احمد الصراف

فراش البلدية والوزير الشمالي

يستخدم تعبير «كبش الفداء» Scapegoat، عند الرغبة في وضع المسؤولية على جهة ما لإنقاذ آخرين أكبر، واستخدم في جلسة استجواب الوزير السابق مصطفى الشمالي، كما تكرر استخدامه في قضية تعويض شركة داو! وكبش الفداء تعبير يعود إلى الميثولوجيا الدينية اليهودية القديمة، وربما وردت قصته في العهد القديم، وتتعلق بطقس ديني يقوم فيه الراباي الأكبر، في يوم كيبور، بالتضحية بكبشين عظيمين، ينحر أحدهما على «المذبح»، ويطلق سراح الآخر في البرية، بعد تحميله بكل ذنوب الشعب اليهودي! ولو نظرنا إلى استجواب وزير المالية السابق، والذي لم نستلطفه يوما، والمسؤول ليس فقط عن إيرادات ومصاريف الدولة، بل واملاكها العقارية وشركاتها الاستثمارية واستثماراتها في الشركات المساهمة، وخطوطها الوطنية، واستثماراتها في الخارج إضافة إلى صندوق تقاعد مواطنيها، وغير ذلك، لوجدنا أنه كان من الضروري البحث عن كبش فداء للتغطية على جهة أكبر، فأن تكون مسؤولا عن كل هذه الجهات، وتكون في الوقت نفسه نظيف اليد، كما كان الشمالي، حسب علمي، أمر غير مقبول ويصعب تصديقه، في ظل كل هذا الفساد الذي نعيشه، وبالتالي لا شك في أن هناك مخالفات خطيرة وكبيرة حدثت، وكان لا بد من التغطية، وما كان ذلك ممكنا بغير التضحية بوزير مالية واحدة من أكثر دول العالم ثراء، ومرشحة لأن تكون في قائمة أكثر الدول فسادا! وبالتالي فإن آخر وأهم وزير مالية في الحكومة لم يختلف وضعه عن وضع «فراش البلدية»، أول وأشهر كبش فداء في تاريخ الكويت الحديث، والذي كان يحمل دائما بمسؤولية ما في البلدية من فساد عارم! والدليل على ما نقول ان الشمالي تمت التضحية به، وبقيت كل المسائل الخلافية على حالها!
والآن تقوم الحكومة بالبحث عن كبش فداء آخر في قضية «الداو»، ولكن التعويض الذي على المال العام دفعه كبير، ولا يمكن بلعه بسهولة، لا من خلال التضحية بكبش فداء، ولا حتى بناقة وفاء، فالشق كبير، والأمر محزن جدا، ويا ناس يكفينا سرقات كبرى وخلونا على الصغرى، فالكبرى هي التي قوت ولاتزال تقوي مواقف جهات الصراخ والسعي لإيقاف المشاريع الكبيرة!
***
ملاحظة: هل حاولت الحكومة، أو جهة ما، سؤال السادة موسى معرفي وعبد الرحمن المحيلان وعبد الرحمن الهارون، الأعضاء في مجلس البترول الأعلى، الذين قدموا استقالاتهم احتجاجا على إلغاء عقد شركة الداو، عن حيثيات العقد واسباب استقالاتهم في حينه، أو على الأقل تثمين مواقفهم ونزاهتهم؟ لا أعتقد ذلك! وللتاريخ فقد اتصل بي اثنان منهم يوم  استقالتهما، وشرحا الوضع، وتنبأ أحدهم بالكارثة!

