احمد الصراف

ثروات العقول

توقفت طويلا أمام ما ذكره المخرج الإيراني أصغر فيرهاردي عندما أعلن عن فوزه بجائزة الأوسكار عن فيلم «انفصال»، كأفضل فيلم أجنبي، حيث ذكر أنه يهدي الفوز لشعبه، (وليس للمرشد الأعلى، كما جرت العادة)، وان شعبه يحترم كل الثقافات والحضارات، وينبذ الحقد والكراهية (وهنا ايضا أرسل رسالة ضمنية لمن يهمه الأمر). كما أظهر إنسانية واضحة في رسالته القصيرة، ورفض كل ما يمثله نظام ملالي وطنه من معاداة للمحبة والتآخي! وقد ذكرتني كلمته بقصة ذلك الطبيب الإيراني المعروف الذي وقف وزوجته في مطار مهراباد، الذي ربما اصبح اسمه، ككل شيء آخر، «خميني»، بانتظار الانتهاء من إجراءات خروجهما، عندما طلب منهما رجل الأمن التبرع بحليهما ومجوهراتهما لدعم مجهود الحرب مع العراق! وفعل الطبيب ما طلب منه، كبقية المسافرين الآخرين، وهنا نظر الرجل لخاتم صغير في اصبعه وطلب منه خلعه، فهو لن يغادر بجزء من ثروة الشعب! وهنا نظر الطبيب بأسى لذلك الرجل البائس وقاله له، وهو يشير إلى رأسه، هذه هي ثروة الشعب التي أقوم بإخراجها! ولم يفهم رجل الأمن الرسالة، وتركه يغادر بـ«عقله» إلى الغرب، مع مئات آلاف غيره من خيرة المهندسين والاختصاصيين والخبراء إلى الغرب. ولو أرادت قوى الغرب والصهيونية والاستعمار والاستكبار والاستحمار مجتمعة الإضرار بإيران لما نجحت في تفريغها من أهم ما فيها، وهو عقول ابنائها، كما نجح في ذلك نظامها الديني، الذي سره التخلص من كل اصحاب العقول!
الطريف، او المؤسف، في الموضوع أن حكومة ملالي طهران سبق أن منعت الفيلم الفائز من العرض، ولكن انسجاما مع الفرحة الشعبية، اضطرت، وإن على مضض، للترحيب بالفوز، قائلة، بطريقتها الملتوية كالعادة، انه يمثل تعبيرا عن «انتصار» الثورة الإيرانية ضد النظام الصهيوني، و«بداية انهيار» النفوذ الإسرائيلي في أميركا! ولو لم يفز الفيلم لقالت ان في الأمر مؤامرة إمبريالية صهيونية، وهذا أمر محير حقا!
الطريف أيضا أن الكثيرين يعتقدون بوجود مؤامرة ضد فوز العرب والمسلمين بالجوائز والميداليات العالمية سواء نوبل أو الأوسكار وغيرها، ولكني أتحرق شوقا لمعرفة اسم انتاج أو عمل فني أو ثقافي أو أدبي واحد من أعمالنا، ألهم العالم وفاقت مبيعاته كل التوقعات وبهر بإنتاجه او إخراجه الملايين ولم يفز بأي جائزة عالمية!

***
• ملاحظة (1): يتوافر لدينا رابط فيلم «الانفصال»، الناطق بالفارسية، والمترجم إلى الإنكليزية. يرجى إرسال رسالة قصيرة بذلك على الإنترنت.
• ملاحظة (2): بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، فإننا نشارك «الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية» في دعوتها للتجمع بهذه المناسبة في ساحة الإرادة غدا الخميس 2012/3/8 من 5 والى 7 مساء.

