتى الطائرات المقاتلة، قررت شركاتها الصناعية الاستغناء عن الطيارين واستبدالهم بالتكنولوجيا، وبعد سنوات ستختفي وظيفة “طيار مقاتل”، كما اختفى “ساعي البريد” الذي ينقل الرسائل الورقية، إلا في حالات نادرة، وكما اختفى واختفى واختفى…
وعسى ألا أموت قبل أن أرى “تويتر” ميتاً والصحف الورقية ترقص فوق جثته، وتتقاسم إرثه مع شقيقتها الإلكترونية. آمين.
عربان وأميركان
الشعب هنا “واصل حده”، والقلوب على الزناد، والألسن معبأة بالطلقات. أشعر أننا جاهزون للصدام الداخلي (لولا الخشية من قضايا أمن الدولة لقلت إننا جاهزون للحرب الأهلية، الطائفية طبعاً… لكن الكتّاب يتحايلون، كما تعرفون، على الرقيب المهيب، وقبله على القانون، لذا نستخدم أحياناً الغمزة بالعين وعض الشفة السفلى كي يفهمنا القارئ من دون أن تضربنا عصا القانون).
الروح الغجرية، الرافضة للآخر، تسيطر علينا، وتضرب حول كلّ فئة منا، أو طائفة، طوقاً من العزلة والرفض والتشكيك في الآخر، وكأننا الشعب الوحيد المتنوع الأعراق، وآه ما أبشع المزهرية التي لا تضم إلا لوناً واحداً من الزهور، وآه ما أجمل المزهرية المتعددة الزهور والألوان، زهرة من تشيلي وأخرى من هولندا وثالثة من لبنان ووو…
والأمر ليس مقصوراً على الكويتيين، فالعربان منا ونحن منهم، وقد نقل لي صديق، أن كاميرا برنامج أميركي ساخر كانت تتجول في الأماكن العامة بين الأميركيين المنتمين إلى أصول مختلفة، الهنود والألمان والفرنسيين والعرب واليهود واللاتينيين والأفارقة السود والصينيين والأوروبيين ووو… وأميركا كما تعلمون عبارة عن مجتمع سوبر ماركت، من كل فج قطعة.
وكان السؤال عن موقف هذا المواطن في حال نشبت حرب بين أميركا ودولته الأصلية، أو أمته الأصلية، إلى أي جانب سيقف؟ يسألون الهندي، مثلاً: ماذا لو نشبت الحرب بين أميركا والهند… من ستؤيد وتناصر؟ ويسألون العربي واليهودي واللاتيني ووو…
وكانت الإجابات ساخرة غالباً، فاللاتيني أوضح موقفه بجلاء: “سأقف إلى جانب الجيش الذي يضم نساءً أجمل من نساء الجيش الآخر هاهاها”. الأفريقي يقهقه: “سأستغل فوضى الحرب وأهجم على محل للساعات لأسرق ساعة أعجبتني ولم أستطع شراءها”. أما الصيني، وبعد أن أطلق ضحكة خجل، انكمشت فيها عيناه حتى لم يعد من الممكن رؤيتهما بالعين المجردة، فقد علق: “لو كانت الحرب بين أميركا واليابان كنت أيدت أميركا ضد اليابان، هئ هئ هئ”، أما اليهودي فقد أجاب بوقاحة من الطراز الفاخر، مقهقهاً أيضاً: “سأدعم من يدفع لي أكثر… هاهاها… إسرائيل أو أميركا… هاهاها”، قال ذلك ومضى في حال سبيله يحمل أكياس التسوق.
كلهم قالوا ذلك ومضوا يكملون قهقهاتهم، باستثناء ذلك العربي الذي كساه الفزع وغشاه الهلع، وخشي أن تقع نسخة من هذا البرنامج في يد “إدارة الهجرة”، فراح يتحدث عن فضل أميركا على الأولين والآخرين، وعلى الإنس والجن، وعلى عمته وخالته، وكيف أنها أخرجته من بلاد الظلم إلى بلاط العدل، ومن بلاد السادة الذين ينتعلون القانون إلى حيث لا سيادة إلا للقانون، ووو، وأقسم بأغلظ الأيمان وأطولها أنه يدين بالولاء لأميركا، ولاشيء غير أميركا، وراح يعدد مزاياها، وبأهلها يتباهى، مسلمهم ومسيحيّهم، يهوديهم وبوذيهم، وأنه لا يرفض الآخر ولا يعاديه، ووو، والحمد لله أنه لا يحفظ معلقة أخينا طرفة بن العبد وإلا كان بدأ بإنشادها: “لخولة أطلال ببرقة ثهمدِ / تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ…”، الحمد لله.
