هنا… الكتابة في الشأن السياسي أسهل من القراءة فيه، هي سهلة لدرجة الإسهال، وهي مستباحة لا عزوة لها تحميها. وكل من “طق طبله” كتب في السياسة، وأنا ممن “طق طبله” على الطريقة الإفريقية. على أن بعض الكتّاب تعامل مع السياسة باعتبارها مكب نفايات على الدائري السابع، وباعتبار الصحيفة كيساً بلاستيكياً أسود.
قوافل من الأقلام تزاحمت على بئر السياسة، الكتف بالكتف والقدم على القدم، في حين تنعق البوم في الصفحات الفنية، إلا ما ندر، وما أندر “ما ندر”! طبعاً مع الأخذ بعين الاعتبار وعقله أن الرياضة والاقتصاد بنتا السياسة ووريثتاها الشرعيتان.
حزني على الصفحات الفنية، وعلى الفن في الكويت، وأزعم أنه بسبب عدم وجود أقلام فنية حادة ساحت ألوان الفن بعضها على بعض، وانتهك عرضه… ستقسم أمامي أن صحافتنا ملأى بهم، وتشير بإصبعك إلى الكاتب “الفني” فلان، والناقدة الفنية فلانة، فأضطر إلى خنقك بغترتك وإقناعك بأن “الناقد الفني” يختلف عن متعهد الحفلات.
دعنا من هذا فمسؤوليته تتحملها شرطة الآداب، وقل لي بالله عليك: هل أتاك حديث الكاتب المصري العظيم طارق الشناوي، المتخصص في الفن والثقافة؟ هل تقرأ له مثلي في جريدة “التحرير” المصرية حالياً و”الدستور” سابقاً؟ هل تستشعر مثلي حدة قلمه وصدقه وعمقه وسعة إدراكه وثباته على مبادئه وقوة حجته؟ هل سمعت عن هجومه، كما يظن السطحيون، على الممثل حسن يوسف، أحياناً، ودفاعه عنه أحياناً، رغم اختلافه الشديد معه؟ هل أدركت مثلي أن هجومه كان على الفكرة ودفاعه كان عن المبدأ، ولم يكن متقلباً كما يظن عشاق الشخبطة على اللوحات الجميلة؟
هكذا أتخيل طارق الشناوي… ممسكاً عصا القيادة، وله فيها مآرب، يوجه بها هذا الشاب، ويرفعها تحية لذلك المبدع الخلّاق، ويضرب بها ظهر ذاك المرتزق المنافق، ويخيف بها الدخلاء، ويحافظ على تناغم اللحن. وأظن أنه لو كان في الكويت لاستبدل عصاه بساطور ألماني، ولارتفع الصراخ، ولنَفَذَ غالبية “الفنانين” بجلودهم وجباههم وظهورهم.
صدقني، من الخطأ والخطر ترك الساحة الفنية بلا “كاتب فني معارض للسلطة”، ستقول: ما علاقة صنعاء ببغداد؟ فأجيبك: إذا تُرك الفنانون بلا عين رقيب ولا عصا حسيب، فسينجرفون تلقائياً إلى ما يرضي الكراسي والبشوت والشيكات، فيتساقطون في الوحل، وقبلهم الفن نفسه.
أعطني “شناوياً” أُعْطِك فناً… سلّم واستلم.
التصنيف: محمد الوشيحي - آمال
الجاهلية الثالثة…
تَغيّر اتجاه الكاميرا، من متابعة أحداث سورية إلى متابعة أحداث الفيلم القميء عن رسولنا الكريم (لم أقل المسيء إلى رسولنا الكريم، لأنه أقل من أن يصل إلى هذه المكانة من الأهمية).
أقول تغير اتجاه الكاميرا وابتعدت أحداث سورية عن الشاشة، ولن أستبعد أن تفكر عصابة السفاح بشار في إنتاج فيلم آخر أكثر وقاحة وسفالة، لإشغال الناس عن جرائمهم أطول فترة ممكنة، بعدما شاهدوا تأثير هذا الفيلم المسخ.