أحمد الصراف

احمد الصراف

جبل الجليد

معلوم ان مغريات الحياة ومباهجها يمكن ان تليّن اكثر المواقف صلابة، خاصة ان كان صاحبها يشكو من حرمان مزمن، ويبدأ اللين عادة مع وصول المحروم، وخاصة ان كان مغاليا في تدينه، إلى السلطة. هنا نجد انه يدخل في صراع بين ما يتطلبه مظهره الخارجي منه، وسابق المغالي من آرائه، وبين المغريات التي اصبح باستطاعته الحصول عليها بحكم وضعه الجديد. هنا لا يجد امامه غير الكذب والرياء!
قصة او حالة النائب السلفي المصري، عضو حزب النور، انور البلكيمي لا تختلف عن قصص غيره من المتصدين للدعوة والنصح والارشاد، ممن «وصلوا»، ولا يزال طعم الحرمان القديم قابعا تحت ألسنتهم، فقد اضطر هذا النائب ليس إلى تلفيق قصة قيام جماعة بالاعتداء المسلح عليه، وسلب مائة الف جنيه منه فقط، ان بسبب مواقفه او لغير ذلك، بل وقام بالتستر على فعل يمنعه «جديد» تدينه من القيام به اصلا، وقام بكل ذلك بغباء مفرط ومتوقع، وهذا ما سبق ان اثبتته التجارب من افتقاد المغالين في مواقفهم لما يكفي من «الآي كيو»، حيث روى حادثة سهلة الانكشاف، وكان بإمكانه الادعاء بسقوطه في الحمام على وجهه وكسر عظمة انفه مثلا، ولكنه لفق قصة الاعتداء، لكي يضرب عصفورين بحجر، اولا لكسب تعاطف الناس معه، وثانيا للتغطية على فعل محرم، فحزبه السلفي يحرم التلاعب بـ«خلقته»! ولكن الشيخ انور بعد ان اصبح عضوا في مجلس الشعب، واصبحت مباهج الحياة في متناول يديه، اراد ان يكون في «اجمل» صورة، وان يتجمل استعدادا للمرحلة الجديدة، وقصة ضابط الشرطة المصري، في آخر ايام عهد مبارك، الذي تحول الى داعية سلفي في اول ايام المجلس العسكري، ليست بعيدة عن الذاكرة، ولا استبعد ان تكون الغالبية لدينا ولديهم من طينته وإن بأشكال مختلفة.
قصة انور البلكيمي هي مثال صارخ على الوصولية والتلاعب بمعتقدات وعواطف العامة التي لا يعرف كثيرون منهم الفرق بين العود وحرف الالف، والذين اعطتهم «الاقدار» حق فرض من تراه علينا كمشرعين، وهؤلاء لن يكتفوا بتشكيل عقولنا على مقاسات عقولهم، بل وباشروا التخريب منذ اول اجتماع عقدوه في مزرعة لتحديد اولوياتهم كأعضاء في مجلس الامة الكويتي، ولم يكن غريبا ان جميع تلك الاولويات لم يكن بينها اي مشروع انمائي اقتصادي حيوي او صحي او تعليمي!
المهم ان حزب السلف المصري، بهيئته العليا، اكتفى باستقالة نائبه والاعتذار لما سببه موقفه المضحك المبكي من احراج للسياسيين والمسؤولين، الذين قاموا بزيارة النائب في المستشفى، وتناسى الحزب ان «انور بيه»، الذي طار منه لقب الشيخ، لم يكن غير رأس جبل الجليد الذي يختفي تحت مياه آسنة! والمستقبل القريب سيكشف اننا كنا على حق، وان من اختارتهم الجماهير لحكمنا لا يشكون من شيء اكثر من الخواء، والخوارة التي شاهدناها في طريقة الادارة «الخالدة» لإحدى جلسات مجلس الامة الكويتي الاخيرة، خير دليل!

أحمد الصراف

احمد الصراف

تغير الأفكار والمعتقد

أرسل الزميل العراقي عبدالخالق حسين ايميلا تضمن مقالا تنويريا بعنوان «لماذا يغيّ.ر المثقفون قناعاتهم؟». وذكر فيه أنه سبق أن تطرق لهذا الموضوع في مقال نشر قبل 7 سنوات رداً على مقال كتبه السيد نجم عبدالكريم، في صحيفة «ايلاف» الالكترونية، تهجم فيه على المثقفين والليبراليين، لدأبهم على تغيير مواقفهم! وقد استوقفني مقال الزميل حسين وجعلني أفكر في الكثير من مواقفي القديمة ومقارنتها بالحالية، فوجدت، بالرغم من اتفاقي مع ما ذكره من أنه ليس عيبا على المثقف، ان كنت مثقفا، تغيير مواقفه وآرائه، بأنني قلما تغيرت سياسيا ودينيا وفكريا منذ نصف قرن تقريبا! فوفق ما تسعفني ذاكرتي فان أغلب آرائي في الحياة صمدت بشكل عام، وخصوصا في ما يتعلق بالمرأة ومكانتها وحقوقها. اما سياسيا فلا شك أنها تبدلت وتغيرت مع الوقت، فقد شاركنا الكثيرين في «شبه عبادة» عبدالناصر. كما ساهمت بساطة الحياة السياسية التي كنا نعيشها في ستينات وسبعينات القرن الماضي في جعل آرائنا أكثر ثباتا، فانتماءاتنا الحزبية كانت هامشية، واقرب للترف الفكري، عكس ما كان الحال عليه في دول كالعراق وسوريا ومصر وحتى لبنان والأردن، وبالتالي لم يتقلب المثقفون بغالبيتهم أو حتى انصافهم من حزب لآخر أو من عقيدة سياسية لأخرى بشكل مكثف، ولم تعرف الكويت السجون السياسية أو سجناء الرأي الا نادرا! ولكن مع هذا يمكن القول إن التغيير طال الجانب الديني عند الكثيرين، فنسبة من تقلبوا من جانب الى آخر كبيرة حقا، فقد رأينا كيف انقلب السكير والشرير الى داعية يضع على رأسه شرشف سرير، وكيف حدث العكس أيضا، ولكن من غير شرشف ولا سرير! كما نجد أن التغيير طال افكار وآراء الكثيرين من قضايا كالثورة الايرانية ومن صدام حسين، ومؤخرا من السيد حسن نصر الله، الذي انقلبت آراء الناس فيه من حب، لبغض، لوله، لكراهية! وهنا نجد، كما ورد في رسالة الزميل حسين، أن لا بأس، الى حد ما، من قيام فرد بتغيير مفاهيمه او مواقفه متى ما ظهرت له حقائق جديدة لم يكن يعلم بها، ولكن يصبح الأمر انتهازيا متى ما كان التغيير من أجل تحقيق مصالح شخصية، وهذا ما رأيناه في مصر اخيرا عندما تحول ضابط الشرطة السابق الى داعية سلفي ومرشح لعضوية مجلس الشعب!
ولتأكيد أن التغيير يعني التطور وأن لا شيء ثابتا في الكون استشهد الزميل بمقولات لمثقفين وفلاسفة كبار، يؤكدون فيها ضرورة تغيير المثقف لـ «جلدته» متى ما تطلب الأمر ذلك، فالفيلسوف البريطاني برتراند رسل يقول: أنا لست مستعداً أن أموت في سبيل أفكاري لأنها قد تتغير. وعن الأديب فكتور هوغو: «انه لثناء باطل أن يقال عن رجل ان اعتقاده السياسي لم يتغيَّر منذ أربعين سنة، فهذا يعني أن حياته كانت خالية من التجارب اليومية والتفكير والتعمق الفكري في الأحداث، انه كمثل الثناء على الماء لركوده وعلى الشجرة لموتها». وفي قول لعلي الوردي، المفكر وعالم الاجتماع العراقي: «الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام. والذي يريد أن يبقى على آرائه العتيقة هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد». وفي قول آخر له: «كلما ازداد الانسان غباوة ازداد يقيناً بأنه أفضل من غيره في كل شيء»! ألا يذكرنا القول الأخير بالبعض منا؟

