احمد الصراف

فيلم هندي في النويصيب

عندما تولى جولياني عمادة نيويورك نجح في تحويل مدينته لأكثر مدن العالم الكبرى أمانا، وكل ذلك، وفق قوله، هو اهتمامه بمكافحة الجرائم والمخالفات الصغيرة، بدلا من قضايا القتل والسلب والنهب، فمجرمو اليوم الصغار هم مجرمو غد الكبار!
نشر في الصحف قبل أسبوعين تقريبا خبر عن جريمة صغيرة ولكن «توليفتها» وتداخل عناصرها اعتبرت بنظري مثالا لما أصبح يرتكب من إجرام بشكل واسع، ومع هذا لا أحد يود الالتفات لهذا النوع من المخالفات على الرغم مما تنطوي عليه من خطورة أمنية كبيرة، وسبب عدم الالتفات يعود إلى أن ارتكابها يناسب قطاعاً كبيراً من المواطنين، وغيرهم من خليجيين، وما يتم كشفه من هذه الجرائم ليس سوى رأس جبل الجليد المخفي.
يقول الخبر إن سيارة يقودها كويتي ومعه رجل آخر، حاولا المرور من مركز حدود النويصيب باتجاه السعودية في سيارة ذات زجاج داكن، ولكن رجل الأمن انتبه لوجود شخص ثالث في المقعد الخلفي، وتبين وجود امرأة منقبة تختفي خلف الزجاج المظلل! وهنا طلب العسكري منها الذهاب لداخل المركز لمطابقة شخصيتها مع صورة هويتها، وهناك تبين أنها تحمل هوية امرأة أخرى، فعادت للسيارة التي قام سائقها، بدلا من العودة، بمحاولة المرور من نقطة الحدود مستعينا بالزجاج الداكن في إخفاء المرأة مرة أخرى، غير أن الأمر كشف وأحيلوا جميعا لمخفر النويصيب، وهناك نجحت المرأة المنقبة، او سهل لها، الهرب من المخفر! وفي اليوم التالي جاءت امرأة للمخفر وادعت انها الهاربة وأنها التي كانت في السيارة في اليوم السابق، ولكن عند مواجهتها بالمسؤولة عن مطابقة الوجوه في مركز الحدود قالت انها ليست المرأة نفسها التي كشفت عن وجهها في اليوم السابق. وتبين فوق ذلك أن التي انتحلت شخصيتها مطلوبة وممنوع سفرها، ولا يزال التحقيق جاريا مع جميع من شاركوا في هذا الفيلم الهندي، هذا إذا لم يتدخل نواب الصحوة والنخوة لإطلاق سراح المتهمين، وكل ذلك يحدث لأن وزارة الداخلية عاجزة عن تطبيق قانون منع المنقبة، التي قد تكون رجلا او امرأة، أو مطلوبا لقوى الأمن، من قيادة السيارة، ولعجزها كذلك عن تطبيق قرار منع تظليل زجاج السيارات، وكل ذلك إكراما لقلة سخيفة لا تعبأ بسلامة وطن ولا أمن مواطن.
نورد هذه الحادثة مثالا ليس فقط لما يحدث على الحدود البرية من مخالفات، نتيجة للتهاون في تطبيق القانون، بل وأيضا لما يتعرض له رجال الأمن من ضغوط يومية وهم يؤدون عملهم.

