احمد الصراف

تخاريف الربيع وهيكل

في مقابلة نشرتها الأهرام في يوليو الماضي، ذكر محمد حسنين هيكل أن ما يشهده العالم العربي اليوم ليس «ربيعا»، وانما «سايكس بيكو» جديد لتقسيمه وتقاسم موارده ومواقعه. وأن التقسيم سيكون ضمن 3 مشاريع، الأول: غربي، والثاني ايراني، والثالث تركي، فضلا عن نصف مشروع اسرائيلي لاجهاض القضية الفلسطينية! والحقيقة أن مثل هذا الكلام ردده هيكل ومعلقون «استراتيجيون» في كل مرة تنشب فيها حرب أو تشتعل ثورة او يحدث انقلاب! فعندما نشبت حرب الخليج الأولى بين ايران وصدام العراق، والحرب الثانية بين صدام وأميركا، ارتفعت اصوات هؤلاء محذرة من أن العراق سيقسم حتما، على الأقل لثلاث دول! وتكرر «الهرج» نفسه عندما بدأت الثورة الليبية، وكيف أن القوى الغربية، التي تساند الثوار، تهدف لتقسيمها لولايات! ويعود الحديث نفسه للتكرار الآن مع الثورة في سوريا، وأنها ستقسم حتما لدول عدة، احداها علوية! وقد تكرر هذا الحديث إلى درجة أنني كلما نويت شراء خريطة حائط أؤجل القرار لحين الانتهاء من تقسيم المنطقة بصورة نهائية، وشراء واحدة جديدة، ويبدو أنني سأنتظر لبعض الوقت قبل تحقيق شيء! ويقول هيكل ان سبب هذا الثورات هو تأديب المواقع، أو الدول، العصية، أو تأديبها واستعادتها لـ «حضن الغرب»، وكل ذلك تمهيدا لفصل جديد في شرق أوسط يعاد تخطيطه وترتيبه وتأمينه، حتى لا يفلت مرة أخرى، كما حدث عندما بدأ رواد العرب حلم مشروعهم القومي، الذي تبدى لسنوات كأنه هو شكل المستقبل! وهذا منطق ساذج فذلك الحلم، والذي لم يكن أكثر من حلم، الذي يتكلم عليه هيكل تهاوى كعلبة كرتون فارغة عند أول اختبار قوة مع اسرائيل، وبالتالي كان مشروعا فارغ المحتوى، ولم يكن يوما مصدر قلق لأحد اصلا غير شعوبها! وهنا من حقنا القول ان الربيع العربي، بصرف النظر عن صحة التسمية أو ما تمخض عنه حتى الآن، كان ولا يزال في مجمله، حركة أو ثورة صحية طال انتظارها، وكانت مستحقة منذ عقود، فالواقع ان كل الأنظمة العربية، من سقط منها ومن بقي، كانت ولاتزال تشكو من اختلالات سياسية واقتصادية وأخلاقية رهيبة، لا يمكن أن تبقى كما هي لمجرد أن المنطقة معرضة للتقسيم ولنهب ثرواتها، وكأن شعوب هذه الدول كانت تعرف أصلا ما تعنيه كلمة «ثروة»، فقد نهب بن علي والقذافي ومبارك وصالح وبطاناتهم ثروات شعوبهم وفشلوا، بقسوة مخيفة، في تحقيق شيء لهم، كما أهانوا كراماتهم لعقود طويلة، ولا يمكن قبول منطق أن ما سيأتي بعدهم سيكون أكثر سوءا، أو التخويف بالبعبع الديني، فالتغيرات الجديدة التي عمت العالم العربي، والتي وصلت تأثيراتها حتى إلى اسرائيل، لا يمكن أن تسمح، في مجملها، بالعودة إلى الوراء، فالشعوب تنفست الحرية وعرفت كيف تحصل على حقوقها! والغريب أيضا تباكي هيكل على ليبيا، وكيف خسرها العرب، وذهبت لقمة سائغة لدول الغرب، وكيف ان الذين لايزالون يقاومون حكومتها بالسلاح، هم وطنيون يدافعون عن أرض ليبيا ومصالحها القومية، وليس عن نظام القذافي!
لا شك في أن الخير قادم، وان ببطء، وهذا ما كان ليحدث لولا الربيع العربي!

ملاحظة: إجابة لغز اينشتاين، هو الالماني، ساكن البيت الاخضر، الذي يدخن سجائر برنس، ويشرب القهوة ولديه سمك!
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com