أحمد الصراف

احمد الصراف

الأثر والتراث

طلبت المُدرّسة من تلاميذها كتابة اسماء جميع زملائهم في الفصل على ورقة، وترك فراغ بين الاسم والآخر لكتابة خصال وحسنات كل واحد منهم، وان يسلموا أوراقهم لها لتعيدها لهم في اليوم التالي، وهنا قامت المُدرّسة بتفريغ ما دوّنه كل طالب عن الآخر على أوراق جديدة تتضمن كل واحدة ما كتبه زملاؤه عنه، وقامت بإعطاء كل واحد كشفه الخاص الذي تضمن الخصال الطيبة التي اعتقد الآخرون بوجودها لديه أو لديها، ولاحظت المُدرّسة أن خلال لحظات ارتسمت ابتسامات عريضة على وجوه الكثيرين منهم، مصحوبة بهمهمات ودهشة بيّنت أن الغالبية التي لم تكن تعرف مكانتهم في نفوس غيرهم وما كانوا يعنونه في عيونهم وطيب خصالهم، وكان البعض يعتقد أن لا أحد يهتم به، أو أن له كل تلك المكانة في قلوب كل ذلك العدد!
لم تسمع المُدرّسة بعدها بآثار تلك التجربة، فقد ادت دورها وأدخلت الفرحة على قلوب طلبتها، وأصبح تاريخا بالنسبة لها. بعد سنوات انتشر في المدينة الصغيرة خبر مقتل أحد أبنائها في حرب فيتنام، ولما كان أحد طلبة تلك المُدرّسة ومن المميزين لديها، فقد قررت زيارة بيته لتقديم واجب العزاء لوالديه. وهناك اقترب جندي وسألها إن كانت مُدرّسة زميلهم القتيل، وعندما هزّت رأسها بالإيجاب قال لها إنه كان دائم الحديث عنها! وبعد انتهاء مراسم الدفن ذهب الجميع للقاء «تأبيني» في أحد المطاعم، وتواجد هناك اصدقاء الجندي الفقيد ووالداه، وبعض زملاء دراسته، وتقدم والد الجندي وقال لها: أريد ان اريك شيئا وجد في محفظة ابننا، ربما بامكانك التعرف عليه. وعندما فتحت المدرّسة الورقة المطوية بعناية، بالرغم من أطرافها المهترئة، فوجئت بأنها الورقة نفسها التي سبق ان أعطته إياها وزملاءه الآخرين، والتي احتوت على كل الخصال الجميلة التي رآها الآخرون فيه! وهنا قالت أم الجندي بأنهم يدينون بالشكر لها لدورها الإيجابي في حياة ابنهم، وأن ابنهم كان يعتز بتلك الورقة ويعتبرها ذخرا. وهنا تجمع بقية زملاء الجندي حول المدرّسة، وقال أحدهم بانه لا يزال يحتفظ بالورقة في درج مكتبه العلوي، وقالت زوجة أحد طلبتها إن زوجها طلب منها أن تضع الورقة في ألبوم زواجهما. وقالت أخرى انها تحتفظ بالورقة في محفظة يدها، وانها تطالعها كلما شعرت بالحاجة لرفع معنوياتها، وأنها تعتقد بأن الجميع احتفظ بورقته تلك بطريقة او باخرى، وهنا لم تتمالك المدرّسة الموقف وجلست على اقرب كرسي وانخرطت في بكاء صامت!
الرسالة هنا واضحة، وهي أننا يجب ان نحرص على أن نخبر الآخرين بمشاعرنا ومحبتنا لهم، وأنهم مميزون في حياتنا، فقد يأتي وقت لا نجدهم فيه حولنا لنخبرهم بمدى حبنا لهم. والأمر الآخر أننا كشعوب «متخلفة قسرا» قلما نهتم بتراثنا والقديم من آثارنا، فهذا ما لم نعتد عليه، أو نتعلمه، إن بسبب تراثنا المتخلف أو سيطرة ثقافة الصحراء على عقلياتنا، وبالتالي خلت مناهج الدراسة من مواد تتعلق بغرس قيم المحافظة على التراث والآثار في نفوسنا، فأصبح كل شيء في حياتنا مؤقتا كاشكال تلال الرمال! ومن زار المقدس من الأماكن الأثرية، فوجئ بكم التدمير والإزالة التي طالت تلك الأماكن، وجعلت من المستحيل الاستدلال على أي بيت أو محل طالما تحدث التاريخ عنه، حدث ذلك ولا يزال بالرغم من الدور الذي لعبه هؤلاء في أولئك الذين كان لهم دور في تغيير مجرى التاريخ البشري والديني، وفهمكم كاف، ففي الفم ماء.. كثير!