أحمد الصراف

احمد الصراف

كابي والشابي والخيام

يقول المفكر اللبناني كابي خلف ان الحياة ومضة! ومضة سعادة، شهوة، محبة، لذة أو صلاة! وان الفرصة قد لا تتاح ثانية لممارسة أي منها، ان انتهت الحياة، وأيضا في ومضة! تذكرت كلام كابي وأنا استمع لنداء حكومتي «الرشيدة» بالامتناع عن السفر الى لبنان لخطورة أوضاعه، وبعودة من فيه لوطنهم! وهنا مر شريط علاقتي بلبنان أمام عيني في ومضات وفلاشات بدأ أولها عام 1956 عندما اصطحبني والدي للبنان سنتها فوقعت في حبه منذ يومها، ولم تمر سنة من دون أن أزوره مرة أو مرات ومرات، وفي سنة منها أقدمت، وفي ومضة، على الاقتران بأجمل من فيه!
خلال 56 عاما، منذ بيت حمانا وحتى سكن اليرزة، مر لبنان بأحداث مهولة من قتل واحتلال ودمار ومرارة وتشريد وتهجير وتعذيب، سالت خلالها دماء ودموع كالأنهار، هذا غير خسائر مادية بلغت مئات مليارات الدولارات، ولكن كان لبنان، كطائر الفينيق، يخرج كل مرة من تحت الخراب والركام والدمار أجمل مما كان عليه قبلها، فهذا قدر لبنان وهذا قدر من يحبه ولن يتغير شيء، فجماله وعظمته ولوعته وضعفه تكمن في تعدده الاثني والديني والطائفي وسيبقى هكذا ما بقيت الشيع والمذاهب!
وعليه وضعت مخاوفي جانبا، وعملت بنصيحة كابي، فالحياة ومضة، وهذه الومضة تتناقص قيمتها كل يوم، وقلت لنفسي انه مهما حدث وأنا هنا، فانني لن أرى، في ما تبقى من عمري، بشاعة وقتلا أكبر مما رأيته طوال أكثر من نصف قرن، وأن سعادتي، وهذا هو بيت القصيد، تكمن في الاستمتاع بحياتي وبحريتي بين من أحب، وليس في أن ابقى حيا بأي ثمن بين الحفر! فما قيمة الحياة بغير حرية ومحبة وكرامة، وهنا تذكرت بيت الشعر البليغ لسيدنا الشاعر التونسي ابو القاسم الشابي الذي يقول فيه:
«ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر!».
فيا من تحبون لبنان، بكل جماله وتعقيداته وبشاعته، تعالوا اليه، وخوضوا غمار المغامرة، واستمتعوا بحياتكم حتى الثمالة، فعندما قال عمر الخيام بيته الشهير:
«واغنم من العيش لذاته
فليس في طبع الليالي الأمان»، لم يحدد مكان تلك الليالي غير الآمنات، فقد تكون في أعالي الجبال الشامخات، أو بين حفر أو تحت عجلات سيارات أو مركبات!

أحمد الصراف
[email protected]

احمد الصراف

من «الشعيبة» إلى وارسو وباري

قامت «لوياك» قبل سنتين تقريبا بالمراهنة على أن ابن منطقة الشعيبة المبدع، فيصل البحيري، يمتلك موهبة نادرة في العزف على البيانو، وبالتالي يستحق الرعاية منها، وهنا قامت، من «خلال صندوق رعاية المبدعين»، بتبنيه فنيا ودعمه ماديا ومعنويا لكي يصل الى العالمية، وكانت لنا مساهمتنا المتواضعة. وبدأت رحلة فيصل بإرساله الى بولندا لاستكمال تعليمه وصقل موهبته وتحضيره للعالمية، ولم يطل الانتظار، فموهبة فيصل كانت واضحة منذ اليوم الأول، حيث تمكّن خلال فترة قصيرة من المشاركة في مناسبات عزف بيانو عالمية، اهلته عام 2010 للحصول على شرف العزف على خشبة مسرح Kielce فيلاهارمونيك في وارسو، التي يكفي العزف فيها دليلا على العالمية، وهنا حققت «لوياك» هدفها. كما نجح فيصل باقتدار في رفع اسم الكويت في عشرات المناسبات الفنية الرفيعة الأخرى، ومنها حصوله على المرتبة الثانية في العزف على البيانو في المسابقة العالمية العاشرة التي أقيمت العام الماضي في باري، ايطاليا.
لقد سبق ان كتبت عن أعمال وجهود «لوياك»، وأبدى الكثيرون اعجابهم بتلك المؤسسة غير الربحية الرائدة، التي نجحت في إبعاد آلاف الشباب عن الضياع أو الوقوع في براثن الجمعيات الدينية المتطرفة، ولكن بالرغم من كل الثناء الذي أبداه الكثيرون على جهود «لوياك» ومطالباتنا المتكررة بالتبرع لها، فان قلة فقط تجاوبت مع ما كتبت، فكلام غالبيتنا أكثر من فعلنا. ونعيد مطالبة الكرام ومحبي الخير ومبغضي التطرف، نطالبهم مرة أخرى بالمساهمة معنا في دعم برامج «لوياك»، ويمكن الاتصال بالارقام التالية لترتيب التبرع: 22421200 أو 22424405، أو زيارة مقرها في المدرسة القبلية بالعاصمة.