ولا أدري متى نهتم بسلاح الإعلام وندرك قوته، خصوصاً المرئي منه، كالسينما والتلفزيون والمسرح، أقول ذلك بعد أن ارتفع ضجيجنا احتجاجاً على مسلسل الفاروق عمر، رغم أنه من “إنتاجنا” ويمدح ولا يقدح!
هذه طبيعتنا كعربان. نثرثر في كل شيء ولا نفعل أي شيء. تنقصنا حاسة مهمة جداً، أزعم أنها الأهم من بين الحواس، حاسة “تقدير الأشياء”، فالتلفزيون، كما أفتى بعض رجال الدين في السابق، لا يجتمع مع الملائكة في بيت واحد، والدش (الستلايت) يُسقط الغيرة من صدور الرجال، ويجلب “الدياثة”! ووو… والنتيجة هي حالنا اليوم. وكأننا مانزال في عصر عمر الخيام، الذي قضى حياته هارباً بسبب ولعه بعلوم الكيمياء، فوصموه بالزندقة، ومازلت أتذكر أيام الدراسة في كلية الهندسة عندما تحدث إلينا الدكتور المحاضر ساخراً: “يا أيها الزنادقة” فلم نفقه مقصده إلى أن بيّن لنا: “بعد انحسار العصر الإسلامي التنويري، جاء عصر اعتبر الناس فيه الكيمياء والمنطق من علوم الزندقة”، فعلق أحدنا: “إذاً سنتخرج من هنا نصف زنادقة، باعتبارنا تعلمنا الكيمياء فقط”! ومازلت إلى الآن أجيب من يسألني عن تخصصي: “بكالوريوس زندقة”.
خلاصة الثرثرة، ما لم نزرع في عقولنا “تقدير الأشياء” فنعرف قوتها ومدى تأثيرها وطريقة استخدامها والتعامل معها ووو، لن نخرج من عصرنا الجاهلي الثالث. وأزعم أن الإعلام المرئي، في وقت الحرب، أشرس من سلاح الطيران والمدفعية والدروع مجتمعة.
رضى… أين أنت يا معوّت؟
جلبة في صالة التحرير، قهقهة عالية بين أروقة مكاتب الزملاء في الجريدة، جلابية توشك أن تكون كويتية وما هي بكويتية، تماماً كما هي لهجته إن أراد أن “يكوّتها” فتخرج من فمه عرجاء من غير سوء: شغبارك، أي شخبارك… شفيك يا معوّت! فأصحح له: يا معوّد (بالحاء المربوطة يا رضى)، فيقهقه: يا عم عدّيها بالتاء المزبوطة، الحاء تقال للحمير والتاء للتأنيث… وغير ذلك من المفردات الكويتية التي كان يشرّبها بلهجته الأم، التي لا يتنازل عنها إلا لدواعي الضحك والمزاح.