أحمد الصراف

احمد الصراف

عندما اختفى ضوء النهار

غادر دنيانا صباح أمس، الجمعة، الإعلامي الكبير غسان تويني، ناشر صحيفة النهار، وعملاق الصحافة العربية.. وبوفاته، اختفى وهج شديد القوة واللمعان من صحيفة لبنان الأولى، ذات المصداقية، ومن الصحافة العربية. توفي غسان الكبير عن 86 عاما، وكأنما عاش 860 عاما، تاركا إرثا أدبيا وصحفيا وسياسيا قل نظيره، فقد كان كسياسي ارثوذوكسي عريق الإيمان بدينه وأكثر بإنسانيته، رافضا التعصب لأي طائفة أو دين، لأن ذلك هو قدر لبنان، كما كان يقول. وكان بحق معلم أجيال من الصحافيين والمحررين الكبار، وكان طوال حياته مثال الصحافي النزيه الذي لم يعرف عنه يوما أنه سخر نفوذ صحيفته، الشديدة القوة، لتحقيق أي كسب كان، وما اسهل ذلك النوع من الكسب في لبنان! فقد تميز «نهارها» بأنها ربما تكون الوحيدة التي لم تمد يدها لهذه الجهة أو لتلك الدولة. وقد اعتقدنا في عام 2005، الذي شهد اغتيالات سياسية كبيرة ومهمة عدة، ومنها نجل غسان الوحيد وحبيبه، جبران، أن الكارثة الإنسانية والشخصية والوطنية ستقضي عليه خلال اشهر معدودة، ولكنه عاش لسبع سنوات أخرى ليثبت للعالم أنه، كوطنه، صلب ولا يغادر أو يستسلم بسهولة، وربما لو لم يكن غسان إنسانا لعاش، كلبنان، إلى الابد! وقد ظهرت قوة شخصية الراحل غسان عندما أصر على صياغة عنوان الصفحة الأولى من صحيفة النهار التي صدرت صباح اليوم التالي لاغتيال ابنه جبران، آخر أفراد عائلته الصغيرة، التي غادر افرادها جميعهم الدنيا قبله بكثير، والتي قال فيها من باريس، حيث كان: «جبران لم يمت، والنهار مستمرة»! وهذا بالضبط ما حصل، فلا تزال «النهار» الصحيفة اللبنانية الأولى والأكثر حيوية وقوة. وعرف عنه أن اغتيال ابنه أعاده، ولو مؤقتا، للصحافة والسياسة.
لقد عاش غسان تويني كبيرا ومات كبيرا، وبالرغم من سنوات عمره المديدة فإنه بقي طوال تلك السنوات نقي السيرة طيب السريرة، صافي القلب ونظيف اليد.

أحمد الصراف

احمد الصراف

سيبيعون مصر ومن فيها

يعتمد فكر «الإخوان» في مصر، وفي كل دولة يتواجدون فيها على الدولة الإسلامية، وليس الوطنية ولا القومية، وبالتالي لا تعترف بسيادة الدولة ولا بالتراب الوطني، بل بوطن لكل المسلمين، وهذا فكر خيالي، فضلاً عن أنه وهم وغير عملي. وبسبب موقفهم هذا فإن أحداً من «الإخوان» لم يعترض، ولو همساً، على ما صدر عن المرشد محمد مهدي عاكف من تصريحات طالعناها بالصحف ووسائل الإعلام أن تثبت صحتها عندما صاح: طز في مصر وأبو مصر واللي في مصر، في معرض رده على من يحق له أن يكون رئيساً لمصر، ورأيه أن للماليزي المسلم أفضلية في حكم مصر على القبطي المصري! كما لم يرفع أحدهم حاجبيه مستنكراً ما أضافه من أن أي أمير مكلف بأمور شرعية، ولو كان «خمرجي وبتاع نسوان»! كما نرى أن أقوال «الإخوان» وتصرفاتهم قبل ثورة 25 يناير، مقارنة بأقوالهم وتصرفاتهم قبل الانتخابات النيابية الأخيرة، تختلف 180درجة عن أقوالهم بعد نجاح الثورة، وركوب موجتها، عن أقوالهم قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبعدها في فوضى عارمة لا يعرف فيها موقفهم النهائي والصحيح، فطالما اشتهروا، طوال تاريخهم، بتلونهم وتقلب قلوبهم. كما سبق أن صرح مرشدهم الحالي، بأن «الإخوان» سيخوضون الانتخابات البرلمانية المقبلة (السابقة) بعدد من المرشحين بحيث لا يسمح لهم بتحقيق الأغلبية! وطبعاً، لحسوا هذا التصريح بعدها! كما ذكروا أن «الإخوان» غير طامحين في رئاسة الدولة ولا في رئاسة الحكومة! وهنا أيضاً تناسوا تصريحاتهم وتناسوا سابق مواقفهم، ولم يكتفوا بترشيح الشاطر للرئاسة بل أردفوا خلفه محمد مرسي، كاحتياط، أو «أستبن»، بحيث إن سقط الأول حل «الاستبن»، أو «السبير» البديل مكانه، وهذا من شدة حرصهم على الفوز! كما سبق أن صرح الشاطر نفسه بأن «الإخوان» لن يرشحوا أحداًَ منهم للرئاسة، وأن حدث فإنهم لن يدعموه، ثم عاد الشاطر نفسه ورشح نفسه للرئاسة ودعمته الجماعة، ولحسن الحظ خرج من السباق، لنقص في الأهلية! ولا يتسع المجال هنا لإيراد تصريحاتهم المتناقضة الأخرى التي تناسوها أو لحسوها أو عملوا بعكسها، معتمدين على الذاكرة الشرقية المتسامحة، وعلى سذاجة المنتمين إلى حركتهم، فهؤلاء الذين باعوا مصداقيتهم مرة على استعداد لبيعها مرات ومرات، كما أنهم سيتنصلون من أي عهود أو وعود أو تعهدات قد يطلقها مرشح الرئاسة مرسي، لأن هؤلاء عندهم كل شيء يهون في سبيل الوصول إلى الرئاسة، وإقامة حلمهم بدولة الخلافة، وجلوس مرشدهم على قلوب المصريين لقرن مقبل، كما حصل ويحصل في إيران.
فيا أيها المرشح المصري، لا تثق بهؤلاء، فهم وصوليون وسيبيعونك وسيبيعون مصر بأبخس الأثمان.

