لم تعد القضية مسألة "خمال" سلطة حاكمة، وفساد دولة، هي اليوم قضية وجود الدولة، هي قضية بقاء الدولة وتوفير الحد الأدنى من الضمان الاقتصادي لمستقبلنا، ومستقبل أجيالنا. دفعت الدولة بالأمس أكثر من ملياري دولار، تنفيذاً لحكم التحكيم في دعوى "الداو"، فهل انتهينا، وهل انتهت دورات فوضى الفساد والترضيات، وشراء الولاءات، وغياب مؤسسات حقيقية للرقابة والشفافية؟! مازال الذين في قلوبهم مرض يختصرون مأساة الداو، في هذا النائب أو ذاك من المجالس السابقة، ويغطون، متعمدين وبنوايا سيئة، فضيحة "الداو" وغيرها بموقف أحمد السعدون أو مسلم البراك، أو الأربعة، (أو أكثر قليلاً) من نواب عارضوا صفقة الداو، وهددوا رئيس الحكومة، في ذلك الوقت، بالمساءلة السياسية، فلم تجد الحكومة المسكينة بدّاً غير فسخ عقد "الداو" من جانب واحد، ثم تركت "القرعة ترعى"!.
طبعاً، لم يتحدث هؤلاء المرضى المتورمة كروشهم من كرم السلطة، عن الحقائق في عقد الداو، والشرط الجزائي للفسخ ومدى علم النواب به، ولم يتحدث هؤلاء المرضى عن صلابة أو رخاوة الموقف الحكومي في الدفاع عن الصفقة، وتوضيح "شروطها" وأحكامها الجزائية، بعد أن وقّعت الحكومة عليها، كان الهون أبرك ما يكون، وفضلت السلطة "وحدها" فسخ العقد، بحجة ترضية النواب، بينما الفسخ كان بغرض تجنب الإحراج السياسي لشيوخنا، حين تُقدَّم صحيفة استجواب يمكن الرد عليها بيسر، لكن (ولأن) القضية كان فيها "شيخ" قد يصيبه الصداع حين يقف فوق المنصة ويُستجوَب، فهذه كبيرة جداً، ويمكن، عندئذ، مقايضتها وشراء الاستجواب بأكثر من ملياري دولار!
ليتها كانت "داو" واحدة وانتهينا منها. هي "داوات" ليس لها أول ولا آخر، هي "داوات" تتوالد وتتكاثر، ويُحرَق من أجلها بخور مليارات الدنانير كل يوم، كي يصمت الجميع، و"ينسطل" وعيهم بالمستقبل، ويسكتون. لن أعيد ما ذكره الكبير أحمد السعدون في لقاء "توك شو" مع الوشيحي، حين أخبرنا عن "داوات" قديمة ومازالت في احتكار الأراضي، وفي تفصيل المناقصات الكبرى بسوق الخياطين، وفي هموم محزنة وثقيلة تتعلق بالإنفاق والفساد، وسوء الإدارة. تعالوا نسمع قليلاً ما قاله ابن أخ السعدون، وهو الاقتصادي جاسم السعدون في ندوة صالح الملا. فحسب كلام هذا الاقتصادي، الذي بالتأكيد ينفخ في قربة مقطوعة، وأجزم أنه يؤذّن في مالطة، منذ أكثر من ثلاثة عقود ولا أحد من رموز السلطة الحاكمة بأمر الله أنصت إليه، أو استمع لغيره من المخلصين، يقول جاسم إنه في حالة استمرار الوضع الحالي، وهو وضع الإدارة السياسية، فعلى الدولة أن توفر مئة وستين ألف فرصة عمل خلال سبع سنوات، وبحدود عام ٢٠٣٠ عليها أن توفر ٤٣٠ ألف فرصة وظيفة! وكلام الهم المؤلم عن "فوضى" إدارة الدولة ليس له نهاية، بينما نحن اليوم نتجرع حالات لا تحصى من البطالة المقنّعة، وبطالة حقيقية تزداد يوماً بعد يوم… فكيف يمكن لدولة سياسة "الداوات" توفير مثل هذا الكم من فرص العمل؟! ومن أي ميزانية بؤس ستوفر الرواتب لها، والله وحده العالم، بمصير أسعار النفط واحتمالات استغناء أميركا عن نفطنا، والله وحده العالم بمعدلات استمرارية النمو للصين والهند وجنوب آسيا، وكم ستدفع تلك الدول غداً ثمناً لنفط دولنا، بينما دولتنا، صلِّ على النبي، متدروشة فكراً وثقافة وتجلس على باب الله ممسكة بصنبور النفط الذي ليس لها غيره؟ ويقف، في الوقت ذاته، نواب مجلس الحكومة، ويطلب أحدهم، توفير ٢٥ ألف متر كأرض زراعية لكل كويتي، وينطلق الآخرون مع قطار "الشعبويات" بزيادة قروض إسكان، وإسقاط قروض تمهيداً (ربما) لإنهاء "حدوتة" المديونيات الصعبة، ثم هناك "شعبويات" لا تنتهي، لا هدف ولا غرض لها غير خلق شرعية مالية فاسدة ومدمرة، لتحل مكان الشرعية الدستورية الغائبة عن هذا المجلس.
انتهت قضية "داو" واحدة، وبقيت قضايا "داوات" مستمرة، تخنق أحلام أطفالنا، بغدٍ مجهول، معتم، ليس فيه بصيص نور مع هذه الإدارة السياسية.