أين أنت يا معوت؟ هل مللت منا فقررت هجرنا وهجر معشوقتك “اللغة الفصحى”، بحروف جرها التي كنتَ تقف سداً منيعاً ضد من يتجاهل تأثيرها (مش عارف ليه أخونا المحرر الألمعي بينصب الكلمة وهيه مجرورة من ودانها؟ هو حرف “الباء” شوية في البلد يا جدعان؟)… هل زهقت من “الأفعال المتعدية” على أملاك الغير، كما تصفها (دي أفعال شغالة نصب تك تك)… من سيعول بعدك “واو الجماعة” ومن سيثأر لـ”الواو المقطوعة من شجرة” كبدي عليها؟ من مثلك سيعيد ترتيب فوضى الأخبار و”يدسّكها” بشقاوة وحرفية، ويستخرج من جوفها مانشيتات تؤكل بأصابع اليد الواحدة؟
من بعدك سيهاتفني ساخراً من صياغة (المحرر إياه، في تلك الجريدة): “بزمتك يا بو سلمان ده يتقال عنه صياغة خبر؟ يكتبه محرر بقاله أكتر من خمستعشر سنة في الصحافة؟ ده للعشماوي على طول هو والخبر بتاعه… من سيهاتفني يا رضى معلقاً على مقالتي قبل النشر، إما قادحاً: “كنتَ استلفت ملح من جيرانكم إزا ما كانش عندك ملح تحطه على مقالة النهارده”، أو مادحاً: “أيوه كده اعدل لي دماغي، بحبك يا وشيحي وأنت برازيلي ترقّص الكلمات والجمل على الكتف والصدر، بحب السامبا”…
ياه يا رضى، يااااه، كم هو مؤلم فراق الأحبة، الفوضويين منهم تحديداً… عزاؤنا الحار ليوسف وأشقائه ووالدته، ولكل أهلك ومحبيك وما أكثرهم، ولزملائك في كل وسائل الإعلام التي تنقلت بينها… وها أناذا أكتب “رضى” بالألف المقصورة كما تريدها أنت، لا الممدودة كما كنا نغيظك.
آلمتنا يا رجل… فإلى جنات الخلد أبا يوسف.
احرص على الليبل..
وأخيراً، هبطت الطائرة متأخرة عن موعدها نحو ثلاث ساعات.. حول ممر الحقائب تجمهر المسافرون، وبين كل دقيقة وأخرى كان يسرق نظرة إلى ساعة يده، ويعضّ شفته السفلى متبرماً من ضياع كل هذا الوقت.
سحب حقيبته خلفه في اتجاه بوابة الخروج، فلمحَ لوحة معلقة على أحد المكاتب “المفقودات”، فتبسم، وتوقف برهة، مثبتاً عينيه على حروف اللوحة، ومن دون أن يشعر أو يفكر وجد نفسه أمام شباك المكتب، متخطياً فوضى الحقائب الملقاة على الأرض لتؤكد لك أنك في الوطن العربي..
أسند مرفقيه على حافة الشباك، وأراحَ حَنكه على أصابعه المتداخلِ بعضُها في بعض، وانطلق السؤال منه على هيئة زفرة كانت مكبوتة لسنوات: “كيف أجدها؟” فجاءه الرد، من الموظف المنهمك في أوراقه، فاتراً بصيغة سؤال: “كم واحدة؟” فأجاب فوراً وكأنه يقسم، وكأنها تسمعه: “واحدة.. واحدة فقط.. فقط”، فرفع الموظف عينيه مستغرباً طريقة حديث المسافر: “معاك (الليبل) والتذكرة؟”، فهز رأسه دلالة عدم وجود الليبل، فجاءه الرد الحاسم: “لن نتمكن من مساعدتك.. في المرات القادمة احرص على الليبل”، فاستدار المسافر معطياً الموظف ظهره، وهو يبتسم ويغمغم ويتنهد: “شكراً.. شكراً.. سأفعل”.
في الطريق إلى بوابة الخروج راح يسترجع الأحداث كالشريط السينمائي، ويتذكر تفاصيل التفاصيل.. ضحكاتها.. حركات يديها.. خطواتها على رؤوس أصابع قدميها وهي حافية.. طريقتها المميزة في رفع، أو قل دفع خصلات شعرها عن عينيها.. رائحتها.. رائحة قهوتها وطريقة تقديمها لها: “إن كنت سأغار فليس إلا من هذه القهوة.. أغار من عشقك الجنوني لها، وأعشقها لعشقك الجنوني لها”..
يغمض عينيه بابتسامة تستجدي الدموع عسى ألا تفضحه أمام مفتشي الجمارك والمسافرين ومستقبليهم.. ويواصل التذكر.. كتابه الذي كان بين يديه، وكيف استطاعت، هي، برشاقة وأنوثة الدخول بين يديه وكتابه!.. طريقتها في التعامل مع انفعالاته ولحظات غضبه وهو يتحدث في الهاتف مع أحدهم.. كانت تنسحب بهدوء، وتدير آلة التسجيل على إحدى أغنياته المفضلة، وتلوذ بالمطبخ.. تعبث بأي شيء حتى تتأكد من ابتعاد غيمة الغضب عنه، فتعود.