أحمد الصراف

احمد الصراف

الحذر من الكذبة

ورد في مجلة الدعوة، (عدد 65 أغسطس 1981)، لسان حال «الإخوان»، نص فتوى صادرة عن محمد عبدالله الخطيب، مفتي الجماعة وأكبر أعضاء مكتب الإرشاد سنا، يقول فيها إن حكم بناء الكنائس في الدول الإسلامية يخضع لثلاثة شروط، فالبلدان التي فتحت عنوة، كالإسكندرية مثلا، يحرم فيها وجود الكنائس. والبلدان التي فتحت صلحا، كالقاهرة، تبقى كنائسها كما هي من دون ترميم، حتى تقع. أما البلدان التي أنشئت حديثا، كحلوان، فهذه لا يجوز بناء «هذه الأشياء» (هكذا) فيها! وفي فتوى ثانية في العدد نفسه يقول المفتي ذاته عن حكم دفن موتى المسلمين، إن من تزوج بمسيحية وحملت منه وماتت قبل أن تلد، يفتح بطنها ويخرج الجنين منه، وتدفن هي في مقابر المسيحيين ويدفن الجنين في مقابر المسلمين، لكي لا يتعذب معها! يقول ذلك وهو يعلم أن زواج المسلم بالمسيحية حلال بلال!
نورد هذين المثالين فقط لنبين ما سيكون عليه حال غير المسلمين والمرأة في دولة «الإخوان» التي يزمعون تأسيسها في مصر فور فوز مرشحهم محمد مرسي برئاسة مصر، فأقباط مصر ونساؤها سيكونون أكبر الخاسرين والضحية إن وصل «الإخوان» للحكم، وبالتالي فإن كل محاولات المرشح محمد مرسي للتخفيف من مخاوف الأقباط والليبراليين والنساء، والقول انه لن يفرض الحجاب ولا النقاب، وانه سيستعين بمسيحيين لمشاركته في الحكم، لا يمكن الركون لها، فالنصوص والأحكام واضحة، ومن سيحكم مصر هم فقهاء «الإخوان» ومرشدهم الأعلى وليس رئيس الجمهورية، الذي كان اصلا البديل! وفي مؤتمر صحفي عقده محمد مرسي أخيراً اطلق سيلا من التعهدات، وسعى لطمأنة الجميع من مخاطر وصوله للحكم! ولكن هذا ليس من حقه، فقهيا ودينيا، ولا يمكنه أن يعد بأمور يعلم جيدا أنه لا يملك القول الفصل فيها، فحقوق الأقباط معروفة، والخط الهمايوني معروف، كما أنه أعجز من أن يلغي أحكام من سبقه من مرشدي «الإخوان» أو مفتيهم، أو مخالفة تعليمات مكتب الإرشاد، فهو ليس إلا مرشحا عنهم وبإمكانهم إزالته، أو حتى تصفيته، إن شاؤوا ذلك! ومن لحس او الغى فتاوى من سبقه من مفتين سيلحس ويلغي ما يصدر عنه الآن من اقوال! فالمكيافيلية هنا تلعب دورها، ومن أجل الوصول للحكم.. كل شيء مباح! ونحن لا نقول ذلك للدعوة لانتخاب أحمد شفيق، ولكننا ننصح من بيده الخيار ان يختار أهون الشرين، فقد اثبتت كل وقائع التاريخ الحديث ان ليس صعبا ابدا التخلص من الحكم العسكري، على افتراض أن شفيق يمثل العسكر، ولكن من شبه الاستحالة التخلص من حكم رجال الدين، ولكم في الطريقة التي تحكم بها إيران أسوة سيئة! فكل ما في إيران اليوم يدار من قبل رجال الدين، فالقوات المسلحة تأتمر بأمرهم، والحرس الجمهوري والمخابرات في جيوبهم، و«الخارجية» و«الداخلية» تحت عمائمهم، وكلهم يدارون من مكتب المرشد الأعلى، الذي يشبه مرشد «الإخوان»، في تسميته وصلاحياته ولا يحق لأحد مساءلته!

