هذا هو عنوان كتاب وضعه مؤخراً الباحث والخبير في البحرية الأميركية براين فان ديمارك Brian VanDeMark، ويتعلق بتاريخ تأسيس الجامعة الأميركية في بيروت عام 1866، التي تطورت من مؤسسة متواضعة تسمى «الكلية السورية البروتستانتية»، لتصبح بعد 90 عاماً الـ «الجامعة الأميركية في بيروت»، الصرح التعليمي الأكثر وقاراً وشهرة وأهمية في الشرق الأوسط. ظروف تأسيس الجامعة ذكرتني بقصة تأسيس مستشفى الإرسالية الأميركية في الكويت قبل 100عام، فالخلفية الدينية وهدف المؤسستين واحد، وقد نجحتا في دورهما التعليمي والطبي، ولكنهما فشلتا في إقناع أحد تقريباً بفكرتهما الدينية، ومع هذا لا نزال نخاف من أن «ينزكم» الدين من الهواء البارد، إن سمحنا لمثل هذه المؤسسات بالتواجد في دولنا، وهو الرفض الذي تسبب في خسارتنا علمياً وأخلاقياً للكثير. كما بيّن وجود هذه الجامعة مدى النفاق الذي تعيشه قطاعات واسعة من مجتمعاتنا، ففي الوقت الذي أطلقت مختلف الأوصاف البذيئة، والنعوت القذرة على هذه المؤسسة ودورها الاستعماري، وما سعت إليه من تغيير لعادات مجتمعاتنا والتأثير في تقاليدنا، فإن أصحاب هذه الدعوات بالذات، المحسوبين على الليبرالية، كانوا الأكثر حرصاً على إرسال أبنائهم لتلقي التعليم فيها، وتناقض هؤلاء لا يختلف عن تناقضات المتأسلمين وتصرفاتهم، فهم يظهرون أشد العداء لأميركا، ولكنهم يستميتون في إرسال أبنائهم إلى دول الكفر لتلقي التعليم وسوء الخلق فيها! وأتذكر مقابلة لأحد كبار جمعية الإصلاح، الفرع المحلي للإخوان، التابع للتنظيم العالمي، مع قناة تلفزيون أميركية وصف فيها المجتمع الأميركي بأقذر النعوت، وتحدث عن انحلاله وانتشار الفساد فيه! وعندما سأله المذيع عن الدولة التي تلقى فيها تعليمه قال أميركا «علامة تعجب واحدة»، وعن الدولة التي أرسل أبناءه إليها للتعليم أجاب: أميركا « علامتا تعجب».
أسست عائلتا الشيخين، وهو لقب ديني بروتستنتي، «دودج Dodge وبلس Bliss»، الأول ثري وممول، والثاني مبشر، وأطلق اسمه على الشارع المحاذي لمدخل الجامعة الرئيسي، أسستا وأدارتا، لأربعة أجيال متعاقبة، الجامعة الأميركية في بيروت، التي ارتبط تاريخها بشكل وثيق بالأحداث الكبرى التي شهدها المشرق العربي، من اتفاقية سايكس بيكو إلى تقسيم سوريا وفلسطين وتأسيس إمارة «مملكة» شرق الأردن وغيرها! كما كان لها دور مهم في حركة تحرر المرأة العربية، وكانت إحسان أحمد، المصرية، أولى طالباتها في عام 1940.
كتاب الشيخين ليس مجرد سرد تاريخي لمؤسسة كان لها الدور الأكبر على مدى 150عاماً في خلق شخصيات تاريخية أثرت في اقتصادات وسياسات دول المنطقة والعالم، وأثرت في الصراع العربي – اليهودي، والحرب الباردة بين القوتين الأعظم، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بل ويتطرق لصراع الأسرتين على إدارة الجامعة ودورهما الثقافي والتعليمي، والدور الرمزي الكبير الذي قامتا به لخدمة سياسات الولايات المتحدة. كما كان للجامعة الدور الحيوي في حركات «التحرر» في المنطقة، والانقلابات العربية، والحركة الصهيونية ودورها الخطر في أحداث منتصف القرن الماضي، وما تبع ذلك من نشوء الحركات الإسلامية المتشددة، ومعارك الأمن والطاقة في المنطقة. كتاب جدير بالقراءة نتمنى أن تلتفت إليه دور الترجمة، فما يزخر به من معلومات يجب أن يتاح للكثيرين ولا يهمل.