أحمد الصراف

احمد الصراف

التواطؤ القذر

قمت قبل فترة ببيع منزل، يخص صديقا غير كويتي، مسجل باسمي منذ عقود عدة، ويقع في منطقة السرة! وكما هو متبع فقد طلب المشتري براءة ذمة للكهرباء والماء والتلفون قبل انهاء الصفقة ودفع المبلغ المتبقي. وفي غياب مالك البيت، الذي توفي قبل فترة، ووجود ورثته خارج الكويت، قمت بمتابعة معاملات البيع، ومنها دفع فواتير الكهرباء، وكنت اتوقع أن تطالبني الوزارة، في ظل «الحكومة الالكترونية» التي طالما آذوا أسماعنا بكثرة حديثهم عنها، بسداد كل ما علي من فواتير لبيوت سكنية عدة مسجلة باسمي، والتي تراكمت فواتير استهلاك عليها لسنوات، والتي طالما رفضت مكاتب التحصيل أن ادفع عنها شيئا! ولكن بما أن الرغبة مبيتة لدى «الراسخين في الفساد» على ابقاء الوضع على ما هو عليه، وعدم تشجيع أحد على الدفع لكي لا يطال موظفي الوزارة، و«ملاكها» انفسهم، فقد «غرش، أو صهين» موظف التحصيل عن مطالبتي بكامل ما أنا مدين به للدولة عن استهلاك الكهرباء، واكتفى بمطالبتي بدفع فاتورة ذلك البيت فقط، وعندما لفتّ نظره إلى وجود فواتير اخرى مستحقة، رفض الاستجابة لطلبي بحجة أن الكمبيوتر لا يبين شيئا، وأن من الأفضل حضوري أو من يمثلني صباح اليوم التالي، وفي الساعة السابعة والنصف تحديدا، لكي اصطحب قارئ العداد معي بالسيارة ليقوم «بقراءة» أرقام عدادات الاستهلاك، وأن نعيده، بسلامته، بعدها للمركز، ومن ثم يمكن سداد ما علينا للدولة من مستحقات! «ما كذبنا خبر»، حيث ذهب من يمثلني في الوقت المحدد من صباح اليوم التالي للالتقاء بـ «قارئ الفنجان أو العداد» وانتظر نصف ساعة من دون جدوى! لم أحرك بعدها عجلة الدفع، فليس من واجبي، ولا من أخلاقي، اجبار احد على أخذ مبلغ لا يريده! كما لا شك عندي، من تجارب سابقة من أن هناك نية داخل وزارة الكهرباء، ومدعومة بتوصيات من جهات متنفذة، على عدم مضايقة المواطن، واجباره على الدفع، وهذا أشبه بالتشجيع على أكل مال الدولة، ولكن مسؤولي الوزارة اجتهدوا أكثر، ليس فقط في عدم اجبار المواطن على دفع ما عليه من مستحقات، بل وحتى في عدم مطالبته بأي شيء!
والآن كيف يمكن اصلاح او حتى توقع قيام الحكومة باصلاح أي ادارة؟ وكيف نصدق أن الوزارة ليس لديها برامج كمبيوتر تبين ما على كل مواطن من رسوم خدمات استهلاك كهرباء وماء؟ فإن كان الجواب بالنفي فهي مصيبة، وان كان بنعم، ولكن لا تقوم بتشغيل البرنامج عمدا، فالمصيبة أعظم!
***
ملاحظة: ورد في القبس (25/4) أن هناك أكثر من 200 ألف عداد كهرباء لم تصدر فواتيرها منذ عامين! وتقديرا من وزارة الكهرباء لجهود موظفيها (في عدم قراءة العدادات والتسبب في تراكمها على المواطنين) فقد أقر الوزير الابراهيم كل توصيات «لجنة فحص وصرف مكافآت العاملين في الوزارة»! وتعليقا على هذا الخبر ليس في مقدوركم فعل شيء، غير رفع حواجبكم تعجبا!

أحمد الصراف

احمد الصراف

عندما يتحالف «ماركس» مع التخلُّف!