أحمد الصراف

احمد الصراف

مصر يا أم البلاد

إن الفساد الذي كان قائماً في مصر أيام مبارك أو السادات أو عبدالناصر رهن بشخوصهم هم لا بالنظام.. أو اللانظام الذي كان قائماً.. أما النظام الجمهوري المدني الدستوري فلا ضير فيه، وهو في هذه المفاضلة بين شفيق ومرسي تكون النتيجة لمصلحة شفيق بلا شك!
(الزميل صالح الشايجي، الأنباء الكويتية).
لم تكن مصادفة أن مصر كانت متقدمة على كل الدول العربية في كل شيء، فبرلمانها كان في يوم الأقدم في المنطقة، وكذا دار الأوبرا والسينما والنحت والرسم والموسيقى والثقافة والأدب والتعليم الجامعي. وكانت مصر مقصد كبار شخصيات العالم وعلمائه وفنانيه، وبالتالي كان كل من برز في مصر في الأعوام المائة والخمسين الماضية من سياسيين وممثلين ومطربين وكتاب ومخترعين وزعماء شعبيين وقادة عسكريين وحقوقيين، كانوا في الغالب إما نتاج فترة ما قبل الحكم العسكري فيها الذي بدأ مع عام 1952، والذي دام ستين عاما، أو بعد ذلك من نتاج معارضي ذلك النظام الدكتاتوري الذي طحن عظام المصريين مع أحلامهم على مدى حكم ضباط ثلاثة جعلوا المصري ينظر للعمل في «الخارج» كخلاص بعد أن كان يشبهه بالمنفى! وجاءت الثورة الشعبية لتغير من الصورة النمطية، «الاستيريوتايب»، للفرد المصري، التي سبق ان كرستها «ثورة» يوليو 52، من خلال أجهزته القمعية والتي اظهرت المصري كشخص اتكالي غير دقيق في عمله ويميل للكسل وقلة الإدراك بعد ستين عاما من المعاناة، بحجة أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وكانت النتيجة ان مصر، تحت حكم العسكر، خسرت كل معاركها، إن مع إسرائيل أو مع التقدم والحرية والكرامة، ثم جاء الوقت الذي اكتشف فيه الكثيرون، وبالذات أولئك الذين طالما سخروا من مصر طوال العقود القليلة الماضية، أن بلدانهم لم تعرف يوما الرقي والتقدم اللذين عرفتهما مصر في عزها، وهنا لا نتكلم عن الفراعنة ومن اتى من بعدهم، ولا عن كليوباترا ولا هيباتيا ولا حتى شجرة الدر، بل نشير إلى كل أولئك الذين أثروا حياة العرب واعطوا العروبة مذاقها طوال مائة عام، والذين قل نظيرهم في غالبية، إن لم يكن كل دول السخرية والاستهزاء، فلم يكن مصادفة بروز المصريين في ميادين الرسم والموسيقى والنحت والمسرح والهندسة والبناء والصناعة والغناء، فقد كانت مصر مهيأة دائما لأن تعطي، وما رأيناه من إسفاف سياسي وفني وثقافي في العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة كان النتيجة الحتمية لطريقة الحكم الخاطئة، والتي كان من نتاجها ما اصبحنا نراه من تشدد ديني وتخلف سياسي وعلمي وثقافي، ولكن مصر التي أعطت العرب والعالم فطاحلة وقمماً من امثال شوقي والمازني والعقاد والمنفلوطي وطه حسين وام كلثوم وعبدالوهاب وبدرخان ومختار وطلعت حرب ومحمد فريد وسيد درويش وعلي عبدالرازق، ومحمد علي باشا، ونجيب محفوظ وغيرهم الكثير،ستستمر مصر في عطائها! وهنا نتمنى أن لا يصل «الإخوان» للحكم فيها لكي لا تخرج مصر من مأزق الدكتاتورية العسكرية لمأزق الدكتاتورية الدينية، والأهم من كل ذلك ان مصر لا تصلح ان تكون إلا دولة مدنية، ووصول الإخوان للحكم، سيحولها لدولة دينية بلا جدال.