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com
التصنيف: احمد الصراف - كلام الناس 
إدارة الإعمال – جامعة الدول العربية – بيروت 1974 / الدراسات المصرفية والتدريب في بنك باركليز – لندن 1968 / البنك الوطني في فيلادلفيا – فيلادلفيا 1978 / الإدارة المصرفية – كلية وارتون – فيلادلفيا 1978
email: [email protected]
ثمن الحرية
شاركت قبل سنوات في مناظرة على تلفزيون «الرأي» مع النائب فيصل مسلم، وكان موضوعها الرسوم الدانمركية، وكانت الحدث الأكثر سخونة وقتها، وكيف قامت التظاهرات في عدة مدن عربية وإسلامية منددة بالرسوم، محطمة كل ما وقعت عليه أيديها من منتجات دانمركية، سبق أن دُفع ثمنها! ولكن، ما إن مر وقت قصير حتى هدأ الغليان واطمأنت النفوس وتناسينا دعوات مقاطعة المنتجات الدانمركية، بعد أن حذت صحف دول غربية عدة حذو الدانمركية ونشرت الرسوم المسيئة نفسها، وبالتالي كان من الصعوبة مقاطعة منتجات جميع هذه الدول، وطرد سفرائها وحرق سفاراتها، وهي السفارات نفسها التي كان أبناؤنا يقفون في طوابير طويلة أمام أبوابها، طالبين رحمة الهجرة أو حتى جبر خاطر بزيارة منفردة! واليوم عدنا مرة أخرى لواجهة الأحداث، بكل همجية وتخلّف، بعد أن كدنا، بثورات «الربيع العربي»، أن نبدل صورتنا «المتخاذلة والخانعة» في أعين العالم، بعد رفض القهر والدكتاتورية والبطش، والدعوة للحرية والديموقراطية، لندخل ثانية في دوامة الجهل والتناقض! فنحن نمد أيدينا للغرب ومؤسساته المالية، طالبين دعم خبزنا وإنقاذ اقتصاداتنا من الانهيار، في الوقت نفسه الذي نصرّ فيه على حرق سفارات تلك الدول، لأنها أهانت رموزنا، متناسين أن ما جعل العالم الغربي بكل تلك القدرة على إنتاج الغذاء والدواء بأكثر مما هو بحاجة له، هي حريته الفكرية والاقتصادية، وهي نفسها التي نرفضها ونطالبه بمنعها والحجر عليها!
يقول باري شوارتز Barry Schwatz في كتابهThe Paradox of Choice إننا إذا كنا مهتمين بزيادة رفاهيتنا إلى الحد الأقصى، فإن علينا أن نعطي أنفسنا الحد الأقصى من الحرية، فإنسانيتنا تحتم علينا ألا نتمتع فقط بالحرية المطلقة، بل وأن يكون لنا الحق المطلق في الاختيار بين كل البدائل المعروضة، وكلما زادت الخيارات زادت الحرية وزادت الرفاهية!
وقد لا يتفق الكثيرون مع هذه الفلسفة، بسبب قرون القهر والتعسّف التي عاشتها عقولنا، ولكن من الصعب فك الارتباط بين رفاهية الإنسان وقدرته على إنتاج الأفضل، وبين درجة تمتعه بالحرية. وقد رأينا كيف فشلت الأنظمة القمعية في توفير أدنى متطلبات شعوبها، وبالتالي نحن نعيش تناقضا رهيبا في حياتنا، فبالرغم من عجزنا عن الاكتفاء ذاتياً في أي مجال، فإننا لم نتردد في مطالبة الدول الصناعية، المنتجة لكل ما نحتاج إليه، بأن تتخلى عن سبب تفوقها، وتلجم وسائل إعلامها لكي لا تسيء إلى ما نحترم ونقدس. ولو انصاعت هذه الدول لمطالباتنا، التي لن تنتهي، فسيكون ذلك بداية انهيار ازدهارها، وسنخسر ساعتها من يدعم أسعار خبزنا ويصنع لنا حاجياتنا ويوفر لنا متطلباتنا! ونحن هنا لا نتكلم عن الدول النفطية أو ما يقاربها، بل عن مجتمعات إسلامية غارقة في الفقر والجهل والديون والمتاعب السياسية والاقتصادية، كمصر وباكستان وأندونيسيا، التي تحلم نسبة غير قليلة من سكانها في العمل عندنا، وهذا أمر يدعو للرثاء حقا! إن الحل من المأزق الذي نحن فيه، وعجزنا التام عن الرد على تكالب البعض في السخرية منا ومن رموزنا، لا يكون بالقيام بالأعمال السلبية من حرق واغتيال وتدمير، فهذه سهلة، والغوغاء متوافرون دائماً، ولكن التحدي يكون بقلب المعادلة، وبأن نصبح شعوبا تحترم نفسها، وهذا لا يمكن أن يتحقق بغير الحرية. فقد يُسحب هذا الفيلم ويُضرب على يد ذلك الرسام وتُقفل تلك القناة ويُسجن ذلك الكاتب، ولكن ليس هناك من يضمن عدم تكرار الإهانات، مادمنا بكل هذا الضعف والهوان، ولا يبدو أننا قادرون على شيء غير الحرق والقتل والتدمير.
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com
شيء من العقل
نحتفظ بصداقات وعلاقات مع البعض ليس بدافع المحبة دائما، بل لوجود حاجة مادية أو نفسية لاستمرار تلك العلاقة! وبالتالي من الغباء التفريط بها من دون إيجاد بديل عنها. فنحن نساير ونجامل رؤساءنا مثلا، ومن الخطأ أن ننفعل ونستقيل من عملنا بمجرد توجيههم كلاما نعتقد أنه يمس «كرامتنا»، إن لم نكن على ثقة بأن بإمكاننا الحصول على عمل آخر! فقد يدفعنا سعينا لإيجاد عمل بديل، مع بدء قرصات الجوع وإلحاح الأقساط وبكاء الأطفال، لأن نجامل من لا نحترم ونسكت عن الإهانة ونلجأ لذل السؤال، وبالتالي نكون قد فقدنا مصدر رزقنا أولا وكرامتنا لاحقا، فالكرامة لا تكتسب بقوة ردة الفعل على إهانة ما، بل بطريقة الرد وأسلوب الحياة!