أحمد الصراف

احمد الصراف

اليوسفي والتحدي الكوري

يتحدث الكاتب والباحث مالكولم كلادويل الصحافي في «نيويورك تايمز»، في كتاب له بعنوان «The Tipping Point»، عن لحظات في حياة أفراد ومؤسسات وشركات طرأ فيها انقلاب كبير، قلب مقاييس كثيرة وادى ذلك إلى نشوء أو اختفاء منتجات أو ثروات هائلة خلال لحظات! ومن تجربتي الشخصية أجد أن المثال ينطبق على كثيرين في الكويت، ومنهم المرحوم عيسى اليوسفي! فقد عرفت هذا الإنسان الكبير والكريم، وأنا طفل، من خلال صداقته لوالدي، وكنت في منتصف خمسينات القرن الماضي ازور محله الصغير الواقع في السوق الداخلي، مركز غالبية تجار الكويت وقتها، ومنهم وكلاء كثير من الأجهزة الكهربائية الاميركية والأوروبية المعروفة مثل: وستنغهاوس وباي وغيرهما. ووفق ما فهمت وقتها أن مندوبا لشركة اجهزة كهربائية يابانية انتهت به قدماه المتعبتان إلى محل المرحوم اليوسفي، بعد أن يئس من ان يجد من يقبل بأن يكون وكيلا لمنتجات شركته في الكويت. والسبب ألا أحد وقتها كان على استعداد لأن يقبل بمثل هذه المغامرة، فقد كانت المنتجات اليابانية «مضحكة» في سرعة تلفها، وكانت مصدر سخرية، مقارنة بمتانة مثيلاتها الأوروبية والأميركية. ولكن اليوسفي قبل التحدي، وكانت تلك نقطة الانقلاب، او التحول في حياته، فذلك البائع لم يكن غير ممثل شركة «باناسونيك» العملاقة!
ما واجهته المنتجات اليابانية من صعوبة في تقبل المستهلك لها واجهته البضائع الكورية بعدها ببضع سنوات، مثلها مثل منتجات هونغ كونغ والصين، ومن يصبر قليلا سيجد ان منتجات هذه الدول ستغرق جميع الأسواق لا محالة في المقبل من السنوات. ولكن ما يهمنا هنا هو الحديث عن «المعجزة الكورية»، فخلال أقل من 50 عاما، وبعد حرب أهلية طاحنة فقدت فيها كوريا أكثر من مليون قتيل وجريح، بدأ بناء الدولة من تحت الصفر بكثير، وبالرغم مما تبع توقف الحرب من انقلابات عسكرية واغتيالات وفضائح، فإن الكوريين، بالرغم من تاريخهم المتواضع، وعدم تبنيهم لأي رسالة سماوية، اثبتوا للعالم ان المحك ليس الثراء ولا السمعة ولا التاريخ «الحضاري»، بل الإنسان، وأن المواطن لا يمكن أن ينتج خيرا إن لم يشعر أن له دورا في بناء الدولة، وليس «فردا من الرعية»، وبأنه سيبقى على الهامش إن انتظر معجزة من السماء لكي تنتشله من مشاكله وحروبه وبؤسه. وقد اعتمدت كوريا في تقدمها المستمر على مدى نصف قرن على عاملين، مناهج دراسية علمانية صرفة، تعتمد على المنافسة الشرسة، وثانيا قوة عمل مدربة بمستوى عال، وهما مفتاحا النجاح لأي مجتمع صناعي.
وقد بدأ التسارع في التقدم قبل عشرين عاما فقط عندما انتخبت كوريا اول رئيس مدني لها عام 1992، في أول انتخابات حرة بعد ثلاثين عاما من الاضرابات والاعتصامات والانقلابات، ومن هنا بدأ التطبيق الفعلي لليبرالية، ومنها حدثت نقطة التحول الحديثة مع حريات النشر والتعبير والتجمع، فبغير شعب حر لا يمكن بناء دولة حديثة! والكلام لكم يا نواب مجلسنا الذين حضرتم إلى المجلس، وفي جيب كل منكم أقلام شطب وكمامات خنق وأصفاد وسلاسل تريدون بها القضاء على حرية التعبير، وتغطية العيون وربط الأيدي وإغلاق العقول، ومنع حتى التفكير، طاح حظهم!