يقول برنارد شو: «ان الديموقراطية هي آلية لضمان بأننا لن نُحكم بأقل مما نستحق!».
***
لدي ما يكفي من الشجاعة للاعتراف بأنني، وطوال 40 عاما تقريبا، كنت مخطئا في إلقاء مسؤولية تخلف أوضاعنا السياسية والاقتصادية والتعليمية وغيرها في الكويت على السلطة! اقول ذلك، بالرغم من إيماني بضرورة تحمل السلطة المهيمنة على أوضاع الدولة نصيبها من المسؤولية، ولكن الجهات الوطنية المؤتمنة على إقامة الدولة المدنية هي المقصرة الأولى عما وصلت اليه أوضاعنا من سوء، فقد أخطأت في حق نفسها ووطنها، بسبب فشلها طوال عقود ثلاثة في تشكيل اي تنظيم قوي، أو حتى القبول بتنظيم قوي! وبالتالي، لم يكن امام السلطة غير الالتفات لغيرها من القوى المضادة الأكثر تنظيما وقوة! ففي أول محاولة جدية لإقامة تنظيم موحد يضم المنبر الديموقراطي والتجمع الوطني، دفعت قيادة المنبر في اتجاه منع فكرة الانصهار في تنظيم واحد، وأعتقد أن موقفها هذا لم يتغير، وقد صدم هذا الموقف وقتها كثيرين، وعزز من موقف السلطة السلبي منهم، على الرغم من كل ما امتلكه أفراد التنظيمات الليبرالية والوطنية المشتتة من قدرات إدارية كبيرة وناجحة، مكنتها طوال نصف قرن من شغل غالبية، إن لم يكن كل وظائف الدولة، قبل أن يأتي ممثلو القوى الأخرى المناوئة لهم ويقوموا بتهميشهم بصورة تدريجية والحلول محلهم تماما، بعد أن فرضوا أنفسهم على السلطة من خلال اتحادهم وقوة صوتهم، وبالتالي ليس من العدل تكرار مقولة إن السلطة تعمل ضد الوطنيين والليبراليين. فالسلطة، أي سلطة، لا يهمها غير بقائها، وبقاؤها يكون بتعاونها أو اتحادها او تحالفها مع القوى الفاعلة الأخرى، والقوى الوطنية الليبرالية لم تكن قوة فاعلة ومتحدة، على الأقل منذ التحرير وحتى اليوم! فقد بَزَّهم الآخرون ذكاء وتكتيكا، وعرفوا اللعبة خيراً منهم، وأصبحت لهم خطوطهم الحمراء والزرقاء، التي أصبح كثيرون يهابون الاقتراب منها.
لست هنا بطبيعة الحال في معرض الدفاع عن السلطة وتبرئتها من كل سلبياتنا وأخطائنا، ولكني أشعر بأني ملزم بالاعتذار عن سابق مواقفي، وبعد أن اصبحت أرى في اكثر من تجمع وندوة عقدت أخيرا كيف «تكاتف وتحالف» ماركسيو الأمس واليوم والغد مع أكثر القوى إثارة للجدل والشبهة والشك، فقط لأن الاثنين يشتركان في عدائهما للسلطة! وأعتقد ان كثيرين يعرفون من أعني هنا!
والخلاصة أن عيبنا فينا، وتشرذمنا سببه ضعفنا، ولن نستطيع فرض أو إقناع السلطة بصواب مواقفنا وآرائنا بغير تكاتفنا، وأعتقد مخلصا أن السلطة ستكون اكثر انسجاما مع نفسها في التعاون مع القوى الوطنية المتقدمة منها مع الأخرى، ولكن هذا يتطلب الاتفاق على قيادة واحدة وموحدة تتحدث مع السلطة، وبخلاف ذلك ستستمر عملية التخلص من كوادر القوى الوطنية في الإدارة الحكومية، وإحلال غيرهم محلهم شيئا فشيئا!

