محمد الوشيحي

وحافظت الكوسا على هيبتها

كدخان سيجارة، تطايرت في الهواء هيبة بعض الصور الذهنية والمصطلحات المخيفة، منها مصطلح "قضية أمن دولة"، وصورة "فلاشرات" سيارات الشرطة وصوت صافراتها، وتجمعات عساكر القوات الخاصة، وقبلها استجواب الوزراء، بل حتى مكانة الوزير في أذهان الناس، وإدراكهم لدوره في اتخاذ القرار أصبحا مثار شفقة (لم أقل ازدراء، فلا تتقولوا علي وترجموني بالقضايا).
ورحم الله أياماً كانت فيها عيوننا تخرج من محاجرها عند قراءة خبر "قضية في المخفر الفلاني". وكانت الأخبار الأمنية أكثر المواضيع مشاهدة وقراءة في الصحف… وتسارعت الأحداث، فأصبح الحجز في أقسام الشرطة خبراً لا يستحق أن تصرف عليه ثواني معدودات من وقت قراءتك… وتسارعت الأحداث أكثر فبات الحديث عن الحجز في مبنى المباحث الجنائية أقل من أن تُشغل به رواد الديوانية، دع عنك الحديث عن الحجز في مخفر الشرطة… وتسارعت الأحداث أكثر وأكثر فأضحى الحديث عن قضايا أمن الدولة المرفوعة ضد السياسيين، وحجزهم في مبنى أمن الدولة، حديث من لا حديث له، لا يرقى إلى أن يكون موضوع نقاش على طاولة مطبخ سيدتين متقابلتين تحشوان الكوسا، وكيلو الكوسا بربع دينار، وقضايا أمن الدولة بنصف كيلو كوسا.
وسقى الله أياماً كانت ابنتي تبكي هلعاً وتتشبث بذراعي، كلما مرت إلى جانبنا "دورية شرطة" تجتازنا مسرعة، بصوت صافرتها ووميض "فلاشرها"… وها نحن نصل إلى وقت نتبادل فيه الحديث الضاحك على وقع صافرات سيارات الشرطة ووميض فلاشراتها، وخلفية قرع دروع القوات الخاصة، ودخان قنابلها المسيلة للدموع، فيقول أحدنا للآخر بعد تبادل القبلات والتحايا أثناء تجمع: "سمنان ما شاء الله (أي أن صحتك تتعافى)"، فيرد الآخر ضاحكاً: "الحب وسنينه يا عزيزي"، فيقهقه الأول: "لله در الكويتيين، حتى حبهم مختلف، الآخرون يجلب لهم الحب أمراض الوهن والهزال، أما الكويتيون فيتعافون وتتورد وجوههم" وتجلجل الضحكات الصادقة والمجامِلة.
وكانت الكويت تتجمد عند استجواب وزير، أو حتى التهديد باستجوابه… ووصلنا إلى لحظات نشفق فيها على من يتحدث عن استجواب رئيس الوزراء.
العجلة تدور وتدهس بعض المفاهيم القديمة، وكثيراً من الصور الذهنية السائدة، فتقل قيمتها في أذهان الناس، بينما ترفع "الكوسا" أسعارها، وتمد رأسها بشموخ قائد أناضولي.