أحمد الصراف

احمد الصراف

هل نحن حقا متدينون؟

عنوان المقال هو تساؤل طرحه الأديب المصري علاء الأسواني في مقال نشر له أخيرا عن حقيقة تدين مجتمعاتنا الإسلامية، والعربية بالذات، وشكك في الأمر، وقال إن الواقع غير ذلك، وأورد قصة صديق له مع صيدلي ملتح رفض اعطاء والدته حقنة إنسولين، بعد نوبة فاجأتها في منطقة نائية، بحجة مخالفة ذلك للشرع، وطلب منه البحث عن طبيبة، ولم يقتنع بأنها جاوزت السبعين، وحالتها خطرة! كما تعرض لظاهرة تعطل كثير من الخدمات الضرورية، وبخاصة الخدمات العلاجية في المستشفيات، في رمضان، بسبب مغادرة كثير من الطاقم الطبي، وحتى من العناية المركزة والحوادث، لأعمالهم لتناول الافطار، ولا يعودون قبل ساعتين كاملتين، حتى يتسنى لهم أداء صلاة التراويح في المسجد. تاركين المرضى المساكين لمواجهة مصيرهم، فقد تتدهور حالاتهم أو يموتون، بينما الأطباء والممرضون يتعبدون في المسجد، لأنهم ربما يعتبرون أداء صلاة التراويح أهم بكثير من أي شيء في الدنيا، حتى ولو كانت حياة انسان بريء مريض يفترض أنهم مسؤولون عنه! وهذه الظاهرة وجدنا انها اصبحت تتفشى في الكويت في كثير من المرافق، وخصوصا في المطار والمخافر، ومراكز الخدمة الليلية، ومعروف ان الانتاجية في شهر الصيام، وبخاصة في الفترة المسائية تهبط إلى درجات متدنية، ومرشح لها أن تتزايد مع تزايد أعداد «حماة الدين» في السلطة التشريعية!
ويتساءل الأسواني عن سبب إصرار بعض الضباط في مصر على السماح لهم بإطلاق لحاهم، وكيف أن هؤلاء كانوا شهودا بائسين على جرائم العهد السابق، وشاهدوها وشاركوا فيها، أو على الأقل كان لهم علم بها، ومع هذا لم يتركوا ليحتجوا ان ينبسوا بكلمة أو يستقيلوا، فكيف اصبحت اللحية الآن عندهم أهم من شرف وعرض وحياة وصراخ وآلام وكرامة الملايين من اخوتهم وابناء وطنهم من ضحايا النظام السابق، وما سبقه على مدى 60 عاما؟ وكيف أصبحت مسألة إطلاق اللحى معركة مقدسة لكثير من الضباط بعد رفض القيادة لطلبهم؟
كما تطرق لظاهرة غريبة، نعرفها جيدا في الكويت منذ عقود، وتتعلق بذلك الإصرار الشديد على أداء الصلاة في المسجد، ولو تطلب الأمر افتراش الشارع واغلاق الشوارع واحتلال الأرصفة، وهذا جميل لو كان هذا التصرف يعكس حقيقة تعاملاتهم اليومية والمالية وتصرفاتهم، ومدى قربهم من الصدق والوفاء بالوعد والدين وعدم حلف الكذب والغش في البضاعة، وان هذا يمثل انفصالا بين العقيدة والسلوك، ولو كان الأمر مقتصرا على قلة لقلنا بنفاق هؤلاء، ولكن ما الوصف المناسب إن كان الأمر يشمل قطاعات كبيرة من المجتمع؟ علما بأن هؤلاء المتدينين الذين يحرصون على الشكل من دون الجوهر ليسوا بالضرورة منافقين أو أشرارا، لكنهم ببساطة يطبقون الدين كما فهموه وتعلموه. وان القراءة الرائجة للدين الآن في مصر تقدم الشكل على الجوهر، وتهتم بالعبادات أكثر بكثير من السلوك، وهذه الطبعة من الاسلام ليست مصرية في الواقع، لأن التدين المصري المعتدل انسحب أمام الاسلام الوهابي القادم من الخليج. وتم على مدى ثلاثين عاما استعمال أموال النفط الوفيرة لإغراق مصر وغيرها بالافكار الوهابية، وهذا الدعم للمذهب الوهابي غرضه سياسي بالأساس!
والآن بما ان الكويت تسير على درب مصر، بفضل فشلهم وفشلنا في تحصين ابنائنا من هذه الأوبئة، بالأفكار الليبرالية والعلمانية السليمة، التي تفصل الدين عن الدولة، والتي تضع مصلحة الوطن فوق كل شيء، فإن علينا العيش في العهد الأسود المقبل، لا أمل لنا في غير أن يأكل هؤلاء بعضهم بعضا.