نكتب هذه المقدمة تعليقا على ردود الفعل الهستيرية، وغير المتعقلة ولا المبررة، على الفيلم السينمائي الرخيص والتافه الذي انتج في أميركا، والذي تعلق ببعض جوانب من حياة رسول الإسلام. وقد مررنا بتجارب مماثلة من قبل كثورة الرسوم الدانمركية، والتي لم يتمخض عنها شيء، حيث عدنا جميعا للتعامل مع كل حكومات ومنتجات الدول التي نشرت صحفها تلك الرسوم، وكأن شيئا لم يكن، وسبب ذلك لا يعود لـ«قصر موجات ذاكراتنا»، بل لعجزنا البائس عن فعل شيء آخر، فلا حول ولا قوة لنا في ظل عجز صناعي ونقص مياه وتلوث بيئي وتردٍ صحي مخيف، بل خواء وفراغ تام وشامل، وحتى المطالبين باستخدام سلاح النفط، وهو القوة الوحيدة التي يمتلكها بعض المسلمين، ليسوا إلا مجموعة من السذج.
إن المشكلة ليست في مدى ما تتمتع به وسائل الإعلام في الغرب من هامش حرية كبير، وهي الحرية التي تضمنتها دساتير شديدة الثبات، والتي يمكن أن تستغل من اية جهة في اية لحظة، ولا ضمان بالتالي من أن الغرب سيتوقف يوما عن الإساءة لمقدسات الإسلام والمسلمين، أو التعريض بمعتقداتهم، مهما حرقنا وكسرنا من ممتلكاتهم، بل المشكلة في ضعفنا الصحي والنفسي والمادي والعسكري والتقني، وبالتالي من الغباء المفرط التفريط في علاقاتنا بكل من يسيء لنا بهمسة أو لمسة أو كلمة أو رسم أو فيلم تافه، بحجة الدفاع عن كرامتنا ومقدساتنا، فهذه المقدسات لا يتم الدفاع عنها بحرق عشرات السفارات، ولا بقتل مائة سفير وبتر أعضاء ألف دبلوماسي غربي، بل بالسعي الجاد للقضاء على الأمية في دولنا، والتخفيف من وطأة الفقر على مليار مسلم، ودعم اقتصادات العشرات من دولنا، وسد جوع مئات الملايين من شعوبنا، وغير ذلك الكثير. ومؤلم أن تكون الملايين على «أهبة» الاستعداد للتظاهر وحرق وكسر ممتلكات كل من يسيء لمقدساتنا، ولا نتظاهر ولا نأسف ولا نحزن للحالة البائسة التي يعيشها المسلمون.
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com
شيعة الكويت
ذكر الزميل فؤاد الهاشم في مقال له التالي: في لقاء عبر شاشة «الوطن»، أعلن فضيلة المرشد العام لإخونجية الكويت أن ولاء الشيعة الكويتيين مشكوك فيه، وأن قلوبهم وعقولهم مع الجمهورية الإسلامية في إيران، إلى آخر المقال! والحقيقة أن هذه ليست المرة الأولى التي يشكك فيها البعض في ولاء الشيعة لوطنهم واتهامهم بالموالاة لإيران، فقد قال ذلك نواب ونشطاء وكتاب، ولعلم هؤلاء الجهلة والغلاة فإن أكثر من نصف شيعة الكويت عرب أقحاح لا علاقة لهم بإيران ولا غيرها، وبالتالي من يتهمهم لا يعرف شيئا عن التاريخ ولا السياسة. والأمر المحير الاخر هو أن هؤلاء المتحزبين، في غالبيتهم، لا تقر أدبيات احزابهم مسألة الانتماء لوطن محدد، بل تنادي بالإسلام وطنا للجميع، وتصريح مرشد الإخوان السابق من انه يفضل ان يرى ماليزياً رئيساً لمصر على أن يتولى المنصب قبطي مصري، لا يزال يرن في وسائل الإعلام، وبالتالي كيف اصبح ولاء البعض للكويت شرطا للوطنية؟ وفي هذا السياق يقول الزميل سمير عطا الله ان بقعة الأرض تسمى وطنا عندما يستحقها المقيمون عليها! ولو نظرنا حولنا لرأينا أن غالبية المنتمين للأحزاب الدينية، في الكويت على الأقل، ولأي فئة انتموا، لا يستحقون لقب مواطن، طالما كان ولاؤهم، دينيا أو سياسيا، يعود لجهة خارجية. كما أن الوطن لا يمكن أن يصبح وطنا بغير مؤسسات دستورية وقانونية وأهلية وغيرها، وهذه جميعها تقريبا لا تقبل الولاء المزدوج! كما أن المواطنة تعني الاستقرار والالتزام بقوانين وضعية! وهذه أيضا لا تتسق مع فكر بعض السلف والإخوان وحتى بعض أتباع ولاية الفقيه! كما أن شقا كبيرا من المواطنين، ونقول مواطنين مجازا، لا يعني لهم الوطن والاستقرار فيه شيئا، فهم باحثون عن الخير اينما وجد، وهذا دأب أغلب البشر، وليس في الأمر ما يعيب، العيب هو عندما يأتي الطعن في ولاء الآخر من هؤلاء بالذات. نعود لمقال الزميل الهاشم ونقول ان لا أحد يمتلك ميزانا يقيس به المواطنة والولاء، فالأمور في كل الأحوال نسبية، فأنت لا تتوقع ممن تقوم بإيذائهم يوميا ببذيء الكلام وتخوينهم وحرمانهم من حقوقهم المدنية وممارسة التمييز الديني والعنصري ضدهم أن يبقوا على ولائهم، إلا إذا كان هذا هدف من أثاروا قضية الولاء في المقال الأول! ومن سخرية القدر أن يصبح هؤلاء، وأمثالهم، من منظري هذه الأمة وقادة الرأي فيها ومانحي صكوك الغفران لمواطنيها، بعد أن أصبحوا في غفلة من الزمن، علماء ومفتين!