احمد الصراف

صبر أينشتاين

ولد ألبرت أينشتاين، أعظم عقل أنجبته البشرية، في مارس 1879، وهو الأب الشرعي لعلم الفيزياء الحديث. كان في زيارة لأميركا عندما استولى هتلر على الحكم في وطنه، فلم يعد، وبقي في أميركا وحصل على الجنسية عام 1940، وكان له دور في حث الرئيس روزفلت على منع المانيا من صنع قنبلة نووية، وأن تكون أميركا الأولى في صنعها، ولكن موقفه كان واضحا من استخدام هذا السلاح لحل النزاعات. توفي أينشتاين عام 1955 بعد أن ترك أكثر من 300 بحث علمي، و150 عملا غير ذلك، ورفض في مرحلة أن يصبح رئيسا لإسرائيل، وكانت له آراء واضحة بشأنها، إضافة لآرائه شبه المتقلبة فيما يتعلق بالوجود والكون! وقد وضع أينشتاين في مرحلة مبكرة من حياته لغزا قال ان %8 من البشر فقط يعرفون حله. وتقول تلك الأحجية اننا لو افترضنا أن هناك 5 منازل تقع على خط واحد، ولكل منزل لون مختلف عن المنزل الآخر، ويقتني صاحب كل منزل حيوانا اليفا مختلفا عن بقية جيرانه، ويتناول كل واحد شرابا مختلفا عن الآخرين، ويدخن سجائر مختلفة أيضا عن البقية! والسؤال هو بينهم الذي يتخذ السمك كحيوان أليف؟ وللمساعدة في الإجابة يعطي أينشتاين التلميحات المساعدة التالية: يعيش البريطاني في البيت الأحمر. ويقتني السويدي كلبا، كحيوان أليف. أما الدانمركي فإنه يفضل تناول الشاي. ويقع البيت الأخضر من البيوت الخمسة على يسار البيت الأبيض. ومالك البيت الأخضر يفضل شرب القهوة. أما الذي يقتني طيرا كحيوان أليف فإنه يدخن سجائر «بولمال». ويدخن مالك البيت الأصفر سجائر «دنهل». أما مالك البيت الذي يقع في وسط البيوت الخمسة فإنه يفضل شرب الحليب دائما. والذي يسكن البيت الأول من البيوت الخمسة نرويجي الجنسية. والذي يفضل تدخين سجائر «بلند» يسكن بجوار صاحب البيت الذي يربي القطط. أما الذي يمتلك حصانا، كحيوان أليف، فإنه يسكن بجوار الذي يدخن سجائر «دنهل». والذي يدخن سجائر «بلوماستر» يتخذ البيرة شرابا، ومالك البيت الألماني الجنسية يدخن سجائر «برنس»، ويعيش النرويجي في البيت الملاصق للبيت الأزرق، وأخيرا: فإن الذي يدخن سجائر «بلند» هو جار الذي يتخذ الماء شرابا!
وهنا يتطلب الأمر رسم جدول من مربعات وتعبئة- الفراغات، بينها للوصول لمالك البيت الذي يربي السمك، وسنورد الإجابة في مقال الغد، وهي، كما يقول أينشتاين، ليست صعبة ولكنها تتطلب الكثير من الصبر، ولكن للصبر حدود.

أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com

احمد الصراف

قنديل محمد المنسي

كدت أن اختار «علي»، و«نور الله» عنوانا لهذا المقال، ولكن الأول غلب! القنديل هنا هو الذي يحمله الروائي محمد المنسي بيد، ممسكا بيده الأخرى قارئ روايته «قمر على سمرقند»، مستهدياً بنور القنديل في تعريفه بأحداث روايته الرائعة التي تقع غالبية أحداثها في منطقة شاسعة من وسط آسيا، وهي منطقة قلما اهتممنا بها وبشعوبها وبثقافاتهم وأصولهم ومدنهم وتقاليدهم، واكتفينا بكونهم مسلمين، وأنهم سيبقون هكذا، وبالتالي كفينا أنفسنا والآخرين شر القتال والمعرفة.
محمد المنسي ينقل قارئ روايته بين دروب وحواري طشقند وعشق آباد المتربة ومدن وقرى دوشنبه وبخارى المتعبة، وطرقات ومساجد وأضرحة سمرقند، و«ألماأتا» وخوارزم المقدسة، ويدفع القارئ إلى أن يلهث خلفه يريد معرفة مصير بطل روايته الدكتور «علي»، وشخصية الرواية الأسطورية، طالب المدرسة الدينية والمفتي بعدها والعاشق أبداً، «نور الله»، وصديقه الثائر «لطف الله»، ثم ينتقل بالقارئ بعدها إلى القاهرة، لنعرف سبب رغبة «علي» الملحة في زيارة تلك المنطقة الساحرة والمجهولة من عالمنا، وكل ذلك يجري بدقة وجمال أسلوب محمد المنسي، ووصفه الحي بحيث تشعر وكأنك تشاهد عرضاً حياً لأحداث سابقة، وليس حروفاً جامدة على الورق، فالرواية برمتها رحلة عبر زمن ومكان لا نعرف عنهما الكثير، وفي منطقة مرت بإرهاصات وضغوطات لا تحصى، بحيث مسحت هويتها القديمة وجعلت من ثقافات شعوبها خليطا غريبا حائرا بين إسلاميته القديمة، وشيوعيته الغابرة، ودكتاتوريته البائسة الحالية!
رواية «قمر على سمرقند» رواية غير عادية في قالب وزمن غير عاديين، وبالرغم من أنها صدرت قبل أكثر من سنتين، فإنها مازالت تلقى الرواج نفسه تقريباً، وتقع في أكثر من 500 صفحة، لا تود أن تنتهي من قراءتها، ولكن تشوقك لمعرفة مجرياتها تدفعك، رغماً عنك، إلى أن تقلب صفحاتها الواحدة بعد الأخرى بلهفة لكي تنهيها، وقد تكون هذه الرواية الأولى من نوعها في الأدب المصري، وربما العربي، بتميزها بكل ذلك العمق التاريخي والسرد القصصي من دون إنهاك القارئ بتفاصيل كثيرة ومملة، وأحداثها تغطي الحقبة السوفيتية لبلاد ما وراء النهرين من آسيا الوسطى، وما بعد تلك الحقبة، واستقلال دولها، ولو صوريا، بعد أن سيطر رجال مخابرات العهد السابق على مقاليد الحكم في غالبيتها.
رواية ننصح بقوة بقراءتها، وهي متوافرة في مكتبات بيروت والقاهرة، وسبق أن فازت بأكثر من جائزة أدبية مرموقة، وطبعت لأكثر من مرة، ولدينا نسخة «إلكترونية» لمن يريد.
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com