أحمد الصراف

احمد الصراف

المتاجرة بالثأر

نشر السيد رشيد الخيون مقالا في جريدة «الاتحاد»، ذكر فيه أن ليس هناك حدث دخل الوجدان «الشيعي» مثل مقتل الحسين عام 61 هـ. في المقابل، ليس من حدث وظف، على مدى العصور، في السياسة والحزبية والتجارة بحجم توظيف هذه القضية، وان مع العاطفة النبيلة تجاه عاشوراء، الذي امتد إلى عشرة أيام، في فترات لاحقة، وصار شعاراً لغايات دول وسلاطين، لا لقتيل كربلاء. وهنا نسأل: كيف جُعل ما يؤدى في عاشوراء، م.ن كل.ّ عام، على أنه شعائر الله، وهذا ليس في القول الشائع الذائع على لسان الناس فحسب، وإنما يُثقف به في كتب وتعاليم، م.ن هذا عنوان كتاب لآية الله محمد مهدي الآصفي «الشَّعائر والش.ّعارات الحُسينية» (النَّجف 2009)، الذي يُلازم فيه بين الشعيرة والشعار، ويرفع الأخير ثأراً مفتوحاً؟ واستطرد الكاتب في القول: الآصفي سعى في كتابه المذكور إلى تكريس ثقافة الثأر، ولم يجعل لقتل الإمام الشهيد تاريخاً محدداً ولا مسؤولية رجال بعينهم، إنما أطلق الحدث إلى مدى الدهر. كله، والأجيال المتعاقبة قاطبةً، وعليها أن تمثل دور القاتل والمقتول، ليس بما يسمى السبايا أو التشبيه في العاشر م.ن محرم، إنما على الحقيقة لا المجاز، حتى ظهور المهدي المنتظر. فمن السنة 61 هـ، ومروراً بلحظة الغياب سنة 326 هـ، وحتى زمننا وما بعده يجب ألا تخلو الدنيا من تقابل الحسين وقاتله إلى أبد الآبدين! مع علمنا أن مؤلف الكتاب ليس بالمعمم الثانوي، إنما يعد من الجيل الثاني في حزب طلب إقامة نظام إسلامي، في ظله ينام المواطن ملء جفونه، والآصفي يقدم على أنه آية الله، بمعنى أنه بلغ درجة الاجتهاد، وأن له مقلدين، وهكذا، باسم الحسين، يخلد الثأر فاعلاً في الصدور ضاخاً الكراهية في الرؤوس ضد المختلف، من له رأي مخالف تجاه مذهب أو دين يصنف عدواً للحسين. كما يرى المشاركون في المواكب، وبدافع حماسة العاطفة الجمعية، أن كل من لا يلبس السواد ولا يلطم صدره ويفلق هامته أنه مطلوب بدم الحسين، وعلى مدى الأزمان والأحقاب، كم يصير للحسين أعداء في هذه الدنيا. وأضاف أن الآصفي قال في ديمومة الثأر: «إن هذا الص.ّراع يمتد من جيل إلى جيل، ومن أرض إلى أرض، وما أصدق الكلمة المعروفة: كل أرضٍ كربلاء وكل يوم عاشوراء» (ص 14). لا أدري متى يرى الآصفي الشروع بالعُمران، وهو رجل كان حزبياً وغض الطَّرف عن فكرة الانتظار ليُقيم دولة إسلامية، وعاش في ظل دولة كان يُجاهد لتحقيق مثلها بالعراق، فهل انتهى فيها هذا الصراع الأبدي، وقُرت العدالة المثالية؟! وهل المنتظر أو الموعود مهمته الثأر؟! فما هذا التزييف للعقل، وتشويه لشخصية كبيرة، غير أنه دور يُنفذ باسمه، والمستفيد هو، المبشر بهذه الثقافة. فدعوا الناس يبكونه لأنهم يحبونه، لا يحملهم على الثأر مثلما تحملهم عليه باسمه هذه الكائنات الحزبية. وانهى الخيون مقالته بالقول: اتقوا الله في الحسين أولا، وفي الشيعة ثانياً، مما تثقفون به من خلود عاطفة الثأر، واشغال العراقيين، والشيعة، عن البناء وفضح المفسدين. وأن مصلحة الحسين تكون بتفوق أتباعه علميا، لا بتركهم مقاعد الدراسة طوال محرم وصفر وفي مناسبات ولادات ووفيات بقية الأئمة.

أحمد الصراف

احمد الصراف

الغريب

تتطلب شروط وزارة الأشغال وجود طرف أجنبي عند تصميم أي مشروع كبير، وإشراف تلك الجهة على تنفيذه، ويهون الأمر، إلى حد ما، إن كان الاشتراط مقتصرا على البيوت الهندسية الأميركية أو الأوروبية العملاقة، ولكن القرار يتعلق فقط بــ«جهة أجنبية»، حتى ولو كانت أقل قدرة وحرفية من البيوت الاستشارية الهندسية المحلية، وكأن في الأمر نية مبيتة لاستبعاد الأخيرة. وقد تسبب هذا الشرط المجحف في خسائر أطراف عدة، منها المال العام والاقتصاد المحلي، لمئات ملايين الدنانير، فتكليف مكتب استشاري أجنبي بدراسة وتصميم والإشراف على عقد إنشائي كبير لا يؤدي عادة الى خلق وظائف جديدة، حيث يقوم المكتب عادة بتصميم المشروع في مكاتبه في الخارج! كما انه غير مطلوب منه نسبة عمالة، وينتهي دوره بانتهاء المشروع، من دون مردود فني أو اقتصادي على البلاد! ومنذ ما بعد التحرير لم تقم الدولة بدعوة اي مكتب هندسي محلي للقيام بتصميم اي مشروع كبير، يحدث ذلك علىالرغم من بلوغ البعض منها مراتب مهنية عالية، وحصولها على جوائز تقديرية، وتجاوز الطواقم الفنية، من مهندسين وخبراء، للبعض منها إلى الآلاف، مع خبرات متراكمة تقارب نصف القرن، وليس في الرقمين اي مبالغة، ومع هذا تفضل وزارة الأشغال التعامل مع مكاتب من الهند او مصر، كمثال، مع الاحترام للدولتين، وبخبرات وإمكانات أقل بكثير من المحلية، فقط لأنها «أجنبية» حسب ما تتطلبه شروط المشاريع الكبيرة. ولو نظرنا الى وضع أحد هذه المكاتب، كــ «المهندس الكويتي»، على سبيل المثال، لوجدنا أنه يشرف على مشاريع هندسية بمليارات الدولارات في الخارج، وتم اختياره كأكبر استشاري في أكثر من دولة خليجية، ومع هذا لم تقم الوزارة، منذ عقدين تقريبا، بدعوته للمشاركة في تصميم اي مشروع كبير، ورغم ذلك يتعرض، وغيره من المكاتب الهندسية الكبيرة، الى شتى الضغوط للإسراع في عملية تكويت وظائفه، أي توظيف عدد أكبر من الكويتيين!
إن هذا الوضع مخجل، ولا يستند إلى أي مبرر غير حب الانتقام من البعض ربما، أو لاستمرار استفادة الوكلاء المحليين لبعض المكاتب الهندسية من الوضع، علما بأن القانون يمنع وجود وكيل لمكتب هندسي أجنبي!
على وزير الأشغال المعني أساساً بخطة التنمية تفعيل دور «لجنة الاستشاريين» في الوزارة، وإعادة النظر في قرار المنع لما سيكون له من مردود مادي ومعنوي ووطني كبير، هذا إذا كانت الحكومة جادة في تنفيذ خطة التنمية!