أحمد الصراف

احمد الصراف

هيلين الرائعة

من لم يزر منطقة البحيرات Lake District شمال غرب لندن، فكأنما لم يزر انكلترا بعد! فجمال هذه المنطقة يفوق الوصف، وقد تكون الوحيدة في بريطانيا التي احتفظت بطبيعتها وقاومت زحف الكونكريت عليها، ولهذا قصة تستحق ان تروى.
ولدت هيلين بياتريكس بوتر B. Potter عام 1866 وتوفيت في 1943، واشتهرت بكونها مؤلفة كتب أطفال، وتميزت كتبها برسوم جميلة لحيوانات الريف الانكليزي، طالما ألهبت مخيلة قرائها الصغار، واصبحت مع الوقت جزءا من ذكريات طفولتهم، وكانت في كتبها تدعو للمحافظة على الطبيعة وروعة العيش في الريف.
ولدت بياتريكس في أسرة موسرة وعاشت مع أخيها الأصغر منها، الذي لم يعمر طويلا، في محيط صغير بالرغم من حجم عائلتها الكبير. وكان والداها من محبي الفنون والطبيعة، وكانا يسمحان لابنائهما باقتناء بضعة حيوانات في منزلهم، وكانت بياتريكس وأخوها يطيلان مراقبة حركة تلك الحيوانات الصغيرة وتصرفاتها، وساعدتها تلك المراقبة الدقيقة في اكتساب القدرة على رسم تلك الحيوانات بدقة شديدة، وكانت أسرتها تقضي إجازة الصيف عادة في اسكتلندا، أو في منطقة البحيرات، ومن تلك الأجواء اكتسبت بياتريكس حبها الكبير للطبيعة، وأصبح هذا مع الوقت موضوعا لقصصها وما تضمنته من رسوم خلابة. كما ساعدتها الطريقة التي تلقت فيها تعليمها المنزلي الخاص في تطوير وصقل قدراتها الإبداعية في الرسم والرواية والعلوم والتاريخ. وقعت بياتريكس في حب نورمان وارن Norman Warne، الذي كان يرعى نشر كتبها، وقررت الاقتران به ضد رغبة والديها، ولكن نورمان لم يعش طويلا، حيث فارق الحياة بصورة مفاجئة، بعد شهر من خطوبتهما، نتيجة إصابته باللوكيميا، وكانت بعيدة، ولم تتمكن حتى من رؤيته قبل دفنه، وقد أصابها ذلك بحزن شديد، وتسبب في انعزالها أكثر واختيارها السكن في منطقة البحيرات، وبقيت كذلك حتى جاوزت منتصف اربعيناتها عندما التقت هناك بمحام معروف وتزوجته. واستخدمت بياتريكس ناتج بيع كتبها، وما ورثته من عمة لها، في شراء عدة عقارات في منطقة البحيرات، كان الأول عام 1905، ثم تبعته بآخر، وهكذا تمكنت على مدى بضعة عقود من شراء أراض شاسعة من خلال الاشتراك في مزادات شرسة مع شركات وافراد كانوا يرغبون في الاستيلاء على تلك المزارع لتحويلها إلى عقارات استثمارية مدرة للدخل، ولكنها أبقت كل ممتلكاتها كما هي، بطبيعتها الخلابة وتلالها وبحيراتها، وقامت قبل وفاتها، بعد 77 عاما حافلة، بوهب كل ما تملك، والذي يشكل الجزء الأكبر من «منطقة البحيرات» للشعب البريطاني، وبالتالي يعود الفضل الأكبر لها في حفظ الطبيعة الخلابة لتلك المنطقة. وسأقوم بعد اسابيع قليلة بزيارة تلك المنطقة ووضع وردة على قبر تلك السيدة تكريما لها، وذرف دمعة حرّى على وضعنا البيئي الوطني، الذي لم يتردد مسؤولوه في السماح لجهة ما بتخريب جزء من حديقة جميلة، ورئة تنفس طبيعية في منطقة سكنية، لتكون دارا لتحفيظ القرآن، كما كتبت الزميلة اقبال قبل ايام.