احمد الصراف

لا هولندا بعد اليوم (2-2)

تشتهر النيذرلندز بكونها واحدة من أكثر دول العالم إيماناً بمبادئ الحرية، وربما جاء ذلك كرد فعل لتاريخها الاستعماري السيئ! فبالرغم من أسبقيتها في تحريم المتاجرة بالرقيق، عام 1863. (وكنا في الخليج بعد ذلك التاريخ بمائة عام لا نزال نتعامل به)، فإنها لم تستطع أن تغفر لنفسها تاريخها الاستعماري السيئ، ومعاملتها غير الإنسانية لسكان مستعمراتها ومع الرقيق، ولا شك أن هذا خلق لديها ردة فعل بحيث أصبحت أكثر دول العالم «إنسانية» في التعامل مع الآخر! علماً بأن تحريم الاتجار بالرقيق أدى في حينه لبداية تدهور أوضاعها الاقتصادية، وصاحبه تأخر في اللحاق بالدول الأوروبية في مجال تطوير صناعاتها، وهذا أدى إلى تأخر ثورتها الصناعية! كما ساهمت حروبها مع الإنكليز والتي خسروها جميعاً، في استيلاء هؤلاء على أغلبية مستعمراتهم في أميركا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا وغيرها. وأكملت فرنسا المهمة واحتلت بلادهم مع نهاية القرن 18 في عهد نابليون، ونقل حاكمها الفرنسي، شقيق نابليون، العاصمة إلى أمستردام! ولكن بعد زوال الاحتلال أبقى الدتش، بما عرف عنهم من ميل للحلول الوسط، أمستردام كعاصمة، ولكن نقلوا مقر الحكومة ومؤسساتها لـ «لاهاي»، والتي تعرف، أيضاً، بعاصمة «الشرعية الدولية».
برع النيذرلندرز في صناعة السفن الضخمة التي سهّلت لهم عمليات استكشاف أعالي البحار، ومكنتهم، أيضاً، من تنمية تجارتهم على حساب صناعاتهم ومنتجاتهم الزراعية، إلى أن جاء وقت ارتفعت فيه قيمة عملتهم لدرجة كبيرة بسبب النمو الكبير في مداخيلهم من هذه العمليات من التجارة والخدمات، وهذا أدى إلى رفع تكلفة منتجاتهم الصناعية والزراعية، ولم تجد بالتالي من يشتريها بسبب غلاء أثمانها، وهذا ما عرف بعد ذلك بـ «مرض الدوتش» Dutch disease، وهي تجربة لا تزال تدرس في الجامعات.
زيارة أمستردام، أو فينيسيا الشمال، متعة لا تضاهى، فهي مدينة جميلة وفريدة من نوعها، ان بشبكة قنواتها الواسعة أو بجسورها وقناطرها القديمة التي تجعلها مدينة شاعرية وخلابة هذا غير ما يجري تحت أراضيها من تقنية عصرية ومتقدمة.
يعتبر الدتش شعباً مسالماً، وعرف عنهم تقبلهم لثقافات الآخرين وسهولة التعايش معهم، ولا نجدهم بالتالي يتصرفون بطريقة عدائية مع الغريب والعكس هو الصحيح، نقول هذا بالرغم من النجاح الكبير الذي حققه اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة بسبب دعواتهم المعادية للأقليات الإسلامية، وربما لا يلام البعض على مواقفه المتطرفة، فقد أساء بعض قادة المسلمين لحريات التعايش ومارسوا التمييز السلبي ضد المرأة في مجتمعاتهم، وتصرفوا معها وكأنهم لا يزالون يعيشون في سابق مجتمعاتهم التي هربوا منها بحثاً عن.. الحرية! وأظهر نجاح النائب المتطرف ويلدرز حجم العداء الذي أصبح يتفاقم تجاه الغرباء، وزاد الأمر سوءاً الزيادة الكبيرة في أعداد العاطلين عن العمل بين أبناء البلاد الأصليين.
ورداً على بعض «جماعتنا» عن أسباب فشلنا في الصناعة من أنهم يكتفون بحمد الله وشكره، لأنه سخّر لهم الغرب ليصنع لهم كل شيء، فإنك عندما تسير في شوارع أمستردام تشعر وكأن شعبها يشكر الله ويحمده، لأنه سخّر لهم العرب والمسلمين للقيام بخدمتهم وأداء الأعمال المتواضعة نيابة عنهم!
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com