أحمد الصراف

احمد الصراف

الربيع العربي والأرخبيل

من سمع بــ «جمهورية الرأس الأخضر»، أو كاب فيردي؟ سمعت بها أخيرا فقط من خلال احصائية صادرة عن الأمم المتحدة، كواحدة من أكثر الدول استقراراً في محيط شديد الاضطراب، فأرخبيل جزر الرأس الأخضر يقع غرب سواحل شمال أفريقيا، وكان سابقا مركزا لتجارة العبيد، ومناخها معتدل طوال العام بالنسبة إلى موقعها البحري، وأهم جزرها سانتاغو، وفيها العاصمة، برايا، ثم جزيرة القديسة ونسانت، وسبق أن اكتشفها البرتغاليون عام 1460، واستقلت عنها في 1975. وبالرغم من فقرها النسبي، فإن ذلك لم يحل دون استقرارها السياسي، فرئيسها يتم انتخابه باقتراع شعبي لفترة خمس سنوات، ورئيس الوزراء يرشح من قبل البرلمان، ويعينه رئيس الجمهورية، وأعضاء البرلمان ينتخبون لــ 5 سنوات، وهناك ثلاثة أحزاب تتبادل الحكم، او تتقاسمه. وتتمتع الكاب فيردي بنظام قضائي مستقل، يتكون من محكمة عليا ومجلس قضاء ومحاكم إقليمية، وأخرى منفصلة تهتم بالقضايا المدنية والدستورية والجنائية.
يبلغ عدد سكان الرأس اكثر من نصف مليون بقليل، غالبيتهم خليط برتغالي أفريقي، يتحدثون بلغة الــ «كريول» إضافة الى البرتغالية، وتوجد جالية كبيرة منهم في السنغال والبرازيل. وتشكو الجمهورية من شح الموارد، ونقص حاد في المياه، واقتصادها يعتمد أساسا على الخدمات مثل التجارة، والسياحة التي تسهم بـ %66 من الدخل القومي. بالرّغم من أن %70 تقريبا من السكّان يعيشون في الأرياف، فإن حصة الزراعة في الدخل القومي متواضعة، وبالتالي تعاني عجزا تجاريا كبيرا يُغطى بالمساعدات الأجنبية وحوالات المهاجرين؛ وتتجه الإصلاحات الاقتصادية نحو تطوير القطاع الخاص، واستقطاب الاستثمارات الأجنبية لتنويع مصادر الدخل.
المهم في الموضوع أن هذه الدولة الصغيرة والفقيرة مميزة في إحصاءات الأمم المتحدة بسبب استقرار أوضاعها وقلة فساد سياسييها، مقارنة بمحيطها الافريقي، ودليل على أن الاستقرار مع غياب الفساد، ولو مع الفقر، افضل من الغنى المادي والنقدي بوجود فساد! هل نتكلم عن الكويت هنا؟ ولو نظرنا إلى أوضاع أنظمة الربيع العربي، التي تدهورت كثيرا نتيجة حالة عدم الاستقرار التي تبعت ثوراتها، لوجدنا أن كثيرين أصبحوا يتحسرون على الأنظمة السابقة، وكأنها كانت نعيما مستمرا، متناسين أن ما يحدث الآن من خراب واضطراب ليسا إلا نتيجة مباشرة لفساد وخراب تلك الأنظمة التي أوصلت الأمور إلى مرحلة الانفجار بسبب «جهلها» من جهة، وتشبثها بالحكم لعقود عدة من جهة أخرى، مفسدين العقول والاقتصاد والنظام والبشر وحتى الحجر، وبالتالي سيمر وقت قبل أن تستقر أوضاع هذه الدول، فالهدم سهل، والبناء أكثر صعوبة.
• • •
• ملاحظة:
لفت الزميل عبدالله العتيبي نظري الى أن ما تطرقت اليه بالأمس من افتقاد «الثورات» العربية لفكر ومفكرين، كان من مقال كتبه غسان بن جدو، وهذا صحيح، وحتما حدث سهوا ربما لانزعاجي من موقف الكاتب الذي رضع من خير مسؤولي«الجزيرة وقطر» لسنوات، وما ان اختلف معهم، حتى اصبحوا فجأة مجرمين كبارا!