محمد الوشيحي

:على الريحة

ليست السلطة وحدها هي المعزولة عن الشعب، بل حتى الفنانون يعيشون على جزيرة بعيدة، خارج حدود الشعب وهمومه، إذا استثنينا منهم المؤلف بدر محارب والشاعر خالد البذال… أضف إليهم ذوي المناصب العليا والمتوسطة، الذين يرتدون، كلهم ويا للمصادفة، قميص السلطة. وأرجو أن تضع ما في يدك اليمنى على الطاولة التي أمامك وتحك جبهتك لتتذكر ما حدث مع النائب السابق فيصل اليحيى، قبل أن يصبح نائباً، عندما عارض السلطة، فمدّت السلطة يدها المباركة على راتبه الشهري، وكأنه هبة منها وكرم، وعبثت به كما يعبث الطفل بذقن والده وشنبه، وفي المقابل طبّقت قانون نيوتن على زميلته في الإدارة ذاتها، التي امتدحت السلطة وتغنت بمحاسنها، فأكرمتها السلطة، وأمرتها بأن تهز إليها بجذع النخلة…
علامَ يدل ذلك؟ وبماذا يشي؟ الإجابة: كلك نظر… ثم يأتي من يلحّن الديمقراطية الكويتية ويغنّيها، ويردد أكذب "كوبليه" مرّ على آذاننا: "الديمقراطية الكويتية هي الأفضل في الدول العربية"، إذا كانت الحال كذلك، فبماذا نَصِف ديمقراطية "مصر مبارك"، على سبيل المثال، ونحن نرى فناني مصر وكتابها وكبار مسؤوليها ينقسمون إلى فريقين، فريق مع وفريق ضد؟
عموماً، تريد أن تعرف من هي المعارضة، وممّ يتكون عمود خيمتها؟ سأعطيك إجابة مكفولة من المصنع: "المعارضة الكويتية في غالبها الأعم الأهم تتكون من الطبقة الوسطى، وفي رواية أخرى "البسطى"، مُطعَّمة بـ"شوية سكر" على الريحة، وهو ما يعوق مهمة شراء ودها، بالطرق الحلزونية العربية". وهي طبقة لا يصافحها الفنانون ولا كبار المسؤولين ولا غيرهم من "عشاق دفء السلطة" إلا من خلف قفازات القرف والاشمئزاز، وخلف الجدران المعتمة خشية إغضاب السلطة الديمقراطية، وطمعاً في عسلها الجبلي.

محمد الوشيحي

حاجة كده يعني… يعني…

الله يرحم الأديب والشاعر الشعبي المصري نجيب سرور، أكبر صايع عرفه تاريخ الشعر بعد مظفر النواب وامرئ القيس. ويكفيه أن النقاد استبدلوا اسم ديوانه بعد وفاته كي يتمكن الناس من قراءته.
ذات جلسة، سئل نجيب عن أفضل طريقة يتعلم منها المرء الشعر وصياغة القصائد، فأجاب: "الشعر ميجيش بالتعليم، الشعر حاجة كده… يعني… يعني… يعني… زي… يعني… يخرب بيت أمك على أم سؤالك الغبي"، كذلك الحال بالنسبة للكرامة، متجيش بالتعليم، إنما هي حاجة كده يعني… يعني… يعني… زي… يعني".
لا تقل إن فلاناً تاجر، أو شيخ قبيلة، أو حاكم، أو وجيه، أو كاتب عربي يكتب في صحف عربية واسعة الانتشار، مضت عقود من الزمن وهو يلهط من أموال الشعوب ما تيسر، وإنه لا يحتاج إلى إذلال نفسه ومرمطة جبهته في التراب، باعتبار أن لديه من متاع الدنيا ما يكفيه. لا، لا تقل ذلك أبداً، فلا علاقة للشبع والثراء والمكانة بالشموخ الداخلي ورفض العبودية والاعتداد بالنفس، فالمسألة حاجة كده… يعني.
ولم يتخلف العربان بالمصادفة المحضة البحتة، بل نتيجة عمل دؤوب ومنظم من قِبل السلاطين ووعاظهم وشعرائهم وكتابهم وبصلهم وقثائهم. وكما فعل الشعب التشيلي بـ"أدباء البلاط" بعد إسقاط الديكتاتور "بيونيشيه"، سيفعل العرب في أبناء جلدتهم من أدباء "البلاطات"، خبراء اللعق.
هم – أقصد أدباء البلاط وكتّابه – على أي حال في خريفهم، بينما تعيش الشعوب العربية ربيعها، هم تصفرّ أوراقهم بعدما كانت بلون "الدولار"، والشعوب العربية تخضرّ صحاراهم، بعد سنين من القحط. وكما أن الخير ينتصر أخيراً على الشر، في المسلسلات العربية، كذلك تنتصر الشعوب، وسيسقط هؤلاء الكتاب والوعاظ وأشباههم، في الحلقة الأخيرة من المسلسل… هانت، نحن الآن في الحلقة ما قبل الأخيرة، أو التي قبلها.