احمد الصراف

لا هولندا بعد اليوم (1 – 2)

لا توجد، رسميا على الأقل، دولة تسمى هولندا، فهذه تسمية قديمة، وتخص مقاطعة من اصل 12 تتكون منها مملكة نيذرلندز المتحدة، أو «الأراضي المنخفضة»! ولكن البعض يفضل استخدام هولندا، ربما لانتشاره أكثر، وإن بصورة غير رسمية، أو لصعوبة نطق أو كتابة الاسم الصحيح، ولكن في الداخل لا يسمح باستخدام التسمية في إشارة للدولة!
يقول النيذرلنديون، أو «الدوتش» Dutch، وهي تسميتهم الصحيحة، واسم لغتهم، بأن الله خلقهم وهم بدورهم خلقوا بلادهم! ولنعرف ما يعنيه ذلك علينا النظر ليس فقط في الطريقة التي تكونت فيها النيذرلاندز على مدى القرون الأخيرة، والتي كانت في السابق مجموعة مستنقعات هائلة الحجم تغطي مساحة عشرات آلاف الكيلومترات، بل وفي الطريقة العجيبة التي استمرت فيها في الاحتفاظ بالمناطق الجافة جافة حتى الآن بالرغم من غزارة أمطارها وانخفاض أراضيها الكبير عن مستوى سطح البحر، مع وجود مساحات هائلة من الأنهار والبحيرات والقنوات والترع التي تراها في كل مكان. وقد تم استصلاح سهولها الخصبة عن طريق تجفيف الأرض، والتخلص من المياه من خلال شبكة هائلة من القنوات والممرات النهرية والسدود، وتحصين الأراضي المستصلحة بسواتر كانت في البداية تصنع من خليط من الطمي والأعشاب، أو العوارض الخشبية، واصبحت تاليا تبنى من الخرسانة.
ولو كان بالإمكان رؤية ما يجري تحت غالبية أراضي مدنها الكبيرة، وبالذات امستردام وروتردام وهارلم ولاهاي، لوجدنا أن هناك عملية سحب مياه هائلة تجري بدقة بالغة، لترمى في الأنهار والقنوات، وترفع كميات كبيرة منها لعدة أمتار لتصب في البحر، أو برفعها لتصب في أنهار الدول المجاورة!، وهي عملية لا تتوقف إطلاقا على مدار الساعة، وقد منحهم ذلك خبرة وسمعة عالمية كبيرة لا تضاهى في مجال بناء مدن جديدة على سطح الماء، وتخليص التربة من المياه الزائدة، ومعالجة مشاكل الري والتعامل بتقنية عالية مع المياه الجوفية، علما بأن %20 من أراضي نيذرلاندز، 40 ألف كيلومتر، تقع تحت مستوى سطح البحر، ويصل الانخفاض في بعض المناطق لـ7 أمتار تقريبا، كما ان المناطق المنخفضة هي الأهم والأكثر ثراء ويعيش فيها %21 من السكان، البالغ عددهم 16 مليونا. كما تقع %50 من مساحة أراضيها فوق مستوى البحر ولكن بأقل من متر، ولذا سميت بالأراضي المنخفضة، والتي يشكل بقاؤها تحديا مستمرا لقدرات الإنسان. وبالرغم من صغر مساحة الدولة النسبي وقلة سكانها فإنهم كانوا يوما من كبار اللاعبين الدوليين وسادة بحار من الطراز الأول، كما بلغت النيذرلندز في مرحلة ما درجة عالية من الثراء بفضل مستعمراتها الواسعة والغنية، ولا تزال بصمات تلك المرحلة تشاهد بوضوح في نيويورك، التي كانت اسمها الأول أمستردام الجديدة، و«هارلم»، التي سميت تيمنا بمدينة تحمل الاسم نفسه في النيذرلاندز. كما وصلت سفنهم الحربية لنيوزيلندا وجنوب افريقيا وأجزاء عدة من أفريقيا.
وتمكنوا من استعمار الأرخبيل الإندونيسي لفترة طويلة، إضافة لجنوب افريقيا التي تعود أصول الأفريكانز فيها لهم. وبالرغم من أن الدوتش كانوا من أوائل من كان لديهم برلمان منتخب، ولم يكونوا مستعمرين بنفس مقدار سوء منافسيهم، إلا أن تاريخهم في المتاجرة في الرقيق كان مظلما وبالغ السوء ووصمة عار في جبينهم، فقد استخدموهم كسخرة في مزارع الكاكاو والسكر والقهوة والقطن وعاملوهم معاملة سيئة جدا.