أحمد الصراف

احمد الصراف

أسرار اللغة

تطرقت في مقال قبل فترة إلى موضوع صعوبة تعلم اللغات، وكيف أن العربية، في نظر كثيرين، تعتبر الأصعب تعلما في العالم! وقد أرسل صديق متخصص في اللغات نصا تعلق بلغات العالم، تضمن سؤالا عما إذا كانت اللغة التي نتكلم بها تشكل الطريقة التي نفكر فيها، أو أنها تعبر فقط عما نفكر به ونود قوله؟ وهل لتركيبة اللغة التي نتكلم بها دور في تشكيل أفكارنا، بغير علمنا أو موافقتها، وتشكل الأفكار التي نود التعبير عنها؟ فمثلا تبين أن طريقة تصريف الأفعال ووضع الكلمات وتكوين الجمل في الإنكليزية والإندونيسية والروسية والتركية تتباين كثيرا، فهل يعني ذلك ان المتحدثين بها يتذكرون تجاربهم بطريقة مختلفة، لأن لغاتهم تستخدم بطرق مختلفة؟ هذه الأسئلة وغيرها تلامس التباينات الجذرية في دراسة المخ، مع التركيز على المواضيع السياسية والقانونية والدينية، فحتى وقت قريب لم تعط هذه المسائل أهمية كبيرة، ففكرة أن لغتنا قد تشكل طريقة تفكيرنا كانت مسألة بعيدة لفترة طويلة، كما كانت صعبة الاثبات، ولكن التجارب الجديدة والجدية الأخيرة اثبتت، بما لا يدع مجالا للشك، أن للغة دوراً في تكييف نظرتنا للعالم، ولهذا يقال أن تعلم لغة أخرى يعني اكتساب روح جديدة، ولكن إيمان كثيرين بنظرية نعوم شومنسكي في الستينات التي قالت بوجود قواعد واحدة للغات العالم أخرت الابحاث في هذا المجال.
وكمثال على كيف تؤثر الفروقات في اللغة على التفكير والنظر للآخر هو أن المتحدث بالروسية مثلا لديه مفردات أكثر لوصف درجات اللون الأزرق، من خفيف إلى غامق، وبالتالي لديه مقدرة أكبر على التمييز بين الدرجات المختلفة للون الأزرق من غيره. كما أن بعض القبائل المتخلفة تستخدم الاتجاهات كالشمال والجنوب والشرق والغرب بدلا من اليمين واليسار، وبالتالي لديها قدرة أكبر على تحديد مكان وجودها! فهم يصفون موقع النملة بانها في الجنوب الشرقي من القدم المواجه للجنوب. كما أن قبائل «البيراها» تتحاشى استخدام الأرقام وتركز على الكميات، وبالتالي تشكو من ضعف في معرفة كمية اي مادة بدقة. كما تبين من الدراسة أن المتكلمين بالاسبانية واليابانية لم يستطيعوا بسهولة تذكر الفاعل وراء حادث ما، كما هي حال المتحدث بالإنكليزية مثلا الذي يصر في لغته على ذكر الفاعل وراء أي حادث، فيقول إن جون اسقط اللوحة، ولكن الآخرين يكتفون بالقول بأن اللوحة سقطت! وتصبح بالتالي قدرتهم على تحديد الفاعل عند وقوع حادث ما أكثر صعوبة، والشيء نفسه ينطبق على هؤلاء عند مثولهم كشهود إثبات، حيث يواجهون صعوبة أكثر قليلا من غيرهم في تحديد مسؤولية «الآخر» عن الحادث! ولكن يجب ألا ننسى هنا أننا بمجرد تحدثنا بلغات مختلفة لا يعني بالضرورة أننا نفكر بطريقة مختلفة، ولكن لو اعطينا مجموعة من الصور التي بينها أحداث مترابطة وطلبنا من عربي وإنكليزي ترتيبها لبدأ الأول بترتيبها من اليمين إلى اليسار، والآخر سيرتبها عكس ذلك وفق الطريقة التي يكتب بها كل طرف. وفي اللغة الصينية مثلا المستقبل هو في الأسفل والماضي في الأعلى والعكس عند المتحدثين بالعربية، فالمستقبل أمامهم والماضي خلفهم. ولكن من المؤكد أننا لو غيرنا من طريقة تحدث شخص ما، فإننا حتما سنغير من الطريقة التي يفكر فيها. كما أثبتت التجارب الحديثة أن اللغة التي نتكلم بها لا تقوم فقط بالتعبير عن افكارنا بكلمات، بل تقوم بتشكيل الأفكار نفسها التي نود التعبير عنها، وبمقدار اختلاف البشر بعضهم عن بعض لغويا نجد أن هناك اختلافا في طباعهم اعتمادا على اللغة التي يتحدثون بها، فما نحن عليه هو اساسا يعود إلى ما نتحدث به من لغة.
الموضوع مشوق وطويل، ويحتاج الى مقالات أخرى مستقبلا.