محمد الوشيحي

دولة السفرة

وهكذا، سيختار الناخب نائباً واحداً يمثله، وستوزع الحكومة البيض على المواطنين. والقاعدة العسكرية تقول: "الجيوش تمشي على بطونها"، للدلالة على أهمية الغذاء في الحرب، والسلطة عندنا التبس عليها الوضع فظنت أن "الشعوب" هي التي تمشي على بطونها.
وكانت السلطة منذ فترة قد تحولت إلى "شيف" يلاعب سكين المطبخ بيده وخلف ظهره، و"يقصقص" الثوم في لمح البصر. وكانت قد منحتنا "مكرونة" في غضبتنا السابقة، واليوم ستمنحنا البيض، وكلما فسدت السلطة غضب الشعب، وكلما غضب الشعب هرولت السلطة إلى "سوق الخضرة"، واختارت من الخضراوات ما يفيد الجسم، وأحياناً تلجأ إلى البقوليات، وأخيراً لجأت إلى البيض، وسنستمر في غضباتنا وستستمر الحكومة في ملء السفرة وتجهيزها، وسينتهي بنا الحال نأكل العدس في السجون، والسفرة في بيت كل منا ملأى بما لذ وطاب.
على أي حال، مازال المشوار طويلاً أمام المعارضة والسلطة، ومازلنا في البدايات، بدايات الغضب، وبدايات ترتيب السفرة، لم ندخل بعد في صنف الفواكه، ولم نصل بعد إلى صنف الحلويات، وما أدراك ما الحلويات، شرقيها وغربيها، خذ مشوارك من "أم علي" و"البسبوسة" شرقاً إلى "براوني شوكليت" و"المافنيز" غرباً… ياه… السكة طويلة، وخيارات السلطة لا تنتهي.
وإذا كان الأوروبيون يتهكمون على الدول الشمولية بتسميتها بـ"جمهوريات الموز" -الهندوراس هي صاحبة السبق في التسمية، ومنها انطلقت لتشمل كل الدول الشمولية- فإننا في الكويت نفخر بأننا "دولة السفرة"، وما الموز إلا صنف واحد من بين أصناف الفواكه المتناثرة على سفرة لا يبدو أنها ستنتهي قبل نضوب النفط… لذا فالمستقبل عندنا مرتبط بفصول السنة، وبكميات الأمطار، والمساحات الخضراء، وكلما ارتفعت نسبة التصحر في الدول الزراعية ضاقت الحلول أمام السلطة عندنا، وقلت وسائل "تسمين الشعب".
جزئية واحدة فقط غابت عن السلطة، وهي أن صوت الغضب هو "الزئير" لا "الثغاء"، وأن الشعوب الحرة لا تقول "امبااااع".