كان كل ما فيها ومنها مميزاً، يشهد الله.. صبية لا تُنسى.. ثقتها بنفسها جنونية.. كانت تعلم عن “عينه الزايغة” فأطلقت عليه لقب “مستر هارون”، نسبة إلى أسطورة “هارون الرشيد وجواريه”.. وتمعن في الغنج، وهي تضع قبضة يدها على باطن اليد الأخرى لإغاظته، بطريقة طفولية تصيبه في مقتل: “ستموت قبل أن أقول لك أمرك يا مولاي”.
أمام بوابة الخروج من المطار، كان يبتسم تطبيقاً لمبدأ “الهجوم خير وسيلة للدفاع”، خشية انهمار دموعه، ليقينه أنها إذا ما انهمرت فلن يوقفها شيء.. وكلما ازداد ألماً وأوشكت دموعه أن تتمرد اتسعت مساحة ابتسامته المخنوقة وابتلع ريقه..
رمى نفسه على الكرسي إلى جانب السائق، مكتفياً بهز رأسه رداً على عبارات الترحيب التي بالغ الأخير بنثرها على مسامعه.. وراح يتذكر محادثته مع موظف “المفقودات”، فقهقه بصوت مسموع هذه المرة وهو يردد جملة الموظف الأخيرة بعد أن غادره “احرص على الليبل”.. ويخاطب نفسه، وهو يكشف جيوب بنطلونه من الداخل، ومحفظة نقوده، مشركاً السائق المرتبك في الحديث: “ضاع الليبل.. و.. ضاعت”.
الأطمسان… الجعفري والقرني
الله يرحم حامد الأطمس، الشاعر المصري المبدع البائس التعس، الذي غاص حظه في وحل التعاسة حتى جاءت وفاته، وهو في الأربعين من عمره، في يوم وفاة أم كلثوم، فصار نسياً منسياً، ولم يسمع نحيب أهله وصحبه عليه أحد.
الله يرحمك يا الأطمس، يا من طمس سوء الحظ ذكره، في حياته ومماته، ولولا بعض الكتابات المتفرقة الخجولة عنك ما كنا قرأنا أزجالك ولا شعرك الباكي.
صاغ أجمل أزجاله وهو في منجرته في دمنهور، فكتب عنه رجاء النقاش وفتحي سعيد وغيرهما، وأثنى عباس العقاد على “الواد النجار بتاع دمنهور”، ومنحته لجنة الشعر الميدالية الذهبية، فجلبها في السوق ليشتري بثمنها تذكرة تعيده إلى بيته ومنجرته في دمنهور!
يصف الأطمس حظه زجلاً:
“أنا لو شكيت اللي مابي للحديد ليدوب
ولو حكيت للحجر حاتتخلق له قلوب
اللي أسيته وشفته يا عزيز عيني
لو شافه أيوب.. وديني ما صبر أيوب”
وكم من أطمس في أيامنا هذه، يملك من الأدب والإبداع ما يبهر ويسحر، إلا أن نصيبه من الشهرة كنصيب الأطمس… على رأس قافلة الأطامسة شاب كويتي عبقري ثائر اسمه خالد الجعفري، لولا ظهوره في زمن الصخب الإعلامي لتزاحمت على بابه الصحف والمجلات. ومن السعودية يظهر لنا أطمسي ساحر اسمه عبد الله القرني، يسميه مريدوه “سهيل اليماني”، لا أدري ما نصيبه من الشهرة في السعودية، إلا أنه في الكويت كالأطمس في مصر، لا حظ له.
