هذا المأزق، حقيقياً كان أو وهمياً، مرفوض، فهو الذي يضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن نتقبل ونتجرع قضايا الفساد المالي والسياسي في الدولة و"نصهين" عنها ولا نبالغ في الحديث عن أدبياتها بعوض وثمن أن تُحترَم حرياتنا الخاصة والعامة في معتقداتنا وممارساتنا ولا نخضع للشرطة الدينية والأخلاقية وما في حكمها، ولا لقوانين ومشاريع قوانين تطرحها "مجاميع التخلف الديني- القبلي"- وهو المصطلح الذي كثيراً ما يتردد في مقالات الزميل عبداللطيف الدعيج – أو نرضى ونتقبل طرح المعارضة بشعارها الكبير المعنون بمحاربة الفساد في الدولة.
فهذه المعارضة في مجلسها الأخير حين كانت تمتلك شبه الأغلبية وقبل حكم المحكمة الدستورية ببطلان المجلس قدّمت أشرس مشروعات القوانين "الدراكونية" في معاقبة المسيء للذات الإلهية على سبيل المثال، وطرحها لحظر الشيشة…! ودعواتها اللامنتهية إلى بقاء المرأة في البيت ومحاربة حقوقها السياسية في الماضي قبل إقرار تلك الحقوق، (أيضاً تلك كلمات تتردد في مقالات بوراكان)، ولنذهب إلى أبعد من ذلك، فجذور تلك المعارضة، حين قوت شوكتُها في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، هي دينية أصولية بمعنى الكلمة، فهي التي طرحت مشروع حرمان غير المسلم من استحقاق الجنسية عام 1982، ثم شرعت قانون منع الاختلاط في مقاعد الدراسة الجامعية عام 1996، وهي التي صبغت الدولة باللون الأسود الكئيب بمنع كل مظاهر الفرح والبهجة التي كانت من ملامح الدولة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ويمضي ذلك الطرح إلى لوم قوى سياسية مثل المنبر الديمقراطي على مساندتها للمعارضة في دعوات محاربة الفساد والتضحية بقضية الحرية الفردية – رغم أن المنبريين لم يقصدوا أبداً قضية الحريات الاجتماعية – متناسية (قوى الحداثة تلك) واقع وتاريخ الأغلبية المعارضة.
وضعنا بين هذين الخيارين، فالذي يرجِّح ضمنياً خيار "الصهينة" على مسائل الفساد غير مقبول منه ذلك، لأنه يتناسى أن قوى المحافظة الدينية هنا في الكويت أو في معظم أقطارنا العربية لم تظهر من العدم، فالأنظمة الحاكمة وجدت ضالتها في "سلاح الدين" لتدجين شعوبها، والمثال الفذ على ذلك يتمثل بالتجربة المصرية أيام الرئيس المؤمن أنور السادات في الماضي، حتى انقلبت عليه وطرحته صريعاً، ووجدنا، بالمناسبة واستطراداً، أيضاً شخصية شاعر يساري فذ وهو الراحل أحمد فؤاد نجم تمجد قتلة السادات، وكأنه من الواجب علينا أن نتقبل أي نظام حتى ولو كان دينياً متطرفاً مقابل الخلاص من طاغية، ثم يعود الشاعر الشعبي الراحل ليؤيد حركة الانقلاب على الشرعية الدستورية في 30 يونيو الماضي طالما كانت تلك الشرعية متمثلة بجماعة الإخوان المسلمين! ويعصف النظام العسكري الجديد بالحريات السياسية جملةً وتفصيلاً، ونتذكر هنا عبارة باسم يوسف حين قال: "قدمت 30 حلقة نقد لمرسي ولم يمنعني، وحلقة واحدة لم يتقبلها النظام الجديد، ومنع البرنامج".
كان ذلك استطراداً لا بد منه لتوضيح هذا الخيار المستحيل، ونعود إلى الكويت، التي لا تمثل حالة استثنائية من القاعدة العربية، وإن اختلفت عنها في معايير الثراء وهامش الحرية السياسية النسبي، يبقى أن نعترف بأن أنظمة دولنا العربية التي مارست الفساد هي التي "خلقت" أو تسببت في خلق التطرف الديني، واحتفلت بإلهاء الشعوب عن مصيرها البائس، ولم يكن بالأمر الجديد استعمال الدين لاستمالة الشعوب وقمعها، فأوروبا العصر الوسيط ومنذ قيام الدولة الرومانية المقدسة سارت على ذلك الدرب، وحدثت الصراعات بين الأنظمة الملكية و"بابوات" روما على "الشرعية الدينية" واستقلالية الملك عن البابا، وتزامن هذا مع بزوغ حركات الإصلاح الديني والحروب الدينية "الطائفية" حتى انتهت بقيام الثورة الفرنسية بدمويتها المرعبة وشعار "لا حرية لأعداء الحرية" لتستقر الأمور نهائياً، ليس بسيطرة نابليون على الحكم ولكن بإقرار دستور 1905 وفرض العلمانية مرة واحدة وللأبد. لعلنا اليوم، أيام الربيع العربي بكل صوره المخيفة، نمر بتلك المرحلة الأوروبية مع اختلافات كبيرة، لكن في كل حال يبقى الإقرار بضرورة رفضنا أن نُحشَر بين خيارين إما أنظمة حاكمة ترفض الإصلاح وتمنح هامشاً ساذجاً من الحريات الاجتماعية أو نظام ديني يدعو بعمومية إلى محاربة الفساد، وفي الوقت ذاته يقوّض الحريات الاجتماعية… مفاضلة "إما" و"أو" يتعين رفضها من أساسها، فهي خاطئة، ولابد العمل من أجل طريق ثالث مهما كان بعيداً الآن.