أحمد الصراف

احمد الصراف

وفضالة وعمالة وأسف ربيع

1 – كانت وسائل الإعلام الغربية أول من استخدم تعبير «الربيع العربي» في وصف حالة الغليان التي اجتاحت الوطن العربي قبل أقل من سنتين، والتي لم تستثن دولة واحدة من خيرها أو شرها! وقد بدأت الانتفاضات، التي تحولت لمسيرات حاشدة واضرابات، ومن ثم لثورات شعبية عارمة، في شتاء 2010، وبالتالي لا علاقة للتسمية بفصل الربيع! ويعتقد البعض ان التسمية تعني «الانتفاضة العربية»، وقد لا يكون هذا دقيقا، فالمراقبون يجمعون على أن للتسمية علاقة بما حدث في تشيكوسلوفاكيا في الفترة من يناير إلى أغسطس 1968، عندما انتخب دوبتشك رئيسا لها وحاول أثناء ذلك التخلص من الحكم السوفيتي لبلاده، ولكن الدبابات السوفيتية سحقت انتفاضته وأخرجته من الحكم إلى السجن! وهنا نجد أيضا أن ليس لفصل الربيع علاقة بالأمر. وورد في أحد المواقع الإلكترونية أن التعبير يعود للأديب الأميركي الاسباني الأصل «جورج سنتانا»، والذي كان يوما يلقي محاضرة في الجامعة، حيث كان يعمل، وكان الوقت ربيعا، وفجأة نظر من خلال نافذة الفصل إلى الحديقة في الخارج، وتوقف عن الشرح، وسرح بذهنه برهة، وفجأة استدار لطلبته وقال: معذرة، لن استطيع الاستمرار في هذا، إنني على موعد مع الربيع! وهنا جمع أوراقه ووضعها في حقيبته وترك الفصل، ولم يعد للتدريس ثانية، وبالتالي اصبحت عبارته تطلق على كل من يقدم على أمر يتضمن تغييرا كبيراً في حياته، ويحتاج لشجاعة للإقدام عليه، وأصبح من حق كل من لا يعجبه أمر ما أن يقوم بتغييره، سلما أو حربا، لأنه على موعد مع الربيع! وورد في الموقع نفسه أن هذا التفسير منقول من كتاب «ترانيم الحب والعذاب» للكاتب المصري «عبدالوهاب مطاوع»! وبالتالي للقارئ اختيار التفسير الذي يرضيه أكثر من غيره.
2 – ستنطلق من مصر بعد أيام أول قناة فضائية إسلامية تكون جميع مقدمات البرامج فيها من المنقبات! وستتخصص القناة للاهتمام بشؤون المرأة المنقبة إضافة إلى كل ما يتعلق بها في السنة النبوية.
3 – انتصف رمضان ولا يزال المواطن الكويتي حسين الفضالة غائبا عن أهله! والمؤسف أنه خلال فترة غيابه تغيرت أكثر من حكومة، ولم تفكر اي منها في تقديم تفسير لأسرته عن مكان وجوده، وهل لا يزال حيا يرزق، وما هو مصيره؟ فالظاهر أن الجميع مشغول عن مصيره بـ «لا شي»! فهل نأمل في التفاتة من وزير الخارجية، الشيخ صباح الخالد لموضوع هذا المواطن، وطمأنة أهله عن مصيره، أو على الأقل أن يخبرهم بما تقوم به الوزارة مع الجهات الخاطفة أو التي تحتجزه، إن وجدت! نأمل أن يعود الفضالة لأسرته وأحبته قبل العيد؟
4 – صرح السيد جمال الدوسري وكيل شؤون العمل المساعد، ان الوزارة تبحث حاليا في العمالة الوافدة التي لم تسجل شركاتها حتى الآن في نظام المكينة، لافتا الى ان عدد الشركات تلك يصل الى 28 ألف شركة، وأن الارقام الاولية تشير الى ان عدد العمالة في تلك الشركات غير المسجلة يصل الى 70 ألف عامل، أو أقل! فهل تصدقون حدوث ذلك في دولة بها مئات آلاف الكمبيوترات، وامنها يعرف دبيب النملة، إن احتاج ان يعرف! وإذا كان عدد الشركات غير المسجلة هو 28 ألفا فكم هو إجمالي عدد الشركات؟ وهل نحن تجاريا بنفس نشاط مدينة نيويورك ولا نعرف، أم أن تأسيس الشركات هو الأسلوب الأفضل للمتاجرة بالبشر؟