على أن الفوارق بين الأطمسين، الجعفري والقرني، من جهة، والأطمس الأب من الجهة الأخرى، أكثر من أن تحصى، أدناها بحث حامد عن الشهرة، وزهد الاثنين بها، وأعلاها وأسماها (أعلى الفوارق وأسماها) شموخ الجعفري والقرني وتمردهما في مقابل خنوع الأطمس وتودده لذوي الجاه والمال.
وسحقاً للصحف التي تحولت إلى “معاريض” تستجدي المال، عبر تسليط الضوء على “إبداعات” أبناء الأمراء والشيوخ والتجار، وأهملت أمثال هذين الرائعين.
وكما يتحمل الأطمس وحده المسؤولية في اندثار يوم وفاته، يتحمل هذان العبقريان وحدهما المسؤولية في ولادتهما في زمن “الشيوخ المبدعين” وازدحام الفضاء بوسائل الإعلام.
ما أجمل السلسال… والجيد
كالعادة، اختلف الرواة والمفسرون حول عدد معتصمي ساحة الإرادة يوم الاثنين الماضي، فقائل قال: عشرة آلاف، وقائل: بل سبعة آلاف، وقائل: بل خمسة آلاف (وأنا من هؤلاء الرواة)، وقائل: بل ألف، وقائل: بل ثلاثمئة، وقائل: بل سبعة وثامنهم كلبهم… تعددت الروايات والحشد واحدُ.
دونك الأعداد فاختر منها ما يناسب مذاقك، لكنك لن تختلف معي في أن عدد المتجمهرين أصغر بكثير من حجم الحدث.
طيب ما الحل؟ سأجيبك فافتح لي أذنيك وعينيك وعقليك، يرحمك الله ويرحم والديك… أمامك الآن حكومة (الاسم الحركي للسلطة، نستخدم هذا الاسم لتجاوز رقابة الرقيب وقضايا النواح والنحيب)، أقول أمامك الآن حكومة مجهزة بأحدث عتاد، ومدججة بأخطر الأسلحة، واعفني من تسمية أسلحتها كي لا أضيع في الكازوزة، في مقابل معارضة متعددة الألوان، تعتمد في قوتها على الناس، وهنا مكمن ضعفها! هنا الثغرة التي تخترق فيها جيوش الحكومة دفاعات المعارضة، فالناس مزاجيون بطبيعتهم، بعضهم لم يعتد على العواصف، ولا يحتمل حرارة البراكين، ولا تطيق أقدامه الصبر ساعة على الرمضاء، وتتشقق شفاهه من الظمأ بسرعة (أكرر البعض)… لذا أظن أنه من الخبال أن ترمي المعارضة كل ثقلها على الزخم الشعبي، في وقت كهذا.
ستبادرني: هذه هي المشكلة، فأين الحل إذاً؟ صبرك علي، دعني أسألك أنا: ما هو تخطيط الحكومة؟ أقصد ما هي خطوات الحكومة بعد أن رأت أعداداً في ساحة الإرادة لا تخيفها؟ ستقول لي “سترفع مرسوم دعوة للانتخابات”، وسأقبّل خشمك وأقول لك “هنا نهاية الغي”.
ستتزاحم بعض الأسماء المشبوهة على الانتخابات وكراسي البرلمان، وسيقاطع الانتخابات رموزٌ لها ثقلها وعقلها، وسيتردد من يمتلك ولو ذرة من ال… شسمه (افهمني الله يرضى عنك)، وستتفرق الناس التي كانت في صف الحكومة، وبعد إعلان النتائج سيقرأ الناس في الصحف أسماء القراصنة في لجان المجلس، فيتضاحك الناس في بادئ الأمر، ثم تتحول ضحكاتهم إلى ابتسامات ساخرة، قبل أن تتحول الابتسامات إلى تجهّم، فيتحول التجهم إلى غضب، فيتحول الغضب إلى تجمع كاسح في ساحة الإرادة، تسقط أمامه الأسماء المشاركة في البرلمان، وترتفع أسهم مقاطعيها.