أحمد الصراف

احمد الصراف

المسيحيون ملح مجتمعاتنا (2-2)

ويستمر علي الصراف في سرده لتاريخ المسيحيين العرب، قائلا ان رشيد الشرتوني، المتوفى عام 1906، كان احد أبرز لغويي عصره، حيث وضع «مبادئ العربية في الصرف والنحو» مع تمارين في التصريف والاعراب، وكتابه «نهج المراسلة ومفتاح القراءة». كما سعى نجيب حبيقة لتعزيز الآداب العربية وتأليف قلوب الناشئة في خدمة الوطن، وكان خليل الخوري (1836)، أول من فكر في نشر جريدة عربية في بلاد الشام، فأبرزها إلى النور سنة 1858تحت اسم «حديقة الأخبار». وكان سليم شحادة (1907) قد قضى جل حياته القصيرة في خدمة الآداب واشترك سنة 1875 مع سليم الخوري في نشر معجم تاريخي وجغرافي سمي «آثار الأزهار». وكان نخلة قلفا البيروتي (1851) هو الذي نشر ديوان أبي فراس الحمداني. وكان لإبراهيم اليازجي دوره في نهضة الآداب العربية في مصر! ولم ينس الصراف في عجالته ذكر أفضال جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وأمين الريحاني، والأخطل الصغير، والشاعر القروي رشيد الخوري وخليل مطران واحمد فارس الشدياق ونجيب عازوري ومي زيادة وسلامة موسى، وصولا إلى إدوارد سعيد. كما لعب المسيحيون العرب دورا مشهودا، ومتميزا، في كل مجال ابداعي من مجالات الفن كفيروز وابنها زياد والأخوين رحباني، ومئات غيرهم ممن لا يسمح المجال لذكرهم جميعا!
ولكننا نرى اليوم كيف يتم تهجيرهم من ديارهم، وحرق كنائسهم، وكيف يعاملون بتمييز ديني وعنصري واضح، ويُعزلون، وتوضع على حقوقهم وحرياتهم قيود وشروط. كما بيننا، وخاصة من أولئك الذين يفتقدون أدنى درجات المصداقية، من ينظر لهؤلاء على أنهم «أهل ذمة»، ويصر على معاملتهم كـ «أقلية»! فإذا كان المسيحيون العرب «أقلية»، فكيف ننظر لمن هم في قامات طرفة بن العبد وامرؤ القيس والنابغة الذبياني، وهؤلاء جميعا والآلاف غيرهم مسيحيون؟ ولا أدري كيف يمكن أن تكون الثقافةُ العربيةُ عربيةً من دونهم، بل لا أدري أي ثقافة ستكون؟ فكيف يمكن قبول حرق كنائس هؤلاء وتهجيرهم من أراضي أجداد أجدادهم وقتل ابنائهم وتشريدهم في الأرض بعيون دامعة وقلوب حزينة وخواطر مكسورة، وهم الذين كانوا في البال والخاطر والسمع والبصر على مدى عصور وعصور؟ أسئلة ستبقى من غير جواب حتى يختفي هذا الكابوس المظلم من حياتنا، أو يتسبب في فنائنا إلى الأبد!

أحمد الصراف

احمد الصراف

المسيحيون ملح مجتمعاتنا (2-1)