أحمد الصراف

احمد الصراف

مشكلة صافية

قلة من العرب، ومن الفلسطينيين بالذات، من سمعوا باسم عفيف صافية، دع عنك معرفة من هو اصلا! ويبدو أن الكثيرين سيكونون سعداء بعدم معرفته، فحضوره عادة ما ينكأ جراحا لا تندمل، ووجوده دليل صامت، ولكنه حي، على مدى تقصيرنا في تقدير المميزين منا، وتحيزنا، كما أن ثقافته تشكل تحديا لا يرغب في مواجهته انصاف المتعلمين منا!
ولد عفيف عام 1950 في القدس، وهو دبلوماسي فلسطيني فذ، بدأ حياته السياسية كنائب لرئيس البعثة الفلسطينية (المراقبة) في مكتب الأمم المتحدة في جنيف، ثم انتقل ليصبح ضمن هيئة مكتب ياسر عرفات في بيروت، في اوج قوة المنظمة عسكريا وسياسيا في لبنان، وكان مسؤولا عن العلاقات مع دول أوروبا. ولكن بداية عفيف الدبلوماسية الحقيقية كانت عام 1987 عندما عينه عرفات ممثلا للمنظمة في النيذرلاندز، ثم انتقل بعدها ليصبح رئيسا للبعثة الفلسطينية في بريطانيا، حيث أبلى بلاء حسنا. وفي عام 2005 ترأس مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، جاب خلالها أميركا طولا وعرضا، محاضرا عن القضية الفلسطينية، ومدافعا عن القدس وحق العودة، ولكن نجاحه الكبير أوغر صدور اصدقائه، وما اكثرهم، وأعدائه، وما أقلهم، فلم يستمر في منصبه لأكثر من عامين. وفي عام 2008 عين سفيرا لفلسطين في موسكو، ولكن الرئيس عباس، كما يشاع، أعفاه من منصبه وأرسله ليبقى في الظل مؤقتا، وقيل وقتها إن السبب هو «تجرؤه» على المشاركة في تظاهرة لـ «حماس»، وقيامه بإلقاء خطاب ندد فيه بالعدوان الإسرائيلي على غزة! ويعمل السيد صافية الآن سفيرا متجولا لفلسطين، ومركزه لندن، ولكن هذا لا يعني الكثير في العرف الدبلوماسي. ويذكر أن خلفية صافية الدينية والثقافية أهلته عام 1995 ليصبح عضوا في مجلس الأوصياء الدولي للفاتيكان، وممثلا رسميا للمنظمة لدى البابا جون بول الثاني.
ولكن، وهنا المشكلة، وبالرغم من الخلفية الدبلوماسية العريقة التي يملكها، والتي تجعله الدبلوماسي الفلسطيني الأكثر خبرة، والتي اكتسبها من العمل سفيرا في أهم ثلاث عواصم عالمية معنية أكثر من غيرها بالقضية الفلسطينية، وهي أميركا وبريطانيا وموسكو، إلا أنه لم ينل يوما حقه في التقدير، فمشكلة عفيف صافية، الفتحاوي، كمشكلة زميلته عفاف شعراوي، تتعلق بديانته من جهة وثقافته الواسعة من جهة أخرى، فهو بخلاف غالبية رفاق دربه من رجال فتح، غير مسلم، وأيضا بخلاف غالبيتهم ليس من رجال الخنادق ولا من حملة البنادق، وبالتالي فإن القلم الذي يحمله واللسان الذي يتكلم به، والخلفية التعليمية الراقية التي حصل عليها، لا تعتبر في عرف الكثير من قيادات المنظمة مؤهلات كافية، خصوصاً أنها تظهر البعض منهم صغارا بجانبه. ومشكلة عفيف صافية هي مشكلة كل مثقف، خاصة إن كان ينتمي لأقلية عرقية أو دينية، فهو هنا يصبح مصدر قلق وإزعاج للرئيس، اي رئيس، ولمن حوله! ولو كنت صاحب قرار لاخترت عفيف صافية، الذي لا أعرفه ولم التق به يوما، رئيسا لدولة فلسطين!

أحمد الصراف

احمد الصراف

عندما يفتقد البدر

تنفس الكثيرون الصعداء عندما اجبر المرض اللعين الفريق المتقاعد محمد البدر على ترك مهمته لغيره كرئيس للجنة إزالة التعديات على أملاك الدولة، فقد كان الرجل بالمرصاد لمخالفات اقترفها الكثيرون على مدى عقود عدة، وعلى رأسهم شيوخ ووزراء واعضاء مجلس أمة ومتنفذون في البلدي وغيره! وقد نجح في إزالة عشرات آلاف المخالفات الخطيرة، وواجه في عمله معارضة شديدة من اصحاب النفوذ، ولكن قوة شكيمته ونظافة يده واستقامته أجبرت السلطة على مساندته والوقوف معه في كل معاركة التي ربما ربح غالبيتها، حسب الظاهر.
ثم جاء الخبر الثاني المفرح لهؤلاء المعتدين، وذلك عندما ورد في الصحف عن وقف لجنة إزالة التعديات لأعمالها حتى شهر أكتوبر المقبل، فقد شعر هؤلاء بأن هذه بداية نهاية أعمال اللجنة، وأن التسيب والنهب والتعدي على أملاك الدولة سيعود كالسابق! ومن الآن وحتى أكتوبر، وإلى أن تفعّل اللجنة أعمالها، أو تعين من يمتلك قدرات ومقومات الفريق البدر، فإن مياها كثيرة ستمر تحت جسر المخالفات و…التنهدات الكويتي!
الطريف أو المبكي في الموضوع ما تضمنه الخبر من أن لجنة الإزالة قامت بتعيين «شخص واحد»، فقط لا غير لمراقبة (وغير معروف ما يعنيه ذلك) مخالفات المناطق السكنية، وتعيين «فرد» آخر لمراقبة المناطق البرية! وهذا يعني أن كل واحد من هذين المراقبين سيكون مسؤولا عن مراقبة ما يجري على مساحة خمسة آلاف كيلومتر مربع! فهل يعقل ذلك؟ كما أن القرار بين أن المناطق الصناعية والبحرية لن تكون مشمولة بالمراقبة، أيا كان نوع هذه المراقبة! وهي بالتالي دعوة صريحة للمخالفين للشروع في مخالفاتهم. ونقول للسيد المراقب للمناطق البرية، إن كان لا يزال يقوم بعمله الخرافي، أن ما سيراقبه ويدونه في سجلاته من مخالفات لن يساوي قيمة الورق الذي دونت عليه التقارير! كما لا أعلم سبب إعلان اللجنة عن وقف أعمالها، فقد كان بإمكانها القيام بذلك.. من دون ضجة أصلا! كما أن تسيب الوضع في المناطق البرية، والرعوية بالذات، مستمر من دون توقف، ولا نعرف لم السكوت عن ذلك، فمن الآن وحتى نهاية أكتوبر تكون بعارين، وحلال الجيران، قد قضت على الأخضر واليابس في البر الكويتي وخاصة داخل المحميات.