محمد الوشيحي

الكوري على قرص وسمن

الدول كالنساء، تعشق الاستعراض… والآسيويون يزوروننا، وستستعرض الكويت أمامهم. والكويت وإن كانت تخلو من الأنهار والأشجار والمعمار فإنها لا تخلو من الآثار، وبالإمكان اصطحاب الوفود الزائرة إلى "سنترال الفحيحيل"،  ليتعلم اليابانيون منا الصبر على البلاء، وهو سنترال بُني قبل سقوط الدولة السلجوقية، تحديداً في اليوم الذي بنى فيه عمر الخيام مرصده الثاني، وإن كان الخيام قد ولى هارباً وترك مرصده يهدمه الغوغاء، فإن حكومتنا لم تهرب ولم يهدم الغوغاء السنترال، ولله الحمد! وبالإمكان إبهار الماليزيين بقدرة مرضانا على تلقي العلاج في الممرات في مستشفيات الجهراء والعدان، وإثارة دهشة الصينيين بقدرتنا على بناء مشاريع "ديمو" تُنطق ولا تُكتب، وهكذا…
وليس أمامنا إلا التظاهر أمام أعضاء الوفود بالزهد في الحياة الدنيا، واقناعهم بأن الآخرة خيرٌ وأبقى، وأن الدنيا بزخرفها ومغرياتها لا تعادل عندنا جناح بعوضة، كي لا يتساءل أحد منهم عن ثرواتنا وأموال نفطنا أين ذهبت وأين أثرها على الأرض، أو يتوهم أننا قوم نسرق الكحل من العين، لذا يجب أن نقدم لهم الطعام على الأرض، وعلى سفرة من الخوص، وفي آنية من فخار متآكل، تحوي القرص والسمن، فيتناول الكوري طعامه، فيضع يده على بطنه ويتلوى، وينسيه بطنه ما هو فيه، فينتخي بأخته ويهرول بأقصى سرعة إلى أقرب دورة مياه، وهو يلعن القارة التي جمعته بنا، فيعود إلينا بعد ساعة وهو يمسح العرق من على وجهه، ويبتسم ابتسامة بلهاء، فنسقيه شراب الشعير قبل أن يستوي في جلسته، فيجف ريقه، وتدمع عيناه، ويختلي بنفسه في البر، ويكتب قصيدة مطلعها "يا وجودي وجود اللي يزور الكويت".
ليس لحكومتنا، وهي التي منحت شعوب آسيا وأقرضتها خمسة مليارات ونصف المليار دولار، إلا أن تقنع الزائرين المنبهرين من ترهل بلدنا، أنها توطّن الشعب على الصبر على الجوع والحياة البدائية، وتقنعهم بأن حياة المدينة والتطور المبالغ فيه يجلبان الهم والغم، فتروي لضيوفنا قصص ترابط آبائنا بعضهم ببعض، عندما كانت الحياة بسيطة، وكيف كان الجار يحترم جارته ويعتبرها من أهل بيته، وكيف كانوا يتبادلون الطعام على شحه، ووو، بعكس التفكك الذي يسود المجتمعات المتطورة، التي لا يأبه فيها الأخ لأخيه، ولا الجار لجاره، ولا ولا ولا، وهي لهذا تحرص على الترابط الاجتماعي بين أفراد الشعب أكثر من حرصها على الأسمنت والأسفلت…
أما إذا أصر الزائرون على رؤية تطورنا البشري والعمراني، فلنأخذهم في زيارة إلى دبي أو أبوظبي أو قطر، وهؤلاء أهلنا، وسيجبرون عثرتنا، و"الناس للناس والكل بالله" كما يقول كبار السن… ويا هلا بضيوفنا.

محمد الوشيحي

باسوورد

"جميلة هذه الدنيا لولا "الباسوورد" – الرمز السري- سحقاً له ولأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه"… قلت هذا، فعقّب صديق: "الباسوورد مثل جدران بيوتنا ومثل ملابسنا التي تسترنا، لولاه كنا عرايا"، وثنّى آخر: "تخيل أن تنكشف أسرارنا العائلية ورسائلنا العاطفية واتصالاتنا التجارية ووو، ماذا سيكون الحال؟ احمد مولاك واشكره على نعمة الباسوورد"، ففتحت نافذة الخيال: "ماذا لو انكشف الناس على الناس واطّلع كل منا على رسائل الآخر واتصالاته؟" ورحنا نتخيل…
رحماك ربي، ماذا كنا سنقرأ في رسائل الوزراء والإعلاميين والنواب والتجار ووو؟ وماذا كنا سنقرأ تحديداً في رسائل "وعاظ السلطة"؟ أواه على اختلاف وعاظ السلطة ورسائلهم المتبادلة بعد تلقيهم الأوامر… أواه على أولئك الساسة ورسائلهم بعد خلو منصب… أواه على رسائل ذلك التاجر مع مدير شركته، وهو يأمره بتخفيض سعر المناقصة، على أن يتدبر هو "الأوامر التغييرية"، ويحثه، بعد رسو المناقصة على شركته، بالبحث عن أرخص عمالة وأسوأ مواد وأقلها كلفة، قبل أن يتباكى على حب الكويت.
وفي البرازيل، قبل نحو سنة، أقدم مجموعة من الشبان العاطلين عن العمل على خطف عمدة المدينة، بعد أن اتخذ موقفاً تجاههم، وعندما اقتادوه تلقى رسالة على هاتفه، فأرغموه على الكشف عن الباسوورد، فكانت المفاجأة: "رسالة من عضو مهم في الحزب المنافس لحزب العمدة يملي عليه الأوامر"، وتبين أنه يتلقى الأموال من الخصوم ليشوّه سمعة حزبه ويسيء إليه! واكتشف الخاطفون أنه ليس الوحيد المخترق في الحزب، وأنه وآخرين من أعضاء حزبه يزرعون المشاكل في حزبهم لمصلحة الحزب المنافس، وينقلون ما يدور في اجتماعات الحزب إلى خصومهم، وصعقوا عندما قرأوا رسائله المتبادلة مع بعض رجال الأعمال، ومع قيادات في الشرطة والقضاء ووو، وكلها تدور حول تبادل الرشوة والمنفعة، وغير ذلك.
وأجزم بأن العمدة البرازيلي ملاك بأجنحة أمام الكثير من سياسيينا وإعلاميينا… فاللهم احفظ الباسوورد وأطل عمره وارزقه من حيث لا يحتسب.