كتب الزميل العراقي علي الصراف مقالا طويلا عن مسيحيي العرب، ننتقي منه أشياء ونضيف له أخرى، لعل وعسى يستنكر الصراف القول ان المسيحيين العرب أقلية، فهذا يتضمن تجاهلا لكونهم عربا، والعرب أغلبية في أوطانهم. كما أن وصفهم بالأقلية أي «أقلَنة» عروبتهم والسعي لتصغيرها، وهذه خطيئة لا مجرد خطأ! كما يضعهم على هامش التاريخ في المنطقة، وهم الذين ظلوا في قلبه، وساهموا فكريا وفنيا واقتصاديا بصورة ريادية في صنع تاريخه القديم والحديث، وكان لهم دور كبير في تحرر أجزاء كبيرة منه! ويعتقد الصراف أن هناك من يضع «شيعيته» أو «سنيته» فوق وطنيته، معتمدين على نصوص دينية معينة، ولكن لا يوجد نص ولا سلوك كنسي واحد يضع المسيحية على هذه الأرض فوق وطنيتها وانتمائها القومي! ويشتهر عن البابا الراحل شنودة، الذي ناله الكثير من السباب المقذع، في حياته ومماته من السفهاء والمتعصبين، لدرجة رفض فيها البرلمان المصري تأبينه بصورة لائقة، قوله «لو كان الاسلام شرطا للعروبة لصرنا مسلمين»، وعن مكرم عبيد، أحد أقطاب أقباط مصر انه قال: «أنا مصري الجنسية، ومسلم الثقافة»، ويعتقد الصراف أن من المبكر ظهور رجل دين مسلم يملك من الشجاعة والوطنية ما يكفي لقول: «نحن وطنيون كإخوتنا المسيحيين، ولو كانت المسيحية شرطا للوطنية، لصرنا مسيحيين». ومعروف أن المسيحيين العرب بنوا المدارس والمعاهد لتدريس اللغة العربية، في غير مكان واحد، لأنها كانت صوت ثقافتهم و«تميزهم» القومي الخاص. وعندما وضع الأتراك قوميتهم فوق ديانتهم، كان المسيحيون العرب هم الذين رفعوا لواء العروبة، وهم الذين سارعوا الى تذكير المسلمين بمكانتهم، وكانوا دائما جزءا من هذه الأمة ومن خيرها. وبالرغم من كل ما قيل وكتب عن السبب وراء نشاط المسيحيين العرب في الدفاع عن القومية على حساب الهوية الدينية، فانه من الصعب انكار دورهم الأدبي والثقافي والتعليمي الكبير في تطوير اللغة وحفظها، فجورج علاف وضع كتاب «نهضة العرب»، وألف اليسوعي لويس شيخو موسوعة «تاريخ الآداب العربية»، وكان عبدالله مراش من أوائل الذين حرروا جرائد المهجر العربيةكـ«مرآة الأحوال» المملوكة لرزق الله حسون، و«مصر القاهرة» لأديب اسحاق، و«الحقوق» لميخائيل عورا، وأسس الاخوان بشارة وسليم تقلا عام 1876 جريدة «الأهرام»، ثم «صدى الأهرام» وكابدا المشقات في دفاعهما عن حقوق المصريين. وكان نقولا توما من أوائل المسيحيين الذين التقوا بأصحاب مشروع النهضة الذي تصدره جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وكان جميل نخلة المدور مولعا بالتنقيب عن آداب العرب وتاريخ الأمم الشرقية القديمة، وصنف في حداثته تاريخ بابل وآشور، وعرّب كتاب التاريخ القديم، وكتب كتابه الشهير «حضارة الاسلام في دار السلام»، وكان سعيد البستاني قد تقلب بين مصر وبلاد الشام ليعكف على نشر الآداب العربية، وكان خليل غانم واحدا من أبرز السياسيين الأحرار وانتخب نائبا عن سوريا لـ«مجلس المبعوثان» عام 1875، وساعد مدحت باشا في وضع قانون الدولة السياسي، فكان أحد أركان النهضة الدستورية.

أحمد الصراف

www.kalamanas.com

احمد الصراف

شهادة بال

صدر في بداية شهر أبربل قرار من جامعة مجرية بعدم صحة رسالة الدكتوراه التي يحملها «بال شميت»، رئيس جمهورية المجر، ونتيجة لذلك أُجبر على الاستقالة من منصبه الذي شغله لسنتين تقريبا، ولم يشفع له بالطبع أنه حصل عليها قبل عشرين عاما، ويبدو أن هؤلاء المجريين لا يعرفون «عفا عما سلف»! ولو حزمت حكومتنا أمرها، ولن تحزم أمرها، وقررت إجراء مراجعة شاملة للشهادات الجامعية، وبالذات الدكتوراه، التي يحملها وزراء ووكلاء حاليون وسابقون لوجدت العجب، علما أن غالبية شهادات الدكتوراه المعترف بها هي في مواضيع سطحية وغير ذات أهمية، هذا عدا المئات غير المعترف بها، والتي سبق أن كتبنا عنها، وعن ذلك النائب السابق الذي استقبله رئيس وزراء، ومسؤولون كبار، والتقط صورا رسمية معهم، بمناسبة حصوله على شهادة دكتوراه صادرة عن جهة تبيع مثل هذه الشهادات علناً مقابل ألف دولار، من دون الحاجة الى ترك عتبة البيت! ولا ننسى بالطبع تجمع أو رابطة حملة شهادات الدكتوراه المضروبة، أو غير المعترف بها، والذين لم يتركوا وسيلة للضغط على الحكومة لتوظيفهم بالشهادات التي لا تساوي الورق الذي كتبت عليه، وسكوتهم في الآونة الأخيرة يعني إما أنهم انتابهم اليأس، واما انهم حصلوا على ما يريدون، وهذه أقوى احتمالا، بوجود هكذا «نخبة» في برلمان خالد سلطان!. والحقيقة أن المرء يحتار في تبرير تصرف الحكومة، او بعض منها في الثقة بشخص اشترى شهادة عليا لم يكتب يوما حرفا في سبيل الحصول عليها غير الشيك الذي غطى ثمنها، ومن يبع سمعته وشرفه فهو على استعداد لبيع وظيفته ووطنه، وإن تطلب الأمر ذلك، فليس هناك أسهل من ذلك.