هكذا هي ثقافتنا، نطويها ونضعها في مزودتنا وننقلها معنا حيثما حللنا وارتحلنا. سقى الله العربان.
عقولٌ… على طبق من نسب
وحياة هذه التمرة السمراء وفنجان هذه القهوة الشقراء لا أتمنى شيئاً أكثر من التسلل خلسة إلى عقول مستشاري أصحاب القرار، واحداً واحداً، والتجول في صحاريها وقفارها، ورملها وأحجارها، لأتفحصها كما يتفحص الجيولوجيون الأراضي البكر.
كيف يفكر هؤلاء؟ لا أعرف… هل لهم علاقة بالسياسة، أو حتى بجيرانها؟ لا ورب الكعبة… كل ما يربطهم بالسياسة أنهم كانوا وزراء سابقين، فقط، وهذه جاءت بالحظ وعلاقات القربى والنسب لا الكفاءة.
فيا حبيبنا المستشار، كونك وزيراً سابقاً لا يعني أنك سياسي بارع وفارس فارع، فللسياسة رجالها وفرسانها الذين يداعبون السيف في ميدانها كما يفعل ابن الطفيل، ويصوبون السهم كما يفعل ابن أبي وقاص… يا حبيبنا المستشار، كل ما يربطك بالسياسة هو النسب والقربى والجيرة، وهذه لا تشفع، تماماً كعلاقتي بالإبل، فكوني ابن قبيلة ترعى الإبل لا يعني أنني أعرف الإبل، طيّبها ورديّها، حسنها وقبيحها، “مجهمها ومغترها”، كما يصنّفها البدو. وكنت في مناسبة برّية، فطلب مضيفنا من راعي الإبل أن تُعرَض أمام “ضيفنا الوشيحي”، وجيء بتلك الناقة، وسألني عنها أمام بقية المعازيم: “ما رأيك في جمالها؟”، ولأن الأمر يتطلب المجاملة فقد تغزلت بها، وقلت فيها كل ما أحفظه من شعر عن الجمال والبهاء، بيت شعر واحد فقط غاب عني تلك الليلة: “إن العيون التي في طرفها حورٌ / قتلننا ثم لم يحيين قتلانا”، نثرتُ عليها كلمات المديح والغزل حتى تساقط الحضور على الأرض لشدة الضحك، ولم أكتشف سر ضحكاتهم إلا بعد أن عرفت أن هذه الناقة ليست إلا “فحل الإبل”، بل من أطيب الفحول وأشهرها، وهو بعير يشار إليه ببنان الدهشة! فما كان مني إلا أن تشككت في سلوكه، وطلبت إحالته إلى لجنة الظواهر السلبية، لكنني بعد هذه الفضيحة تعلمت كيف أميز بين البعير والناقة.
لذا أجزم أن نسبي وصلات القربى التي تربطني بأهل الإبل لا تسمح لي بأن أكون مستشاراً في عالم الإبل، وأجزم قبل ذلك أن مستشاري أصحاب القرار أكثر جهلاً في السياسة مني في الإبل، وإلا فما تفسير “بالونهم” الذي أطلقوه عن “احتمالية حل البرلمان في حال تم استجواب وزير المالية”؟ إذا كانوا يريدون تخويف الأغلبية فإنهم بذلك أرعبوا الأقلية. فالأغلبية وأنصارها ينظرون إلى حل البرلمان وعدمه بنفس سعر الصرف، بل إن بعضهم يتمنى حله كي يتسنى للشعب تنظيف بشرة البرلمان من بعض الندوب، بالتقشير المريح.
خذوها مني، أيها المستشارون العباقرة، ستعود الأغلبية إلى البرلمان بأعداد أكبر، وسيتضاءل عدد الأقلية، وستتناثر شظايا بعض نواب الأقلية لشدة السقوط. وأظن أن الأغلبية هي التي يجب أن تخيفكم بحل البرلمان لا العكس. فكروا بهذه الجزئية.
لكن السؤال هو: “لمَ لم يُطلقوا مثل هذا البالون عند استجواب رئيس الحكومة أو وزير الإعلام، وهما من أبناء الأسرة الحاكمة؟ لم أطلقوا بالونهم بعد التلويح باستجواب وزير المالية؟”، والجواب برأيي من جزئين، الأول، خوف الحكومة ومَن وراءها من كشف بعض الملفات المؤلمة رغم إعلان النائب البراك موافقته على سرية الجلسة نظراً لخطورة المعلومات وحساسيتها، والجزء الثاني، هو إدراك الحكومة ومَن وراءها أن استجواب البراك جدّي لا يحتمل الهزل، في حين أن استجوابَي عاشور والقلاف، خصوصاً الأخير، يندرجان تحت “باب التسالي” إلى جانب الألغاز والنكت والكلمات المتقاطعة.