إن المنتمين للمذهب الشيعي، بعربهم وفرسهم، هم جزء من تراب هذا الوطن، وشاركوا في بناء اسواره، التي ربما لم يشاهد الكثير من هؤلاء الغلاة آخرها، قبل أن تهدم، على غير استعداد لإشعال اصابعهم، والسير في ساحة الإرادة، لإثبات وطنيتهم وولائهم، وإن على المتطرفين والغلاة احترام مشاعر الآخرين والكف عن هذا اللغو السقيم!
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com
قصتي وطنوس مع الأحمدي
أجرت القبس في أغسطس الماضي حواراً مع المواطن اللبناني، طنوس دياب، وقصة الخمسين عاما التي عمل في جزء كبير منها في شركة نفط الكويت بمدينة الأحمدي، النموذجية سابقا. تحدث في لقائه عن ذكرياته وشوارع الأحمدي الجميلة وكيف كنت تسمع فيها التحيات من كل من يلقاك في الطريق وتراحم سكانها، وكيف انقلبت الحياة فيها، وهنا يشير إلى فترة ما بعد تأميم الشركة، بحيث أصبح الجار لا يعرف جاره، والأشجار التي كانت تشذب وتزين أصبحت كثة وهرمة وتغطي البيوت وتبعد الجيران عن بعضهم. ويقول ان علاقاته وزوجته كانت قوية مع كثير من الكويتيين الذين كانوا يعملون في الشركة في بداياتها، وكيف تغيرت المدينة الآن واختلف سكانها واصبح التواصل صعبا، بعد أن تحولت أسوار البيوت الجميلة المصنوعة من نباتات خاصة كانت تجلب من البصرة، إلى اسوار كيربي بشعة، مع تخليها عن نظافتها، بحيث تحولت عروس المدن الكويتية، التي كانت محجا للكثيرين في عطل نهاية الأسبوع، إلى مدينة خربة وهرمة وفوضوية بلا روح أو شخصية، وكيف أصبحت نواديها الرياضية والاجتماعية، وحتى ملاعبها، شيئا من الماضي، بعد ان كانت شعلة نشاط وإثارة وفائدة، فقد قضى الانغلاق والتزمت، والفساد الإداري، على كل شيء!
ذكرني كلام طنوس، الذي اضفت له من عندي، عن وضع الأحمدي، والكويت ككل، بما دار في جلسة جمعتني، في مشرب باريسي، بصديقين عزيزين، غادرنا الأول، راوي القصة، ولا يزال الآخر حيا «يلبط»، مثلي. وقد أدت حميمية الجلسة لأن ينفتح كل منا على الآخر، فأخبرنا الذي رحل عن دنيانا، أن بدايته مع الثراء كانت يوم تلقى اتصالا من أحد كبار مسؤولي شركة نفط الكويت، من الإدارة الوطنية، فور تأميمها، وبعد «الاستغناء» عن إدارتها «الأجنبية»، طالبا منه السعي فورا لفتح مدرسة كبيرة في منطقة قريبة من الأحمدي، وقال انه سيقوم بتحويل ابناء كل العاملين في شركة نفط الكويت لتلك المدرسة، وكانت شركة نفط الكويت، وربما لا تزال، أكبر صاحب عمل. وطلب منه رفع رسوم الدراسة بشكل كبير وغير مسبوق، وقال ان «الشركة» ستدفع الرسوم الباهظة، وطلب لنفسه حصة كبيرة من الأرباح المتوقعة من ذلك المشروع «التربوي والتعليمي»! واستطرد المرحوم في القول ان تلك كانت بدايته مع الثراء، حيث قبر الفقر بعدها إلى الأبد، ولكن الزمن قبره في نهاية الأمر، ونحن له لاحقون.
رواية طنوس وصديقنا ذكرتني أيضا بقصة رواها المرحوم أحمد الربعي الذي زار مدينة عدن، وشاهد كم تغير سوق السمك فيها، بعد ترك الانكليز لعدن، حيث أصبح السوق أكثر قذارة واقل تنوعا في أسماكه وأكثر غلاء، وعندما بث شكواه لبائع كبير في السن قال له: «رجع الانكليز وخذ سمك طازج ورخيص وأنواع كثيرة!».
لا أتباكى هنا على عهد الإنكليز، بل على عجزنا حتى في الاستمرار في ما بدأه الغير، فكيف يمكن أن نخلق أو نبدع، بعد أن خسرنا حتى أخلاقنا؟!