أحمد الصراف

احمد الصراف

اتحاد متسرع

كتب الزميل عبدالرحمن الراشد، في «الشرق الأوسط»، مقالاً ذكر في بدايته أنه ضد اتحاد خليجي، كالمزمع إنشاؤه، وكان من الممكن أن يكون موقفه، كما اعتدنا منه، لافتاً لكاتب سعودي وفي جريدة شبه رسمية، ولكن مع الاستمرار في قراءة المقال يتضح أنه ليس ضد الفكرة بل معها، بالرغم مما تضمن مدحاً وانتقاداً للكويت في آن واحد، وكان إلى حد ما مصيباً في الحالتين، حيث ذكر أنه ضد فكرة الاتحاد إذا كان تأسيسه يعني أن تلغي الكويت نظامها البرلماني، ومفهوم المشاركة السياسية عبر الانتخاب، إرضاء للسعودية وبقية الدول الخليجية. كما أنه بالقوة نفسها ضد الاتحاد، إذا كانت البحرين أو دبي ملزمة بتطبيق أنظمة الكويت أو السعودية المتعلقة بتقييد الحريات الاجتماعية. كما هو ضد نقل «أمراض الكويت السياسية»، من تحزبات قبلية وطائفية، إلى بقية دول الخليج! أو نقل النزاعات الطائفية في البحرين إلى الدول الخمس الأخرى!
والحقيقة أن الراشد، بالرغم من كل ما عرف عنه من تجرد، قد خانه التعبير، أو أكثر من ذلك، فهو لم ير في التجربة الكويتية غير «تقييد حريات»، و«أمراض سياسية وتحزبات قبلية وطائفية»، وهي في هذا والسعودية واحد من ناحية تقييد الحريات الاجتماعية، فهذا تسطيح لوضع الكويت ولتجربتها الديموقراطية، بالرغم من كل مثالبها! فوجود «القيود الاجتماعية» التي يسخر منها حالة استثنائية، ولم تطرأ إلا في السنوات الأخيرة، وبالتالي يمكن التغلب عليها متى ما توافر القرار السياسي، وهي بالتالي ليست «مرضاً عضالاً» لا شفاء منه. فالمجتمع الذي أفرز أحمد الخطيب وعبدالله النيباري وسامي المنيس وجاسم القطامي وأحمد النفيسي، وأيضاً حسن جوهر لكي لا نبخس الرجل حقه، وآخرين لا يسع المجال لذكرهم، هو المجتمع نفسه الذي أفرز خالد سلطان وشلته. ومن جاء بهؤلاء بإمكانه أن يأتي بمثلهم وأحسن منهم.
وأعتقد أن أي اتحاد خليجي لا يمكن أن تكون فكرته ذات معنى بغير اقتراب الدول الخليجية من ديموقراطية الكويت، وليس اقتراب الكويت من لاديموقراطياتها، ولا أعتقد أن الغالبية في الكويت يمكن أن تقبل، بالرغم من مرارة التجربة، التخلي عن هوامش الحرية البسيطة التي ننعم بها بفضل الديموقراطية من أجل اتحاد هش! فلا جدوى لأمن بلا حرية، والتي إن ذهبت قد تذهب بالأمن معها. أما جزرة «الاتحاد قوة» التي يتم التلويح بها، وأن الاتحاد المزمع تكوينه سيكون له جيش قوامه 360 ألف مقاتل، فكلام لا معنى له في ظل التدهور الإداري والتنظيمي الذي تعيشه غالبية الدول العربية، باستثناء دبي تقريباً. فقد فشلت الدول الخليجية الست حتى الآن، وبعد نصف قرن من استقلال أغلبيتها، في خلق إدارات حكومية ولو شبه ناجحة، والجيش لم يكن قط استثناء من هذه القاعدة، وبالتالي لا نستطيع مثلاً الوقوف في وجه أي تهديدات خارجية، وبالذات إقليمية، ونحن بكل هذا التهلهل والتسيب في عقر دورنا، بجيش من 360 ألف جندي أو بضعف ذلك، وما نحتاج إليه هو اهتمام كل دولة خليجية بتحسين وتعديل الخرب من أوضاعها، ومن بعدها التفكير في إقامة اتحاد فعال، فجمع أصفار عادة لا ينتج عنه شيء.

أحمد الصراف