أحمد الصراف

احمد الصراف

سعادة الكويتي

ورد نص مميز في إعلان الاستقلال الأميركي الذي صدر في 4 يونيو 1776 يضع حق الإنسان في أن يكون سعيدا بمصاف حقه في الحياة والحرية. ويعتقد كثيرون أن هذا النص كان له أثر كبير في تطور شخصية الفرد الأميركي بصورة مغايرة لتطور الأوروبيين مثلا. ويعتقد الكاتب والمعلق الأميركي Dennis Prager أن من حق الإنسان أن يجعل من حصوله على السعادة هدفا يسعى لتحقيقه، بعد حصوله على اساسيات الحياة. ويقول ان الشعور بالسعادة أو الوصول اليها مسألة غاية في الجدية، وانه اعتقد لفترة طويلة أن البحث عنها ينطوي على أنانية، ولكن تبين له أن مطلب السعادة أخلاقي ويجب أن يعامل كفضيلة، فأن نصف شخصاً ما بأنه سعيد لا يقل عن وصف غيره بالأمين، المحب، الكريم أو الشجاع، فالسعيد يتصرف بسعادة ولا يرمي ببؤسه على الآخرين، ولا يقلب حياتهم لتعاسة، والسعداء عادة ما يجعلون الحياة من حولهم أكثر اشراقا. وإننا عندما نغتسل فإننا نحاول عدم فرض رائحة أجسادنا على الآخرين، وبالقدر نفسه فالسعداء لا يفرضون تعاستهم على الغير. كما أن السعيد أكثر استعدادا لتقديم المساعدة للغير، ماديا ومعنويا، وهناك علاقة بين السعادة والطيبة والكرم والعطف، وبالتالي لا يمكن تخيل أن من كانوا أعضاء في حزب نازي أو فاشي أو عنصري متطرف أو إرهابي ديني أو حراس في معسكر اعتقال أو تعذيب أنهم كانوا يوما ما سعداء في حياتهم. وفي كتاب «إجمالي الناتج القوي للسعادة والتنمية» لرئيس وزراء بوتان Jigmi Thinley، الذي أهداني سفيره نسخة منه، يقول: ليس هناك أمل في القضاء على كل الصراعات والحروب والدمار الذي يلفنا بغير سعي الجميع لأن نكون سعداء! ويذكر ان بوتان، بعكس الكويت، لا تمتلك موارد طبيعية ومن الدول الفقيرة، ولكن النظيفة.. في كل شيء! وورد في تقرير للأمم المتحدة أن شعوب دول شمال أوروبا، الأكثر تقدما، هم الأكثر سعادة في العالم، والدول الأقل سعادة هي الأكثر فقرا وتخلفا، خصوصا في أفريقيا، مع استثناءات كثيرة. كما ورد في التقرير أن ما يجعل الشعوب سعيدة ليس الثراء المادي بل توافر العوامل والروابط الاجتماعية، وغياب الفساد في الدولة وارتفاع سقف الحرية. ويركز كتاب بوتان على أهمية دور الحكومات في دعم الرفاهية الاجتماعية والشعور بالسعادة من خلال تعديل سياساتها وجعلها أكثر شفافية واقل فسادا وأقل تفضيلا لأطراف على حساب آخرين.
ولو طبقنا هذه المعايير على الكويت لوجدنا أننا، بشكل عام، شعب غير سعيد، فلا يكاد يمر يوم من دون أن نقرأ أو نسمع عن كارثة بيئية أو فساد إداري خطر أو سرقة مليونية او تجاوز خيالي، أو بصق نائب في وجه زميل، وتجارة بشر وحرمنة مكشوفة وتغطية على أخطاء الأقارب، كل هذا ساهم ويساهم في الشعور بعدم الاطمئنان والارهاق والقلق على المستقبل، خصوصا مع تزايد الإحساس بأن كل ما يرتكب يمر من دون حساب! يحدث ذلك رغم أن الكويت لديها، بخلاف كل دول العالم، كل المكونات اللازمة لجعل شعبها الأكثر سعادة في العالم!

