في حفل تخرج مدرسي لأبنائنا وبناتنا سألني صديق بصيغة تذمر وكان جالساً بقربي: إلى متى سيستمر حالنا السياسي هكذا، فالأمور الآن صارت غير معقولة وغير مقبولة؟! كنت سأرد عليه بحكمة مريحة ساذجة تريحه وتريحني من قلق المستقبل بأن الشيوخ أبخص. ومادام لهم الحكم والكلمة الأخيرة، كما يفترض، فلماذا نشغل أنفسنا “نحن الرعية” بهموم الدولة مادام شيوخنا هم الآباء الأوصياء وهم أدرى منا بخفايا السياسة؟ وطبعاً هم “أبخص” منا في “التخطيط للمستقبل” وحل كل مشاكل الدولة بضربة عصا سحرية. أكثر من ذلك سمعت بأن هناك إشاعات عن حل المجلس ربما بطريقة غير دستورية ولمدة ستة أشهر، يتم فيها تعديل الدوائر من خمس إلى عشر، وماداموا (الشيوخ) أبخص فسيكون هذا لمصلحة الدولة ومصلحة “الرعية”، ألم يعلّمونا تاريخياً ذلك، أليسوا هم من “يشوفون اللي ما نشوفه”؟ لم يمهلني صديقي للرد عليه بجوابي المعلب السائر بالتبعية خلف حكمة أصحاب “البشوت ” الشفافة الداكنة الألوان، مجيباً على نفسه بأن مشكلتنا ليست في الدوائر وتعديلها، ولا في ما يحدث بمجلس الأمة، مشكلتنا في الخلافات بين الشيوخ، والتي زادت على “الجيلة”، إذ لم يعودوا (الشيوخ) متفرغين لقضايا إدارة شؤون الوطن، وأصبح كل واحد يتصيد للآخر و”يحبل له”، ويريد إيقاع ابن عمه في “مطب” سياسي، حتى تصفو له أجواء الحكم، ونتيجة لهذه الثقوب الكبيرة في بيت الحكم، ضاعت “الهيبة” المفترضة عند السلطة، وعبر تلك الصراعات تاه الوقار الواجب للسلطة، وهي في حقيقتها صراعات مزمنة فيها رؤوس وأذناب وأموال هائلة تضخ من حساب الدولة، وليست مجرد خلافات عادية كما يقولون لنا! سكت صديقي المهموم، فالحفل قد بدأ وأطفئت الأنوار ليشرع عريف الحفل في استهلال البرنامج وشرعت بدوري في عالم التيه والسرحان في حالنا اليوم. فماذا عن حالنا اليوم؟ لا أقصد حالنا هذا اليوم الكامل الذي لا ينقصنا فيه شيء غير وجودنا الروحي والإنساني، فنحن نأكل ونشرب والحكومة، التي لم تقصر، تدفع الرواتب والمعاشات بالتمام والكمال، ونوابنا بدورهم كذلك “ما يقصرون” يطالبون نيابة عنا بالمزيد من حقوقنا في زيادات الرواتب والكوادر، وكلنا، موظفين وتجاراً وعاملين في القطاع الخاص، نحيا ببركة حكوماتنا – من جديد – التي “ما تقصر” تعطي من دون حساب (وأيضا تأخذ من دون حساب)، تعطينا “وتعطيهم” وهم يعني “هم أنفسهم” أهل الحكم والحكومات… فماذا نريد أكثر من ذلك؟! شوفوا حال مساكين أهل اليمن وأطفال ذلك البلد الذي هو مهد العرق العربي الأصيل كيف ينبشون أكوام الزبالة بحثاً عن لقمة تسد جوعهم، شوفوا حرب سورية الأهلية، وماذا صنعت ببلاد الخير، شوفوا العراق بلاد النهرين، الذي كانوا يقولون لنا إنه سلة القمح العربي مثلما السودان سلة الفاكهة العربية، فالأول أضحى سلة متفجرات موقوتة يشعل عود ثقابها من نار الكراهيات الطائفية، والثاني يتضور جوعاً يحكمه عسكر على أكتافهم النياشين والنجوم وفوق رؤوسهم لفائف العمائم الدينية.. ولن ننتهي من كلمة “شوفوا” في بلاد العرب أوطاني… ولا يبقى غير مصر أم الدنيا التي مازالت “تتأمل فنجانها المقلوب”. ماذا يريد صديقي أكثر من ذلك؟! نحن بخير وألف خير، ليست لدينا مشاكل الآن، ماذا يعني أن يضيع أكثر من مليارَي دولار في صفقة “الداو” ما دمنا نتسلم بانتظام الرواتب والمعاشات، ونهرب من الغبار ولهيب صيف ممل قاتل، وفي رمضان نشاهد المسلسلات الرمضانية “العميقة ” بنصوصها ومغازيها كأنها روائع مسرحيات شكسبير، نشاهدها متوسدين “الكنبات” الوثيرة والبطون منتفخة من خلطة الهريس والتشريب ومحلين بكنافة ولقيمات القاضي.. يالها من حالة انتشاء روحية عظيمة من دون محرمات وتوابع المادة ٢٠٦ من قانون الجزاء، ماذا نريد أكثر من ذلك؟ لماذا نقلق على المستقبل؟ لماذا نقرأ تنبؤات صندوق النقد الدولي وأهل الاقتصاد حين يقولون إن عوائد النفط لن تكفي نفقات الدولة بعد خمسة أعوام؟ لماذا نفكر في ما سيحدث بعد خمسة أعوام واليوم البرلمان ضائع في تصفيات حسابات قديمة، والحكومة المسكينة مضيّعة بوصلتها السياسية بين “حانا ومانا” نواب الأكثرية… لا يهم، غاب وعيي بحقائق قلقٍ مشروع لا في أحلام يقظة عابرة، فجأة… لكزني صديقي كي أستيقظ من كوابيس اليقظة منبهاً إلى أن علي أن أقف وأحيي ابنتي عايشة فهي تتسلم شهادتها، وقفت مصفقاً بينما بداخلي أضرمت نيران القلق على مستقبل أبنائنا وبناتنا الواقفين يتسلمون شهادات تفوق لن تجديهم نفعاً في بلد “إن حبتك عيني ما ضامك الدهر”، فغدهم لن يرحم الضعفاء الاتكاليين، ولن يرحم من يردد أن الشيوخ أو الغالبية أبخص… لا أحد أبخص من أحد غير الحكماء… وهم عملة قديمة غير متداولة في السياسة الكويتية اليوم.