أحمد الصراف

احمد الصراف

إركد يا أخ مبارك

يقول د. أحمد الخطيب، في مقال له نشر قبل أيام في القبس، ورد عليه الزميل مبارك الدويله، إن الإخوان المسلمين في الكويت منذ نشأتهم لم يهتموا بأي حراك إصلاحي ديموقراطي. فكان دورهم مغيباً في التحرك الشعبي الديموقراطي، لأن المطالبة بالإصلاح والمشاركة في اتخاذ القرار لا تعنيهم… وأن الانسجام كان واضحاً بين الحكم والإخوان، ويحكمه العداء المشترك للمشاركة الشعبية. ولذلك عندما قرر النظام التخلص من دستور 1962 بعد أن استقوت القوى الديموقراطية، لجأ إلى استنفار الإخوان للمشاركة في ضرب القوى الديموقراطية، وسلمهم وزارات التربية والأوقاف والإعلام وبيت التمويل، وهنا لم يقصد د. الخطيب بالضرورة تعيين وزراء بل كبار مسؤولي هذه الوزارات، والمتحكمين الحقيقيين في مقدراتها. كما أطلق العنان لهم لجمع الأموال بكل الوسائل المكشوفة والمستورة، ولا أعتقد أن هذه ينكرها الأخ مبارك، وهي القوة الضاربة التي اعتمدوا عليها في تحقيق كل انتصاراتهم. ويضيف د. الخطيب بأن الإخوان، لم يكتفوا بالوقوف مع النظام في تعطيل الدستور، بل وشاركوا في الحكم غير الدستوري، ورفضوا التعاون مع من طالبوا بعودة الحياة الدستورية، وهنا يتساءل عن السبب في حصول الطلاق مؤخراً، بل المواجهة، بين النظام وبين الإخوان، بعد الانتصار الكبير الذي حققوه والسلفيون في الانتخابات الأخيرة؟
صحيح أن تغيير خطابهم من ديني إلى إصلاحي قد أكسبهم بعض الشعبية، إلا أن ذلك لا يمكن أن يفسر موقفهم المعارض للنظام، فالجميع يعلم أننا قد انتقلنا منذ أكثر من ثلاثين عاماً من نظامنا الدستوري الديموقراطي إلى نظام لا وجود فيه لسلطة حقيقية لمؤسسات الدولة كلها، واقتربنا إلى التحالف التاريخي المعروف بين الأنظمة والمؤسسات الدينية لاحتكار كل شيء. ويتساءل أيضاً: هل هذا الخلاف بسبب القوة الواضحة لهذه الأحزاب الدينية التي أغراها الانتصار الانتخابي في محاولة الاستيلاء على كل الكعكة، أو معظمها؟
ويجيب بأنه لا يظن بأن هذه الأحزاب بمثل هذا الغباء. فهي تعلم أن النظام ليس بهذه الهشاشة التي يراها البعض، لأنها مصطنعة تخفي وراءها مخططاً لمن يعرفها، وذلك بهدف تحميل الدستور كل هذه المآسي التي كان النظام السبب الأساسي لها حتى تحين فرصة القضاء على النظام الدستوري بأكمله، والجواب الشافي لن نجده داخلياً فقط بل ضمن الصورة الكاملة للوضع الإقليمي والعربي الجديد وتأثرنا به.
فهناك زلزال يعصف بالمنطقة العربية وأسقط حتى الآن أعتى الأنظمة الدكتاتورية فيها، وأن سبب الإعصار، وهذا ما نختلف فيه مع دكتورنا، وما يجعلني وإياه نختلف عن تيار الإخوان، سببه الثأر للعزة والكرامة اللتين انتهكتا لعقود عدة، ورفض للوصاية والذل والاستعداد للتضحية لبناء مجتمع المساواة والحرية! فهذه المطالب، بالرغم من شرعيتها، بحاجة إلى مفكرين ومحركين وفلاسفة لها، وهذا ما افتقدته وتفتقده كل الانتفاضات العربية، فلا فكر يقف وراءها يغذيها ويحركها غير الرغبة في الإطاحة بالنظام السابق، لأن هذا الفكر مغيب أو بالأحرى غائب تماماً، وهذا سهّل للقوى المنظمة الأخرى وبالذات الدينية، الأشد دكتاتورية والأخطر، لتحل محلها وهي تغطي نفسها ودكتاتوريتها بعباءة الدين، ومن يجرؤ على اتهامهم وقتها بالفساد؟! وبالتالي، فإن الثأر للكرامة والعزة لا يأتي بغير بديل واضح هو الحرية والمساواة والعدل، وهذه تحتاج لقيادة تملك فلسفة واضحة، وهذه الثورات لا تمتلك لا قيادة ولا فلسفة، وليس أمامنا بالتالي غير الخضوع لأنظمة دينية صارمة في تعاملها، وواضحة في عدائها للآخر، ولا يمكن بالتالي أن نتوقع حرية ولا عدالة ولا مساواة في ظلها، أو بالأحرى في شمسها!

أحمد الصراف