أحمد الصراف

احمد الصراف

استمرار إتلاف العقول

يصف داعية معروف أعراضا مرضية تظهر على بعضهم، منها كثرة التعرق، أي أن يديه تقطران عرقا، ووجهه ينضح بالعرق، وتجده يشكو من حرارة دائمة، في الوقت نفسه الذي لا يشتكي فيه غيره من الحر! فمثلا تجد الجو جميلا وعاديا، ولكنه يشكو من الحر، ويتعرق ويطلب زيادة قوة تبريد التكييف! كما نجد أنه يكثر من السرحان، ويسوق السيارة ويتعدى الاكزت (هكذا) ويقصد المخرج، ويتساءل بينه وبين نفسه: أنا وين؟ ويكثر من النسيان، ويميل الى الفتور، وكثرة الجلوس، ويردد «مالي نفس أقوم»، ويشعر بتكاسل دائم، كما نجد في بطنه غازات كثيرة تتعبه، وأحيانا يشعر بآلام أو «نغزات» على جانبي خاصرته، او بطنه أو تحت الثدي أو خلف ظهره، طبعا هذه العلامات ربما تظهر كلها أو يظهر بعضها! كما نرى، عند القيام بعلاجه، أن عينيه تدمعان من غير بكاء أو شهقات، بل نرى فقط دموعا تخرج من العين، وربما يعرق جبينه. انتهى شرح الأعراض!
ويقول إنها جميعها أعراض دخول الجن في الجسد، وتلبسه للانسان! وهذا ما ورد على لسان الداعية السعودي محمد العريفي الذي سبق أن قال في مقابلة تلفزيونية أخرى ان اليهود في اسرائيل يكثرون من زرع شجر «الفرقد» ليختبئوا خلفه عند هجوم المسلمين عليهم لافنائهم! وقال في مقابلته عن تلبس الجن ان علاج هذا المرض يكمن في قراءة سور قرآنية محددة، اما قيام «المتلبس بالجن» بقراءتها بنفسه، أو الطلب من شخص آخر تلاوتها عليه، وان هذا كفيل بتخليصه من التلبس!
ولو تمعنا في الأعراض التي ذكرها الداعية، من أن كل من تعرقت يداه أو شعر بعدم ميل للحركة وبالحرارة والنغزات أو شعور بغازات في البطن، فهذا يعني أن أكثر من %90 من الكويتيين، على الأقل، قد تلبسهم الجن في وقت من الأوقات! ولو كان علاج التلبس بمثل هذه السهولة، لما كان هناك من لايزال فيه جن!
ان ذكر مثل هذه الأقوال في وسائل اعلام ومشاهدة الصغار والبسطاء لها كفيل بتخريب عقولهم وتسطيح تفكيرهم وابعادهم عن الطرق الحديثة لعلاج مثل هذه الأعراض التي قد يكون سببها وجبة دسمة، أو قلق من أمر ما، أو اي شيء آخر غير دخول الجن فيهم! ومؤسف أو مخيف حقا تزايد استخدام مثل هذا «اللامنطق» في وصف احوالنا، وعلاج أمراضنا، وكأننا تخلينا جميعا عن عقولنا، والحقيقة أن مسؤولية وسائل الاعلام المرئية بالذات في افساح المجال لمثل هذه الاقوال أكبر من مسؤولية قائليها، ولكن من يود ان يستمع للحكمة أو يتعظ…لا أحد تقريبا!

أحمد الصراف

احمد الصراف

كرافتة القديس جون

يقول القارئ «محمد ق» إنه عمل في مطلع السبعينات في شركة نفط الكويت، وكان اتقان الانكليزية في تلك الأيام من ضروريات النجاح في العمل، وربما تغير الوضع الآن. ومن أجل ذلك قامت شركة النفط بتشجيع الموظفين على الالتحاق بمركز التدريب اللغوي في مدينة الأحمدي. ويقول إن أول مدرس لغة تصادف وجوده هناك كان، لحسن الحظ، انكليزيا، واسمه السيد جون، ولكنه كان قليل النشاط بسبب تقدمه في السن. وكان معروفا عنه اصراره على ارتداء ربطة العنق نفسها يوما بعد يوم، بصرف النظر عن لون البدلة أو القميص، وكانت الكرافتة، بسبب طول الاستعمال، شاحبة اللون ويبدو عليها القدم، كما كان منظره أحيانا وهو يرتديها مثار سخرية وانتقاد دائمين من جميع الطلبة. ويقول محمد انه كان يشعر بأنه كان يعلم بتعليقاتهم وسخريتهم، ولكنه كأي انكليزي، كان مهذبا وبارد الأعصاب، حتى وهو بربطة عنقه المهترئة تلك، وبالتالي لم يكن يكترث كثيرا لما كنا نقوله عنه. وفي أحد الأيام أخبرهم رئيس مركز التدريب أن عيد ميلاد المستر جون يصادف اليوم التالي، وأن عليهم ترتيب مفاجأة لطيفة له. وهكذا تم الاتفاق على مشاركة جميع طلبته في شراء هدية للمدرس الأرمل بتلك المناسبة، مع تحضير وجبة طعام خاصه به. وهكذا تم الاتفاق على شراء عدد من ربطات العنق الأنيقة له بألوان مختلفة، ومفاجأته بها! وفي فترة الغداء، قاموا بالطلب من المستر جون مشاركتهم الطعام في الكانتين، وهناك فاجأوا الرجل بغناء جماعي لأغنية عيد الميلاد المعتادة، وقدموا له الهدية بعدها، فشكرهم بتأثر واضح، ووضع الهدية جانبا من دون أن يفكر في فتحها. وفي صباح اليوم التالي حضر المستر جون الى الفصل، وابتسامة جميلة تملأ وجهه، ولكن من دون ان يكترث لوضع واحدة من ربطات العنق التي اهديت له، ولم يحاول أن «يجبر خاطر»، بل جاء مرتديا ربطته القديمة، وعندما لاحظ علامات التساؤل بادية على وجوه الجميع، قال إنه يقدر مشاعرنا ويشكرنا كثيرا على الهدية، وأنه سوف يحتفظ بتلك الربطات ما دام حيا، ولكن طلب اعفاءه من ارتداء اي منها، فربطته القديمة عزيزة عليه ولن يستبدلها بأخرى، فقد كانت آخر هدية حصل عليها من زوجته قبل أن تتوفى نتيجة مرض عضال، ووفاء منه لذكراها قرر الاحتفاظ بربطة العنق تلك وارتداءها ما بقي على قيد الحياة.
ويقول محمد إننا شعرنا جميعا يومها بالخجل من سابق أحكامنا على الرجل، وما أطلقناه عليه من أوصاف تتعلق بقلة الذوق والبخل، وأصبحنا منذ تلك اللحظة نطلق عليه اسم «القديس جون»!