أحمد الصراف

احمد الصراف

تشويه السيرة

ليس لأحد مكانة عالية لدى جماعة السلف كالتي يحظى بها السيد عبدالرحمن عبدالخالق، معلمهم الأكبر! وسبق أن ذكرت في مقال سابق تجربة صديق حاول، خلال محاضرة توجيه سؤال فطلب منه الانصات لان الرجل لا يجادل! ولكن في قراءة سريعة لمقال كتبه في الوطن في 20/7، نجد أن فكره لا يختلف مثل فكر بقية السلف ومن سار في ركبهم من إخوان وغيرهم، فهو فكر مثير للاستغراب والحيرة، ولا يعرف بالدقة المقصود منه، والغريب انه بالرغم من ذلك نجحت أفكاره في السيطرة على آراء ومواقف فئة يفترض أنها «مثقفة» ومدركة ولها تجاربها العريضة وسبق أن تلقت تعليمها في أفضل المدارس وانهتها بدراسات عالية في أرقى جامعات الغرب، ثم تأتي اليوم وتسلم أمرها وعقلها لفكر وعقل مثل هؤلاء من دون «احم ولا دستور»! فمن المعروف تاريخيا، طبقا لما ورد في كتب التراث أن النبي واجه في بداية رسالته معارضة شرسة من قريش! وفي محاولة من مناوئيه للضغط على المؤمنين به للعودة عن إيمانهم، فرضوا عليهم مقاطعة تامة، وأوقفوا التعامل معهم، فاضطر هؤلاء للنزوح والسكن في شعاب مكة، من غير مال ولا طعام ولا سقف يؤويهم، وهناك ساءت احوالهم كثيرا، كما ورد في كتب التراث والمدرسية، وواجهتهم مجاعة شديدة واضطر البعض للهجرة للحبشة! كما كاد النبي أن يقتل في غزوة أحد عندما خالف الرماة أوامره، ولولا أن حمته أجساد صحبه المخلصين لتمكن منه جند خالد بن الوليد! كما كان النبي يستشير الصحابة في كل غزوة قبل اختيار مكان نصب معسكر جيشه، والتأكد من وجود مورد ماء أو بئر بقربهم، لئلا ينقطعوا عنه. وقرأنا في كتب السيرة والمدرسة ان النبي اضطر في أكثر من مناسبة لأن يستدين لتمويل غزواته، وفي مرة رهن ترسه عند يهودي مقابل دين! ولكن ما ذكره السيد عبدالرحمن عبدالخالق في مقاله في الوطن تعارض تماما مع كل ما درسناه في مدارس الدولة، واطلعنا عليه في كتب التراث، فإما أن الذي قاله صحيح، وبالتالي على وزارة التربية تعديل مناهجها، أو أن الأخ يبالغ في ما روى، وعلى اتباعه إعادة النظر في موقفهم منه، حيث يقول في مقاله إن من معجزات النبي تكثير الماء القليل ليكون كثيرا، وتكثير الطعام القليل ليكفي جيشاً كاملاً، ونزول المطر بدعائه في التو والحال، وتكثير المقدار القليل من الذهب ليصبح كثيرا! وكان المقدار القليل من التمر يصبح كثيراً بين يديه، وأن المسلمين كانوا في سفر أو حضر يلجأون الى الرسول صلى الله عليه وسلم فيسقيهم الله ببركة من بركات هذا النبي وبآية من آيات الله، وقد جاء هذا بصور كثيرة، فتارة ينبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، فيشرب القوم ويملأون قرابهم وهم عدد كبير، وتارة يبارك الرسول في مزادة فتنفجر بالماء الى ان يسقي القوم، وتارة يضرب الرسول سهماً في بئر جافة فتفور بالماء، وتارة يبارك على عين جافة فيجري ماؤها.. إلى آخر ذلك من معجزات وخوارق! وهنا نحن لسنا بصدد ترجيح رأي على آخر، فجهلنا كاف علينا، ولكن، من أجل ألا يشمت أحد بنا، علينا أن نتفق على ما يرويه البعض، وخاصة الكبار (!) مقارنة بما يرد في الكتب المدرسية على الأقل، وأخيرا هل نحن حقا بحاجة لمثل هذا الكلام عن شخصية تاريخية صمدت لأكثر من 14 قرنا؟