محمد الوشيحي

أمراء الإنسانية

كان بإمكانهم تغليفها بورق السولوفان وإهداؤها لوزير الداخلية، أو تعبئتها في زجاجات ملونة وتقديمها للحكومة في عيد ميلادها، أو تقطيعها وتجزئتها، كأوراق ملونة، ونثرها في الهواء في أعياد الحكومة أو احتفالات طهورها. كان بإمكانهم إدراجها في البورصة، وتدعيم سهمها بأذونات الخزانة، والاقتراض باسمها لحساباتهم الشخصية. كان بإمكانهم الاكتفاء بالتصاريح مع مط البوز وإظهار الشفة السفلى اللامبالية وفتح الكفين إلى أعلى، دلالة قلة الحيلة وعدم القدرة على فعل ما هو أكثر من ذلك، وكنا سنصدقهم.
كان بإمكانهم وإمكانهم، وكانوا سيأكلون الشهد لو فعلوا ذلك… أتحدث عن جمعية حقوق الإنسان وعن شبان مجلس إدارتها الجديد الفتيّ، لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل ارتدوا الخوذة و"أوفرول العمل" واستعانوا بحبات العرق ونبضات القلب المتسارعة ليعيدوا إلى الجمعية بهاءها تحت دخان القنابل المسيلة للدموع. وكم اختلطت دموعهم بدموع "البدون" في المظاهرات، وكم زاحموا المتظاهرين على الصفوف الأولى، يراقبون ويحذّرون، وكم تلامست أكتافهم وأكتاف رجال القوات الخاصة في الميادين، وكم كتبت أقلامهم الغاضبة التقارير الصادقة تلو التقارير، فانزعجت وزارة الداخلية وانزعج كل أفاق أثيم.
هذه هي جمعية حقوق الإنسان التي نسمع عنها ونقرأ، هذه هي جمعية حقوق الإنسان كما شرحتها الكتب، هذه هي جمعية حقوق الإنسان التي يجب، ويجب معناها يجب، أن تكرهها الحكومات الفاشلة، ويحترمها دعاة الحريات ويحبها المظلومون. نقطة على السطر.
وكم متربص تربص بمجلس إدارتها الجديد، وكم قاطع طريق كَمِنَ له بين الحشائش، وكم ناقد نقد، وكم قادح قدح، لكن "الميدان" كان شاهداً وكاتباً للتاريخ… ويا سبحان الله، كأننا نقرأ سيرة أمير الشعراء أحمد شوقي، وما تعرض له من "هجوم" شرس شنّه عليه وعلى شعره الفطاحل الكبار طه حسين وعباس العقاد وعبدالقادر المازني وغيرهم، فهمس لجلسائه "لقد أدموا جسدي"، وكيف لا يدميه نقاد عباقرة كهؤلاء، وأخص العقاد منهم، ومع ذا ورغم أنف ذاك أكمل شوقي مسيرته وحاز لقب "أمير الشعراء".
وإذا كنا نشبّه شبان مجلس إدارة جمعية حقوق الإنسان بشوقي، فلن نظلم ونشبه ناقديهم و"حاقديهم" بالعقاد وطه حسين والمازني، ولن نخجل من رفع "عُقُلنا" لـ"أمراء الإنسانية".