سلسلة جميلة من الأحداث كأني أراها أمام عينيّ الآن، ستقابلها سلسلة من الهبات من قِبَل الحكومة، على رأسها إسقاط فوائد القروض، لشراء ود الناس، لكن الوقت قد قزح، على رأي اللمبي، وجذوة الغضب لن تنطفئ بسهولة.
والمطلوب الآن أن تستمر المعارضة في إصدار بياناتها، وفي تجمعاتها في الديوانيات، وغير ذلك من مؤشرات الثبات على الموقف والإبقاء على الجذوة مشتعلة، ثم تستريح المعارضة تحت شجرة الحكومة وتتلقف الثمار التي ستتساقط عليها، وما أكثر ثمار الحكومة، وما أكثر غلطاتها.
ولمن يخشون نجاح الحكومة وبرلمانها في إنجاز بعض المشاريع الشعبية مصحوبة بفساد شامل، أقول: في هالشارب، لن تنجح لا هي ولا برلمانها في الإنجاز، وسيتنافسان على الفساد، فاطمئنوا.
انتظروا معي وراقبوا كيف تتشكل السلسلة، التي ذكرتها، وكيف يتزين بها جيد الكويت قريباً… وما أجمل السلسال والجيد.
كما ارتفعتم… نرتفع
كشرب الماء، تعاملت شرطة نيويورك مع حادثة إطلاق النار أمس، وكشرب العصير أجاب مسؤولو الولاية عن أسئلة الصحافيين قبل أن يجف عرق الجريمة، وشرحوا للناس تفاصيل الجريمة وقدموا ما لديهم من معلومات. ليش؟ لأنهم يحترمون الشعب ويخشون غضبته إذا ما أخفوا المعلومة عنه.
هنا، في الكويت، هذا البلد المنكود، ثمة عداء بين قيادات الحكومة والمايكروفون، كره متبادل “الله لا يبلانا”، طبعاً إذا استثنينا “مؤتمر ديوان الحربش” العجيب. فوزارة الداخلية عندنا أكبر من مستوى الشعب، ووزارة الخارجية من طبقة النبلاء، لذلك لا تلقي للشعب بالاً ولا حبالاً، فتسكت وتصهين في قضية اختطاف المواطن الكويتي في لبنان، كما سكتت وصهينت في قضية اختطاف المواطن الكويتي في إيران.
تحدث الجريمة عندنا، أقصد تحدث الجرائم عندنا، فتدور عجلات الصحف بحثاً عن أصل الخبر وفصله، وتضع كل ذات حبر حبرها، وتتبارى الصحف والخدمات الإخبارية في ما بينها في قوة “المصادر الأمنية” أو “المصادر الموثوقة”، وتنهمر علينا الحروف الأولى من اسم المجرم (ط. ش. ف)، وتعال فك الحروف وركبها بما يمليه عليك تخمينك المبارك، ووو، وتتركنا قيادات الداخلية نغرق في بحور الصحافة وحروفها إلى أن نموت، الله يرحمنا.
وكما يرتفع برج كل يوم في دبي، يرتفع دخان حرائق أمغرة كل يوم في الكويت، والبادئ أظلم… ويلطم الناس، وتصمت الحكومة، وتستمر الحياة… وهنٌ ما بعده وهن.