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com
كيف نتحضر؟
لا أعتقد أن في الحياة أمرا بصعوبة تربية طفل، والأصعب أن نكون قدوة حسنة له! فقد نكون آباء وامهات طيبين وكرماء ونمتلك كما هائلا من الحنان والنصائح التي نسديها لأطفالنا، ولكن ليس سهلا أن نقرن القول بالفعل، فسهل أن نلقي محاضرة في الأخلاق ونبين مساوئ الكذب، ولكن يجب ألا نلتزم بالصدق في حياتنا. وسهل أن نبين لهم، بالحجج والبراهين، مضار التدخين، ولكن الأصعب أن نمتنع نحن عن التدخين، فالطفل يتأثر ويتعلم بالإيحاء وبطريقة غير مباشرة، أي بالتقليد، أكثر من تعلمه مباشرة وبالوعظ والإرشاد.
في اربعينات القرن الماضي سيطر رجل العصابات آل كابوني على مدينة شيكاغو. وكان يساعده المحامي إيزي إدي، الذي نجح دائما في تخليصه من أكبر التهم واشد العقوبات، وانقاذه من الإعدام مرات عدة في تهم قتل وسطو خطرة، وقد دفع له «آل» الكثير مقابل خدماته، ومكنه من العيش برفاهية لا متناهية، ودفعت هذه المحامي الشهير لغض النظر عن جرائم موكله وسيده، والتي كان يعلم بتفاصيل الكثير منها. كان لـ«إيزي إدي» طفل وحيد، وكان شديد التعلق به، يغدق عليه الكثير ولم يبخل عليه بشيء. وبالرغم من تورط الأب في جرائم عصابات آل كابوني، وإن بصورة غير مباشرة، فانه حاول جاهدا أن يبين لابنه الفرق بين الحق والباطل والصواب والخطأ، وكان يرغب في داخله أن يكون قدوة حسنة، وكان يشعر بأن ابنه لا بد انه سمع في الشارع والمدرسة بسمعة أبيه السيئة ودوره في التستر على جرائم كبيرة، ولكن «إيدي»، بالرغم من كل ثرائه ونفوذه، لم يستطع يوما ان يعطي ابنه السمعة الحسنة! وفي يوم قرر، تحت تأنيب الضمير، ولكي يعطي ابنه السمعة التي طالما افتقدها، ذهب للسلطات ووشى بكل جرائم «آل كابوني»، وكان يعرف المصير الذي ينتظره، حيث دفع في النهاية حياته ثمنا غاليا لموقفه الوطني، ولكنه شعر أنه ترك خلفه إرثا طيبا لابنه.
وفي جانب آخر من القصة، وبعدها بسنوات، تلقى بتش أوهيرا، الطيار على حاملة الطائرات «ليكسنغتون»، تعليمات بالاستعداد للمشاركة في طلعة جوية فوق المحيط الباسيفيكي، واثناءها تبيّن لبتش أن أحدا ما نسي تعبئة خزان طائرته بالوقود، فأعلم قائد السرب بالأمر فطلب منه هذا العودة. وأثناء استعداده للهبوط شاهد سربا من المقاتلات اليابانية تتجه نحو سفن الأسطول، ولم يكن هناك من يحميهم أو ينذرهم بالخطر، كما لم يكن بإمكانه العودة للسرب وإعلامهم بالأمر، فالوقت ضيق جدا، وعليه أن يتصرف، وهنا قرر التصدي منفردا للطائرات المعادية، وشكل ظهوره المفاجئ صدمة للمهاجمين، حيث انقض على تشكيلاتهم وشتتها، ثم عاد واصاب طائرتين واسقطهما، وعندما شعر بأن ذخيرته قد نفدت قرر استخدام اجنحة طائرته وجسمها في توقيع إصابات أخرى بالطائرات المعادية، ونجحت محاولاته الانتحارية في دفع قائد السرب الياباني لتغيير وجهتهم والعودة من حيث أتوا. تمكن بتش بعدها من الهبوط بسلام على ظهر الحاملة، ليروي بالتفصيل ما واجهه، ولكن الكاميرا التي كانت على مدفع طائرته بينت انه نجح منفردا في إسقاط خمس طائرات وليس اثنتين، كما كان يعتقد. أصبح بتش بطلا قوميا، ولكن بعدها بعام مات في غارة جوية! لم تنس مدينته شجاعته وفضله، فقد اطلقت اسمه على مطارها، والذي أصبح يعرف بــ«اوهيرا الدولي»، وهو ثالث أكبر مطار في أميركا! و«بتش أوهيرا» لم يكن غير ابن المحامي «إيزي إيدي»، الذي لو لم يكن يوما قدوة حسنة لابنه، لما كسبت اميركا بطلا قوميا رائعا!
هكذا تبنى الأمم بالأخلاق، وليس بالضرب بالنعل، أو حتى بخرقة على الرأس!
