القضاء، هو المعقل الأول والأخير لحماية حقوق الأفراد وقطع دابر الفساد متى استشرى في السلطتين التشريعية والتنفيذية والإدارات البيروقراطية بالدولة، وهو الحكم المحايد حين يوازن بين السلطتين، ويضمن عدم تجاوز أي منهما لسلطانه، ويضع بالتالي الحدود الفاصلة لتلك السلطات.
تاريخياً، كان ينظر للقضاء على أنه امتداد للسلطة التنفيذية، ومع التطور الحضاري وبتأثير من فلاسفة ومفكرين من أمثال مونتسكيو تقدمت نظرية الفصل بين السلطات، لضمان استقلال كل سلطة من سلطات الدولة الثلاث عن الأخرى، وتطور القضاء ليصبح مستقلاً، لكن حتى مع مبدأ استقلاله، تظل السلطة القضائية هي الأضعف بين السلطات الثلاث، فهي «لا تملك سيفاً ولا محفظة»، بتعبير هاملتون، وهو أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة.
إلا أن فكر وثقافة ووطنية الأشخاص، وليس مجرد النصوص، العاملين في الجهاز القضائي تظل هي الضامن للعدل وحكم القانون، والتي – بالتالي – تزرع القوة والسلطان في هذه السلطة. القاضي مارشال، رئيس المحكمة العليا الأميركية وضع عام 1803 سلطة الرقابة الدستورية على قوانين الكونغرس في الحكم الشهير بقضية «ميرفي ضد ماديسون»، وتطور قضاء المحكمة العليا، ليضع في ما بعد مبادئ تحرم التمييز العنصري ضد السود، ثم بعد ذلك منع الفصل في التعليم بينهم، وتمضي تلك المحكمة في أحكام عديدة كرست وطورت من خلالها «الفهم» المعاصر لنصوص الدستور الأميركي، بما يتواءم مع تطور الزمن.
أما المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، فقد وضعت قيوداً على الدول الأوروبية الموقّعة على ميثاق المحكمة، من هذه القيود المتمثلة ضد قرارات أو قوانين تلك الدول، مثلاً قيد حق الدولة الفرنسية بالنسبة إلى المهاجرين المسلمين، وآخر ضد أيرلندا في موضوع الإجهاض، وضد بريطانيا في موضوع الشواذ الجنسيين. وهكذا مضت أحكام تلك المحكمة في تكريس مفاهيم الحريات، ولم تحد من سلطانها في أحكامها مسائل سيادة الدولة ونظرية «أعمال السيادة» التي تتحجج بها الدول السلطوية لقمع حريات البشر وانتهاك أبسط حقوقهم، بحجة تلك السيادة المزعومة التي هي بكلام آخر، سيادة القوي على الضعيف، لا أكثر.
في إيطاليا، وهي من الدول المتقدمة، إلا أنها ابتليت بالمافيا وفساد السياسيين، إلا أن المفكر فوكوياما في كتابه «النظام السياسي والتآكل السياسي» – والذي سأعود إليه في مقالات لاحقة – لاحظ أن حركة الرفض للسلطة اليسارية في أوروبا في منتصف الستينيات (ما يسمى ثورة الطلبة) تركت بصماتها على المحامين الشباب من المثاليين اليساريين، الذين أضحوا في المناصب القضائية في الثمانينيات، وأخذوا في ملاحقة قضايا الفساد السياسي بالدولة، وتصدوا لغول المافيا الخطير بأحكام شجاعة، مثل القاضي جوفاني فالكون، الذي لاحق المافيا والفساد السياسي، ودفع الثمن الغالي حين قتلت زوجته وحرسه عام 1992.
وتضاعفت حماسة هؤلاء القضاة لصد موجات الفساد في الدولة، بعد مقتل رئيس البوليس هناك «البيرتو شيسيل»، وتمضي حركة تنظيف الدولة من الفساد، وبدعم من الرأي العام بقيادة هؤلاء القضاة لتزيح رئيس الوزراء «أندريوتي» ومعه الحزب الديمقراطي المسيحي بعيداً عن السلطة.
وقبل فترة قريبة، قرأنا في عناوين الصحف عن رئيس الوزراء السابق «بيرلسكوني» الذي حكم عليه بالسجن بتهمة التهرب من الضرائب واستغلال النفوذ، ويخفف الحكم لكبر سنه، بالعمل لخدمة المجتمع في أي عمل متواضع.
ورأيناه وهو المليونير العجوز و«بلاي بوي» الشهير، ولم يشفع له مركزه ولا ملايينه ولا ملكيته لأكبر وسائل الإعلام في إيطاليا.
كان هناك قضاة آمنوا بالعدل والإنصاف والحرية لمواطنيهم، فهم لم ينساقوا لمغريات السلطة الحاكمة، ولم يخشوا بطشها، ولم يكن القانون عندهم نصوصاً عامة مجردة، بل كان قضية إيمان ثابت بالحق لا أكثر.