وكبرنا…
كنا صغاراً، نتوهم أن اللصوص، أو “الحرامية” كما هي مسمياتهم الوظيفية في لهجتنا، لا يظهرون إلا في الليالي المعتمة، أو عندما تُطفأ الأضواء. وكنا نعتقد أن مهمة الحرامي وطبيعة عمله تنحصر في ابتلاع الطفل الذي لا ينام، أو الذي لا يترك الهمس مع إخوته المكدسين إلى جانبه في الغرفة قبل النوم. وكبرنا، من دون تعمد منا، واكتشفنا، أيضاً من دون تعمد منا، أن اللصوص ينامون مثلنا ليلاً، ولا يسرقون إلا في أوقات العمل الرسمية، وفوجئنا بحجم سرقاتهم وهبشاتهم، وإذا هي بمئات الملايين من الدنانير، ففزعنا وصرخنا وكتبنا: “أوقفوا السرقات”، وفزع الناس ورددوا ما قلناه، ولا مجيب… كان كل ما يشغلنا ويغري دماءنا للغليان هو السرقة، كانت تشغلنا أكثر مما يشغلنا الفساد الإداري، الذي هو ابن الفساد السياسي. وكبرنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأيقنا أن السرقات لا يمكن إيقاف سيلها، إلا إذا جففنا منبعها، ومنبعها هو الفساد الإداري، واقتنعنا أن الفساد الإداري لا يمكن إيقافه إلا إذا تم قتل أبيه، الفساد السياسي. وكبرنا، ووصلنا إلى مرحلة من العمر نستحي فيها على شواربنا أن نتحدث عن سرقة هنا أو صفقة مغشوشة هناك، وبتنا نشفق على من يصرخ معترضاً طريق سرقة، وغدونا نسمع عن السرقات هنا وهناك دون أن نتوقف عن تناول عصير الجزر، أو حتى نقطع حديثنا من أجلها. والأيام المقبلة، أو الشهور المقبلة بالأحرى، ولن أتشاءم أكثر فأقول السنوات المقبلة، ستكون فرصة العمر لمن يريد أن يسرق، فالغبار يتفقد أدواته قبل أن يبدأ مهمته، وينشر الفوضى، ويخفي البصمات من على خزائن الدولة. وكبرنا، وكبرنا، وكبرنا… وشاخت الكويت.
جمال الدين… يقبض من قطر
حتى جمال الدين الأفغاني نفسه، بجلال علمه و”تأزيمه”، لو كان كويتياً يطالب بالإصلاح لما سلم من التهم التي سيطلقها عليه جمعٌ من المرتزقة، وما أكثر تهمهم وأكذبها وأتفهها… فهو إن سلم من تهمة “ليس من أهل الكويت ولا من عيال بطنها” وهذه طبعاً لا تحتاج إلى دليل أكبر من مراجعة اسمه للتأكد من جنسيته، فلن يسلم من تهمة “الروس نامت والعصاعص قامت”، وهي تهمة كويتية خالصة، عصرة أولى، لا أظن أن شعباً سبقنا عليها ولا تبعنا إليها، وكانت تقال لمن لا يملك المال والحظوة ويناقش الشأن العام… أقول، حتى جمال الدين بكل تضحياته لم يكن ليسلم من الطعن في شرفه (الشرف الذي أعنيه لا علاقة له بجسم المرأة بل بالقيم والمبادئ الأساسية للنبل).
وجمال هو المؤزم الأكبر في العالم الإسلامي في السنوات الخمسمئة الأخيرة. فبعد أن ضاقت عليه كابول لمطالبته بالإصلاح والديمقراطية، هرب إلى مصر، وهناك أسس المدارس والمعاهد، وحرض الشعب المصري على الثورة على الإنكليز، وقامت ثورة، ثم ضاقت عليه مصر، فهاجر إلى إيران بدعوة من الشاه، فأسس قواعد الحكم هناك، وطالب بالدستور والديمقراطية ومشاركة الشعب في الحكم، وطالب بتأميم الشركات الأوروبية وتنمية المواطن الإيراني، فضاق به الشاه وطرده، فحرّض جمال الإيرانيين على مقاطعة التبغ كي تخسر الشركة الأوروبية المحتكرة لهذه الصناعة، وخاطب أكبر رجال الدين، فصدرت فتوى بذلك، فامتنع الإيرانيون عن التدخين، فتدهورت الشركة، وتوقفت، وتم تأميمها، واغتيل الشاه على يد مجنون من مريدي “عالم الإسلام” صاحبنا جمال الدين.
وفي اسطنبول دعا جمال الدين الناس إلى المطالبة بدستور والقتال من أجل الديمقراطية، ووو، فقتله السلطان بالسم.