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com
إشاعة وحقيقة
انتشرت على الإنترنت فتوى «تويترية» على لسان رجل الدين السلفي اليمني علي الربيعي نصها: «إن من أكبر الكبائر نزول المرأة إلى البحر، حتى لو كانت محجبة، لأن ماء البحر ذكر، وبدخوله في مكان حشمتها تكون قد زنت، ويقع عليها الحد»! ولسخافة الفتوى ومنطقها سألت عنها، فقيل لي إنها مفبركة وليست صحيحة، ويقصد بها تشويه سمعة الرجل. وعندما تطرقت، في جلسة بلبنان، لموضوع استغلال وسائل التواصل الحديثة في الإساءة لأفراد أو طوائف، وهو ما يقوم به بعض أصحاب عقول صغيرة ونفوس مريضة من شباب الشيعة والسنة بعضهم ضد بعض، وما يتكلفونه من مال وما يضيعونه من وقت ثمين وما يهدرونه من مواهب نادرة في تركيب أفلام وافتعال أحاديث للإساءة بعضهم لبعض. وهنا قال أحد الحضور، وهو محام معروف، إن قصة فتوى الربيعي المفبركة ليست غريبة على عائلته، ففي عهد الوالي التركي أحمد باشا الجزار، (الذي ربما لمح لسيرته الأديب البوسني الصربي إيفو أندريتش (1975/1892) في رائعته «جسر على نهر درينا»، التي جرت أحداثها في القرن الـ 16، إبان احتلال العثمانيين للبوسنة، وما بعدها من عقود طويلة، والتي يتطرق فيها لأحداث وتاريخ تلك المنطقة الشديدة التوتر، وما كان يتعرض له الصبية الصرب من خطف، ونقلهم إلى الأستانة، خصوصاً أولئك الذين تبدو عليهم إمارات الذكاء والوسامة، وأن الجزار يعود أصله لصرب البوسنة، وأصبح بعدها ذا مكانة، ويقال إنه هرب منها بعد تورطه في جريمة قتل وباع نفسه كرقيق في سوق النخاسة بإسطنبول، وأقنعه حاكم مصري بالتحول إلى الإسلام، وأصبح سيافه، ثم قائم مقام لمدينة القاهرة، ومن بعدها دافع عن بيروت ضد قوات كاثرين الروسية، وتمت مكافأته بتعيينه والياً على صيدا، ولفترة على دمشق. وقد اشتهر ببطشه الشديد وقطع رؤوس مخالفيه لأتفه الأسباب)، يقول المحامي، تعليقاً على الفتوى، إن الجزار طلّق زوجة عزيزة عليه طلاقاً بائناً! وعندما أراد استردادها سأل رجل دين في الأمر فقيل له إن عليه الاستعانة بمحلل، أي أن تتزوج بغيره ثم يطلقها ليكون بإمكانه الزواج بها ثانية! وأن الجزار شعر بالإهانة فاستل سيفه وقطع رأس المفتي. وعندما لجأ إلى مفت آخر أشار عليه بالشيء نفسه، ولقي المسكين مصير الأول! وهنا تصادف وجود رجل دين من جنوب لبنان من عائلة الأمين، في ديوانه، فسأله عن المخرج من ورطته، فأشار عليه بأن يذهب بها إلى البحر، وماء البحر ذكر، وأن تغطس فيه، وبعدها بإمكانه الزواج بها! جازت لأحمد الجزار القصة وعمل بها وكافأ من أفتى له بتلك الفتوى الغريبة بقطعة أرض كبيرة لا تزال، حسب رواية المحامي، ضمن أملاك عائلة الأمين حتى اليوم!
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com
اللحوم والأخلاق
عانى الكثيرون وخسروا، ودون سبب منطقي، نتيجة تعاملهم بـ«استقامة» في تجارة المواد الغذائية، ولم تكن الخسارة نتيجة الشراء والبيع، بل بسبب تخلف إجراءات ترخيص المواد الغذائية المستوردة. فقد كنت، وربما لا أزال، وإن بصورة غير مباشرة، أستورد سنوياً مئات الأطنان من الأغذية، التي لا يجوز بيعها دون موافقة البلدية عليها، وهي الجهة المسؤولة نفسها عن جمع القمامة ودفن الموتى! وهنا يتطلب الأمر تسليم عينات، وتكون في أحيان كثيرة كبيرة، دون سبب مفهوم. وأحياناً تضيع العينات، ويطلب غيرها، ولا يحق لأحد الشكوى، وتظهر النتائج بعد أسبوعين أو أكثر، وأحياناً تضيع، أو يتطلب تحويلها للصحة، وتتأخر الموافقة أكثر، ويتكلف المستورد الكثير ويتأخر في تصريف بضاعته، وكل هذا يحمّل في النهاية على القيمة! ولا أبالغ إن قلت إن العملية تستغرق أحياناً شهراً أو يزيد. وهنا «قد» يجبر الأمر البعض للجوء للطرق «السهلة» لترخيص بضائعهم، وأسباب ذلك معروفة. وقد حاولت أكثر من مرة لفت نظر وزير البلدية للأمر، وكان ذلك قبل تنازلي عن الإدارة، ولكنه فضّل عدم الرد على مكالماتي ورسائلي الهاتفية، ربما لانشغاله بمحطة مشرف! وفي هذا السياق، نشرت القبس مجموعة تحقيقات تتعلق بالأغذية الفاسدة، وبالرغم من نجاحها النسبي، فإن المشكلة لا تزال في مكانها، ولفهم أكبر للوضع المتخلف الذي نعيشه، يجب أن نعرف أن الجهة المسؤولة عن فحص الأغذية هي بلدية الكويت، بكل فسادها وتخلفها. وبالرغم من كل ما قامت به من تطوير لمرفق الفحص، واستعانتها أحياناً بمختبرات الصحة، فإن ذلك لم يسرّع من الحل، وربما عقّد الأمور أكثر. كما أن فرق التفتيش تقوم بعملها، وهي تفتقد كل وسائل