أحمد الصراف

احمد الصراف

البدلة والجبة والاحترام

يسعى البشر طوال حياتهم لخلق الاحترام لأنفسهم، بصرف النظر عما يمتلكون من ثروات أو مواهب! وقد تكرر عبر التاريخ الحديث عن دخول رجال أثرياء لعوالم عدة، كالسياسة، بحثا عن دور او احترام لم يستطع المال جلبه لهم، والاحترام يجر بالتبعية المكانة الاجتماعية، وما يسري على الغني يسري على ما دونه ثراء، فهؤلاء في سعيهم لتأمين عيشهم يبذلون جهدا في عدم الإفراط بكرامتهم، إن استطاعوا!
وهناك طبقات في المجتمع تشعر في بداية حياتها بالدونية، وأنهم أصحاب مكانة اقل، وللتغلب على ذلك نجدهم يبحثون عن عمل يوفر لهم وقارا اجتماعيا لا توفره لهم مهن أخرى، وإن كانت أكثر كسبا للمال أو أكثر صعوبة في الأداء. كما يبحث هؤلاء مع الوقار الاجتماعي لمكملاته من «زي شرعي» أو بدلة رسمية، والتي تعطيهم إما «هيبة السلطة»، أو الحق في التحدث دون اعتراض الغير على أقواله، حتى وإن كان كلامه بلا معنى أو منطق!
وقد روى لي صديق من عائلة السياسي السلفي خالد سلطان، أنه دعي يوما من قبله للاستماع لأحد قادة السلف، الذي منح الجنسية اخيرا «لجليل خدماته»، وعندما رفع يده في نهاية المحاضرة طالبا التعليق قام السيد سلطان بإنزال يده بقوة قائلا: أنت هنا في حضرة قمة، ولتستمع فقط، وليس لكي تسأل}!
نعود ونقول ان ما يفرضه رجل الدين من احترام على من حوله لا يعود غالبا لما في كلامه من علم ومنطق، بل لما للهالة الاجتماعية التي اكتسبها، بحكم القانون والعرف، والتي لا تسمح بمجادلته، أو بسبب جهل مستمعيه لما يقوله، أو لعدم رغبتهم الدخول في نقاش يعلمون مسبقا أن الغلبة فيه ستكون لمن درس وتمرس في علم الكلام والجدال! وبالتالي نجد أن الحكومات، وبإيعاز من المؤسسات الدينية، التي غالبا ما تضفي الشرعية الدستورية على طريقة حكمها، تقوم بتحصين مكانة رجل الدين، المعاصرة والتاريخية، بقوانين تجعل من مجرد التعرض لهم بالقول جريمة كبرى.
وتحصين مكانة رجل الدين والشخصيات الدينية التاريخية لم يأت فقط من منطلق مصلحي على قاعدة «شيلني واشيلك»، بل وأيضا لتعلق وظائف و«أكل عيش» الملايين بها! ولو واجهنا اي رجل دين بأي قضية دينية شائكة، كالحمل المستكن مثلا، فإنه سرعان ما سيطالب بقبول الأمر كما هو وتحريم النقاش أو المجادلة فيه، أو يسعى لاتهام من يجادله بتهمة ما.
والحقيقة أن هذا الفزع أمر غير مبرر! فعندما قام منتج اميركي مغمور بإنتاج فيلم «آخر إغراءات المسيح» قامت الدنيا عليه، مطالبة بمنع عرض الفيلم ومعاقبة الذي وراءه، ولكن كبير أساقفة إنكلترا تدخل لمصلحته قائلا ان الدين المسيحي لا يستحق أن يبقى إن كانت فكرته برمتها مهددة بفيلم لم يكلف انتاجه أكثر من 5 ملايين دولار!
وبالتالي، نرى أن الإسلام انتشر وتوسع، ولا يزال الدين الأكثر وتيرة انتشار، ولم تؤثر فيه نوائب كبرى طوال 14 قرنا، وهو لم يكن يوما في خطر، وما نحتاجه بالتالي هو فتح باب النقاش الحر أمام الجميع، والتخلي عن القوانين التي تجرم مناقشة قضايا مفصلية.
فتقدم أوروبا الغربية، والغرب عموما، لم يحدث لولا إيمانها بالحرية، فلا تقدم هناك بغير حرية، ولا ديموقراطية بغير حرية، ولا حرية بغير حرية المعتقد! ولكن يبدو أنني أكلم الجدران من حولي.

أحمد الصراف