أحمد الصراف

احمد الصراف

معجزة الغريبة

قد لا تلتفت له للوهلة الأولى، أو يسترعي انتباهك بشدة عندما تصادفه، ولكن ما أن تجلس معه أو تستمع الى أحد أعماله الفنية تكتشف كم هو كبير، وكم هي متضاربة ومتضادة تلك المشاعر الفياضة التي تتصارع في داخله، نتيجة تمازج وتداخل ثقافاته التي نشأ عليها، وتشرب منها حتى الثمالة، ورغبته في أن يعطي وطنه شيئا كبيرا، والتي خلقت منه فنانا مميزا، سيكون له دور كبير في تطوير الفن الموسيقي بشكل عام في الكويت، ويساهم في اضاءة شمعة كبيرة تساعد في تبديد الظلام الفكري والاسفاف الفني الذي يحيط بنا، هذا هو نواف الغريبة الذي قام بمساعدة كبيرة من بيت لوذان، رئة الفن والثقافة والأدب في الكويت، وبدعم من الرائعة الشيخة فرح الصباح، بإقامة أمسية أكثر من خيالية، ربما سننتظر كثيرا للاستمتاع بما يشابهها مرة ثانية. لقد نجح الغريبة ليس في امتاعنا بمعزوفاته الرائعة وفنه الرفيع، بل وفي جمع كل تلك المواهب الشابة في عمل موسيقي قل نظيره، أقول ذلك من دون مبالغة، فقد نجح في خلق توليفة موسيقية شاركت فيها مغنية الأوبرا أماني الحجي ونورا قاسم وفيفيان الشحروري ومنتصر الفارسي وهادي خميس وفيصل مرعي، الذين أمتعونا باصوات أكثر من واعدة، هذا اضافة إلى مبدعين آخرين من عازفي عود وأورغ وكمان وسكسافون وترمبيت، امتازوا جميعا بانسانيتهم الرائعة، ان بانتماءاتها أو بابداعاتها! لقد كان عطش الجمهور لمثل ذلك الفن واضحا، خاصة عندما مزج الغريبة اليامال الخليجي بالأوبرا الايطالية مع خلفية من آلة النفخ التي يستخدمها الأوبورجينيز، فأسمعنا مقطوعة جميلة ومبدعة في كل نغمة ولفتة.
شكرا للفنان الغريبة، ولكل من ساهم في ذلك العمل من أمثال القلاف، والقلاف الآخر، وسليق ومينا والقطان والقطان الآخر، وجومانا والسالم والفرج والبلوشي ومارينا وراشد والزنكي والوتيد وثاني وزهرة وغانم والسالم والفرج و«أوانا» وحاجي وجومانا، الذين أشعرونا جميعا وهم يغنون ويعزفون، كم تداخلت أنفاسهم مع فنهم وعشقهم اللامتناهي له. أما الغريبة، قائد تلك الأوركسترا الجميلة وواضع ألحان تلك الأمسية، فقد أبدع في مناجاة كل آلة موسيقية وقعت يداه عليها، ونجح باقتدار في وضع مقطوعات تحمل تأثيرات هندية وخليجية وأفريقية وأوروبية واسترالية أصلية في قالب دولي جميل. نعم، ما استمعنا له تلك الليلة في بيت لوذان أمر قد لا يتكرر مرة اخرى، ولكننا سنسعى وآخرون من محبي فن نواف الغريبة إلى أن تكون هناك حفلة ثانية وثالثة ورابعة، ففي كل أجواء الحرمان الفني التي نعيشها، إن نتيجة سطوة وتقدم القوى المتخلفة، أو بسبب تخلف القوى المتقدمة، لا يبقى لنا غير نواف وأمثاله، فشكرا كبيرة له، ولكل من عزف وغنى معه، وشكرا كبيرة أخرى لبيت لوذان، وكل رعاة تلك الأمسية.

أحمد الصراف