الفحص الحديثة، معتمدة على النظرة المجردة والشم واللمس! وهذا، في أحيان كثيرة، غير كاف! وبالرغم من طنطنتنا بالديموقراطية، فإن أي مشرّع لم يفكر يوماً في وضع قوانين واضحة وبسيطة لعملية استيراد المواد الغذائية وتخزينها واستهلاكها وتقديمها، ولا يبدو أن الحكومة هي الأخرى في عجلة من أمرها هنا. وهنا يقترح صديق تزويد مفتشي البلدية بأجهزة فحص محمولة، يمكنها الكشف عن مكونات المأكولات، وضبط الفاسد منها، أو المحرّم من المواد المستخدمة فيها، وذلك في فترة لا تزيد على نصف ساعة. كما يقترح القيام بحركة تجديد شاملة لموظفي وأجهزة إدارة فحص المواد الغذائية المستوردة. والحقيقة أن كل هذا جميل ومفيد، ولكن لا معنى له في ظل التسيّب الأخلاقي الذي تعيشه البلاد! فالمشكلة ليست في الأجهزة ولا في الإجراءات بقدر ما هي في النفوس. ففي ظل انعدام الخلق وترهل الإدارة، وغياب الموظفين المتكرر وغير المبرر في كل مناسبة دينية وغيرها، تصبح مسألة شراء أجهزة جديدة أو تطوير إجراءات الفحص والكشف غير ذات قيمة. فوزارة الصحة مثلاً استقدمت واستخدمت أفضل وأحسن الأجهزة الطبية المعروفة في العالم، ولكن ذلك لم يمنع الخدمة الطبية من التدهور في البلاد، لأن الخلل في النفوس الفاقدة للخلق، وليس في الأجهزة الصماء والإجراءات الأكثر صمماً!
والآن، هل هناك أمل في أن نزيد من جرعة الدروس الأخلاقية في مدارس الدولة العامة والخاصة، وتقليل جرعة الدروس الدينية؟ فما لدينا من تدين يفيض على العالم أجمع، أما الأخلاق، فحدّث ولا حرج!
***
• ملاحظة: أعفى قرار لوزير الصحة الاستشارية فريدة الحبيب من إدارة مركز صباح الأحمد للقلب، وحولها، أو حذفها، مع الاحترام لشخصها، إلى مستشفى الصدري! وهناك رفض المسؤول «تشغيلها» لعدم وجود عمل لها! وهكذا تنتهي الحال باستشارية عالمية، صرفت الدولة الملايين على تعليمها وتدريبها، بأن تجد نفسها، بعد آلاف عمليات القلب التي قامت بها بنجاح كبير، من غير عمل! هذا عيب ومؤشر آخر على انهيار الدولة والقيم والخلق.
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com
سلوا كؤوس الطلا والوكيل؟
نادرا ما أشاهد التلفزيون، ولكني أعلم أن أقل القنوات مشاهدة هي قناة تلفزيون الكويت. وقد احتفظت لفترة طويلة بتصريح للسيد يوسف مصطفى، وكيل الأخبار والبرامج السياسية، في تلفزيون الدولة الرسمي، أدلى به لـ القبس في مارس 2011، بشّر فيه مشاهدي القناة الرئيسية بأن كل شيء سيتغير في تلفزيون الكويت، حتى الشاشة! كما أن الأخبار ستنقل للمشاهد أولا بأول، وسيكون هناك تحليل محلي واقليمي، لا بل ودولي للأحداث، وأنه سيفتح باب الحوار مع جميع شرائح المجتمع، وسيسلط الضوء على قضايا الشباب.. وزاد على كل ذلك بالقول إنه ستكون هناك برامج مدروسة بعناية تهم كل الأطياف. وأتذكر أنه اتصل بي هاتفيا بعدها بفترة لدعوتي للمشاركة في أحد البرامج، فاعتذرت لانشغالي، ورشحت آخرين!
وبناء على تصريحه قمت قبل شهر بسؤال مجموعة من معارفي واصدقائي المدمنين على مشاهدة التلفزيون، عن انطباعاتهم عن تلفزيون الكويت، فقال أغلبهم إنهم لا يتابعونه باستمرار لغير معرفة أخبار الوفيات، واتفقوا جميعا أنه لم يتغير عن قبل، وكان الأسوأ بين القنوات الأخرى في الفترة الأخيرة، وخاصة في ما تعلق بتغطية ومتابعة أحداث الربيع العربي، وهو الزلزال الذي لم تختبر الدول العربية مثله في كل تاريخها الحديث. كما أن تلفزيون الدولة تجاهل بشكل لافت الاحداث السياسية المؤسفة التي تعرضت لها البحرين، وكأن لا شيء هناك! وبالتالي اتفقوا على أن كل ما ورد في تصريح وكيل التلفزيون لم يتحقق. وهنا قررت الاتصال به لابين له ملاحظاتي وأيضا لشكره على تصريحه الأخير المتعلق بنية التلفزيون الاستعانة بخبرات قناة «البي بي سي» البريطانية والاستفادة من ارشيفها الضخم، ولكنه لم يرد عليّ، بالرغم من أن مساعده، علي رشيد، أكد وجوده، كما كنت أود أن اخبره بأنه إن كان جادا فعليه الاستعانة بما في أرشيف تلفزيون الكويت، حيث إنه يحتوي على مقابلات ثرية ورائعة من الزمن الجميل، ومنها واحدة مع الملحن رياض السنباطي، التي يتحدث فيها بشوق عن قصة تلحينه لرائعة أحمد شوقي «سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها واستخبروا الراح هل مست ثناياها» التي غنتها أم كلثوم! فهل لدى السيد يوسف مصطفى ما يكفي من شجاعة لنبش أرشيف تلفزيون الكويت، وبث ما يحتويه من درر «الزمن الجميل»، بدلا من الاستعانة بارشيف قناة الـ«بي بي سي»؟ نتمنى ذلك!