محمد الوشيحي

الموضة… معارضة المعارضة

الأيام دول، وموضات… والله يرحمك يا “شارلستون”. من هو شارلستون؟ علمي علمك، لكن اسمه كان يُطلق على البنطلونات الضيقة من الأعلى والواسعة من الأسفل، وكان هو الموضة أيام صبا سهير رمزي ونجلاء فتحي وسعاد حسني.
وكانت موضة الشباب في الكويت تلك الأيام “الآفرو”، ينفخ الواحد منهم شعره، ويركز المشط في وسط شعره، ويضع الغترة على كتفه، ويتمشى بغرور موسوليني وصلف ذكر الطاووس.
الأيام يا صاحبي دول، وموضات… راحت موضة القميص الرجالي الشفاف شفافية اقتصاد فنلندا، الذي كان يكشف شعر صدر الشاب، وتبعتها موضة القميص “المربعات” أو “الكاروهات” كما يسميه المصريون.
الأيام دول وموضات… راحت موضة الكاتب الصحافي الذي ينثر الأوراق والصحف أمامه على المكتب ويدخن السيجار، وموضة المسؤول الذي تستضيفه الصحيفة وتلتقط له صورة وهو يقرأ الصحيفة ذاتها، العدد القديم منها، لفرط غبائه وغباء أهله الكرام.
موضات كثيرة تلاشت وتطايرت كدخان السيجارة، أسقطها ربيع ثورات الأناقة… حتى في السياسة المحلية تلاشت موضات وسيطرت موضات أخرى، وكان النائب الحكومي يمشي بلا رقبة، وكانت عينه في صداقة حميمة وعشق مع الأرض، وكان يعرف “موقعه من الإعراب” ويُدرك أنه “مجرور بحرف الجر”، وهو لهذا قانع وبهذا راضٍ، ولن تجده يدعي “الضمة” ولا يزعم أنه “فاعل”… راحت هذه الموضة، وجاءت موضة النائب الحكومي البجح ذي الوجه البلاستيكي، الخالي من كريات الدم الحمراء.
على أن الموضة الأشهر هذه الأيام هي “معارضة المعارضة”، فأخونا الحكومي لم يجد من أفعال الحكومة ما يدافع به عنها، فلجأ إلى ضرب المعارضة، وكلّه يكسّب… انتشرت هذه الموضة كانتشار الوباء المعدي، فهذا يضرب المعارضة ليتقرب من السلطة والحكومة والمشاريع، وذاك يقصفها بالمنجنيق لدواعي الطائفية أو السفر، وذاك يدك حصون المعارضة ليكتب اسمه “ع الحور العتيق” كما تقول فيروز، وذاك يسوطها بسوطه المسموم وهو يدعي انتماءه إليها، ووو…، وقلة قليلة، لا تكاد تُرى بالتلسكوب المجرد، تهاجم المعارضة لتقويمها وتقويم اعوجاج أسنانها.
الأيام دول وموضات… والموضة المقبلة هي “زرع” أحد السياسيين في جسم المعارضة، ليتمكن من خلخلة برامجها وأولوياتها والعبث في جهازها التنفسي من الداخل… انتظروا التفتيحة الجديدة.

محمد الوشيحي

حوارٌ بلغتين…

سامح الله من قال إن العرب تجمعهم لغة واحدة. سحقاً لأمه، كيف ذا ونحن في الكويت لا يفهم بعضنا حديث بعض! للسلطة لغتها الخاصة بها، لا يفهمها إلا أنصارها ومحبو عطاياها وقوافل مساعداتها، وللمعارضة لغتها الخاصة، وهي لغة يستخدمها السكان ممن لم يجروا عمليات “إزالة المرارة”.
وسقى الله أحمد مطر، الشاعر العراقي الثائر، الذي سخر من اجتماعات القمم العربية وشخر، وكتب واحدة من أجمل القصائد عن طريقة الحوار ونوعيته:
“مر (شعواط) الأصم
بالفتى( ساهي) الأصم
قال ساهي: كيف أحوالك… عم؟
قال شعواطُ: إلى سوق الغنم.
قال ساهي: نحمد الله … بخيرٍ.
قال شعواط: أنا شغلي الغنم.
قال ساهي: رضة في الركبة اليمنى
وكسرٌ عرضيٌ في القدم.
قال شعواط: نعم… أقبل الشغل
فلا عيب بتحميل الفحم.
قال ساهي: نشكر الله… لقد زال الألم.
قال شعواطُ: بودّي… إنما شغلي أهم؟ لمَ لا تأتي معي أنت إلى سوق الغنم؟
قال ساهي: في أمان الله… عمي،
إنني ماضٍ إلى سوق الغنم.
الحوارات لدينا
هكذا تبدأ دوماً… وبهذا تختتم.
اسمها الأصلي “شعواطُ وساهي”
واسمها المعروف رسمياً “قمم”.
انتهت قصيدة أحمد مطر، ولم تنتهِ مآسينا. وإذا كان شعواط وساهي تقابلا وتحدثا، فإن السلطة والمعارضة الشعبية في الكويت لا أمل في لقائهما، لاختلاف اللغات، إلا باستخدام الإشارة أو الهراوة.