كان كلما أغرته السلطات بالمال ليسكت ويجامل، ازدادت حماسته للديمقراطية والدستور! وأجزم جزماً مغلظاً لو كان جمال كويتياً لاتُّهمَ بـ”القبض” من قطر، ومن رئيس وزرائها تحديداً، حمد بن جاسم.
هنا الكويت يا جمال فاعذرنا.
اسأل أتاتورك وصحبه
مصادفة الجوع قادته وقادتني إلى الالتقاء في مطعم، فانهمرت أسئلته، بسرعة سبعين سؤالاً في الدقيقة، يطرح سؤاله الثاني قبل أن يُنهي سؤاله الأول، والثالث قبل أن يشرح الثاني، والعاشر قبل أن يجف دم التاسع، وكلها تحت مظلة واحدة وإن تعددت أشكالها وأحجامها: “وين رايحين؟”، فأجبته مشفقاً على حنجرته وعروق رقبته: قبل كل شيء، نحن توقفنا فلا تخف، بل عدنا إلى عام 2009 كما تعرف، وسأدع المجال لكتب التاريخ لتجيب عن أسئلتك. قلت له، وأضفت: تعال نسترجع التاريخ، العسكري تحديداً، فالسياسة حروب ومعارك كما تعرف، لنستشرف النتائج… وفي التاريخ العسكري، وفي حروب الأزمنة القديمة والمتوسطة، يحدثنا الرواة في كتبهم عن تكتيكات استخدمها ثلاثة من أشهر القادة العسكريين كانت من أسباب تفوقهم، الأول هو السلجوقي المفترس “ألب أرسلان” الذي أسقط بيزنطة بجلالة جيشها وعتادها (كان قائداً للجيش وأصبح واحداً من أعظم سلاطين الإمبراطورية)، والثاني، ابن عمه، التركي أيضاً، مصطفى كمال أتاتورك (أصبح رئيساً)، الذي حرر بلاده من احتلال دول ست، قبل أن يؤسس تركيا الحديثة لتنافس أعظم الدول في عصره، والثالث هو الثعلب الألماني روميل (بطل الحرب العالمية الثانية، وإن هُزم فيها لأسباب يعرفها الرضيع قبل المسن… ولا أدري لمَ لُقب بالثعلب وليس الذئب)، هؤلاء الثلاثة لوّحوا بيد الوداع للدنيا، لكن بطولاتهم مازالت تُقرأ وخططهم تُشرح وعقائدهم العسكرية تُدرَّس… الثلاثة اتفقوا، من دون أن يتفقوا، على أساسيات أهمها أن احترافية الجيش تظهر في أوقات ضعفه لا تفوقه، وأن دهاء القادة يظهر في وقت الانسحاب لا الهجوم! واتفقوا على أن التقدم يجب أن يكون بطيئاً سُلَحْفِيّاً قدر الإمكان، لأسباب نفسية وتكتيكية، إلا في الحالات الاستثنائية… إضافة إلى جزئية هامة، اتفق عليها الثلاثة، وأجاب عنها أرسلان عندما سُئل عن سر تفوقه المبهر في ظرف سنوات قلائل، فأجاب: “أتقنت اختيار قادة جيشي، واستعنت بالمخلصين الدهاة ذوي الصبر والجلَد”. والآن دعنا نقارن بين فريقي الحرب السياسية، السلطة والمعارضة، وتعال نسأل أنفسنا: أيّ الفريقين يتقدم صفوفه المخلصون الدهاة من ذوي الصبر والجلد، وأيهما يتكدس في صفوفه الأولى غثاء السيل؟ وأي الفريقين يجيد التقدم والانسحاب؟ وأيهما يُبدي احترافية وتماسكاً حتى في لحظات ضعفه؟ إذا أجبت عن هذه الأسئلة، قلت له، فستعرف لمن ستكون الغلبة في النهاية، وإلى أين نحن ذاهبون.