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com
تجربتي مع المفتش
مررت قبل عشرين عاما تقريبا بتجربة طريفة لا بأس من ذكرها كمدخل لموضوع المقال. زار مكاتب شركة أمتلكها وأديرها أحد مفتشي البلدية، طالبا الكشف على المواد الغذائية التي نتعامل بها، والتأكد من صلاحيتها للاستهلاك البشري، وطريقة تخزينها وظروف العمالة المشرفة عليها وحيازتهم لشهادات لياقة صحية. وهنا عرضت مصاحبته في جولته، فقبل على مضض، فأخذته لكل المخازن بسيارتي وأطلعته على أماكن لم يكن يعتقد أن فيها مواد غذائية، وطلبت من العمال إحضار رزم وكراتين من تحت الصفوف، ليكشف عليها واحدة واحدة، كما طلبت منهم إبراز هوياتهم وشهاداتهم الصحية ومطابقتها بكشف العاملين، واطلعته على ظروف العمل والتخزين، وسهلت مهمته لأقصى درجة بحيث خامره الشك في نواياي، فشكرني بتردد، وقال إنه عادة ما يقوم بالتفتيش منفردا، ومصاحبتي له حيّرته قليلا، ولم يقل إنني شكّكته في نواياي! وهنا طلبت منه مصاحبتي لمكتبي فوافق، وهناك شكرته وقلت له: ليس في الأمر شيء مريب، فلست أكثر أمانة من غيري ولا أدعي شرفا قد لا أستحقه، ولكن المسألة تتعلق بالمنطق، فقد صحبتك تشجيعا مني لك على أداء عملك، بعد أن أصبح «السوق» يعجّ بكل أفّاق وغشاش أثيم، وأن المخلصين في أعمالهم في تضاؤل مستمر، الغلبة ستكون ربما للحرامي والغشاش في نهاية الأمر، ومن هنا كان ترحيبي به ومساعدتي له في إنجاز مهمته! ففتح فمه غير مدرك ما أرمي إليه بكلامي، فاستطردت قائلا: إن صحتي وصحة أسرتي في يده، وجميعنا نعتمد في صلاحية ما نأكل على مدى إخلاصه في عمله ونظافة يده برفضه لأي رشى أو إغراءات، فأنا أبيع ربما 20 أو 30 صنفا من المواد الغذائية، ولكني أستهلك أضعاف أضعافها من الأصناف الأخرى التي يستوردها ويخزنها ويبيعها غيري! فإن أنا نجحت في دفع رشوة له أو لغيره من المراقبين، ونجحت في تمرير مواد غذائية فاقدة الصلاحية، فإنني حتما سأجني بعضا من المال، ولكن ما هو الضمان من أن غيره من المفتشين لن يحذوا حذوه ويتقاضوا الرشى نفسها من تجار مواد غذائية آخرين ومن اصحاب مطاعم وفنادق ومخابز وغيرها، وبالتالي، فإن ربحت بعض المال هنا، فسأخسر مالا وصحة أكثر هناك! وبالتالي من الضروري تشجيعه، لأنه الضمان الوحيد الذي أعرفه في حمايتي من مواد الآخرين التالفة، وهو «عيني الغذائية» الساهرة! كما أن قيامه بدوره بشكل جيد ضمان له شخصيا ولأسرته! فهو قد يقبل رشوة مني ويسعد بها، إن مرر ووافق على ترخيص بضائع تالفة لي، ولكن ما الذي يضمن له أنه لن يتناول، ربما في اليوم نفسه، المواد الغذائية والأطعمة الفاسدة نفسها التي قبل مبلغا سخيفا للموافقة عليها؟ وما يعنيه ذلك من خسارة مادية وصحية له ولأسرته؟ وبالتالي المسألة ليست أمانة بقدر ما هي منطق عملي! وليس مهما هنا ذكر رد فعل المفتش.
ما نود التطرق إليه من هذه المقدمة الطويلة يتعلق بالحملة الشرسة التي شنتها القبس منذ فترة على تجار ومستوردي المواد الغذائية، وربما لا تزال الحملة مستمرة، والتي صورت فيها البلد كأنه مليء بالحرامية والأفّاقين، وقد تكون هذه هي الحال، ولكن المؤلم أن الصالح عادة ما يذهب مع الطالح، وقد يأتي يوم يصبح الكل سواسية في الغش، ونخسر جميعا.
وإلى مقال الغد.
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com