محمد الوشيحي

السعدون… البعير العماني

هم هكذا أعداء الجمال، قلوبهم متصحرة، تكره ألوان الورود، وقطرات المطر، والضحكات الصافية، وتحقد أكثر ما تحقد على الناجحين.
تلقائياً يتمايل عشاق الوطن مع كلمات الرئيس الشعبي أحمد السعدون، ويصفقون إعجاباً بصوت رقرقة الماء في نهر عطائه الذي لا ينضب، هذا النهر الذي يسقي زروع البسطاء، بعد أن حاول “باشاوات النفط” حصره على فدادينهم… يقابل هذا التصفيق للرئيس زعيقٌ ونهيق بحجة “لا تقدّسوه”. يقولون ذلك وهم يسبحون بحمد كل لص يشفط خيرات البلد شفطاً مبيناً.
وبعفوية يتحدث أحد الأصدقاء: “أنا اكتفيت بالتصفيق في قلبي للسعدون ولمسلم البراك وغيرهما من الأحرار كي لا يتهمني أحد بتقديسهم”، قلت: “أنت لم تصفق لهم في قلبك، بل تحت الطاولة، وكأنك تسرق، وكأنك ترتكب إثماً، وكأن الثناء على العطاء منقصة”، قلت ذلك وأضفت: “فوقها لا تحتها، صفق فوق الطاولة لا أم لك، صفق بأعلى ما في كفيك من صوت ليسمعك من في أذنه صمم، صفق وارفع يدك ببطاقتك الشخصية أمام الكاميرا كي يقرأ الناس اسمك، كما يفعل عساكر بشار عند انشقاقهم عن جيشه وانضمامهم إلى الجيش الحر، صفق ولا تأبه بالنعيق ولا الفحيح ولا الزعيق، صفق كي يقتدي الجيل الجديد بالأحرار، صفق”.
منذ عرفنا السعدون وهو مستمر في خطه، كالبعير العماني، لا يلتفت لحصاة أصابت سنامه، حذفه بها سارق غاضب، ولا يكترث بصيحة خرجت من حنجرة جفّت بعد أن سال لعابها طويلاً على أموال البلد… هذه طبيعته، يصبر وإن جف ريقه كما يصبر البعير، ويثبت في مسيره، كما يثبت البعير، هذه شخصيته التي أحرجت كارهيه وأبهرت محبيه، فلماذا لا نصفق؟
تقوّلوا عليه، فلم يرد، افتروا واختلقوا القصص والروايات، فلم يلتفت إليهم، كانت كلماتهم كالزجاج الحاد، وكان كالجدار، تكسّر كل الزجاج لحظة ارتطامه به.

وكما تفخر الشعوب بأبطالها ورموزها، نفخر نحن ونفاخر بسعدوننا، فكيف يخجل من يفخر؟ ولو أنه تعنصر ما صفقنا له، ولو كان طائفياً يقتطع الأشجار ليبيعها ورقاً ما أيدناه، ولو كان متعجرفاً ينظر إلى الناس من الشرفة ما أحببناه، ولو كان أو كان أو كان، ما كنا ولا كنا ولا كنا… لكنه كان ومازال، فكنا ومازلنا، كان يحترق لأجلنا ومازال، وكنا نصفق له ومازلنا… فوق الطاولة.