«الربيع العربي أو ربيع الأصوليات» (سجعان القزي، النهار)، «العلمانيون والانتصار المرحلي للقوى الإسلامية» (سلام الكواكبي، المصدر السابق)، «صعود الإسلام الليبرالي» (السيد ياسين، الحياة)، «إلى الجحيم أيها العلمانيون» (سوسن الأبطح، الشرق الأوسط).
تلك كانت مجرد نماذج بسيطة لعناوين زوايا لمثقفين وكتاب في الصحف العربية، وفي الصحف الأجنبية هناك خطاب مشابه وإن كان أكثر دقة بالتحليل من الرأي العربي بصورة مجملة، والمشترك في تلك الخطابات هو حالة الانبهار بصعود واقتراب التيار الإسلامي إلى الحكم في الربيع العربي أو الربيع «الملتحي» أو «الربيع المنقب»، ولنا أن نختار الكثير من النعوت التي قد ترضي قليلاً من الغرور شبه العلماني، أو تطفئ بعضاً من غليله. هي حالة انبهار وليست دهشة، فنحن ننبهر من حدث كبير، وفي الأغلب يكون متوقعاً، لكننا لا نندهش منه طالما كان في خانة التوقع، الانبهار من كتاب الصحافة العربية جاء مغلفاً أحياناً بحنق وجلد للذات مع نوع من الشماتة على الخطاب العلماني، مثل مقال سوسن الأبطح، وأحياناً يرافق هذا الانبهار نوع من العزاء للنفس، والتمني بنهاية جميلة تنسجم مع حلمنا بالحريات العامة والفردية حين نردف كلمة الإسلام بـ»الليبرالي» (السيد ياسين)، وتبقى هناك دائماً القواسم المشتركة في التحليل التي تفسر صعود النجم الإسلامي بفشل المشروع القومي العربي، وتحالف النخب العلمانية مع النظم السلطوية أو «تعالي» تلك النخب على الشارع العربي وتناسي قضاياه اليومية من أحوال معيشية فقيرة وبائسة، ويرافقها انعدام كامل لأبسط حريات الفرد المسحوقة كرامته من عصر الاستعمار الغربي الخارجي حتى الزمن الأسود المتمثل في الاستعمار الداخلي للسلطات الحاكمة والآفلة حتماً.
طبعاً هناك «الرتوش» والبهارات التي يمكن إضافتها لوعاء طبخ تفسيرات صعود التيار الديني، مثل داء «البترو دولار»، وكيف ساهمت أرصدة الدول الخليجية الضخمة الناتجة من تصاعد أسعار البترول في ضرب قوى اليسار والقومية مع الضخ المالي المتواصل للجماعات الإسلامية، فتلك الجماعات ضحت بالروح في تحرير أفغانستان من «الكفار» الشيوعيين في ثمانينيات القرن الماضي قبل أن تنقلب على أسيادها، وكانت الأموال تسيل من الخليج والأرواح من دول الفقر العربية والسلاح من الأميركان والغرب، حتى يعجل بسقوط الإمبريالية السوفياتية، ويصفى الجو لمركز الإمبريالية الغربية وحواشيها العربية… ألم يكتب محمد حسنين هيكل عن نهاية الثورة وبداية عصر الثروة…! أما اليوم فأسعار النفط العالية تخدر الداخل الخليجي وتقيه من أنواء العواصف المقتربة، وفي الوقت ذاته تروم إلى احتواء الربيع الملتحي… وتمضي قائمة تحليلات الكتاب والمثقفين العلمانيين المنبهرة إلى ما شاء الله، وكأن الأنظمة العربية السلطوية كانت فعلاً علمانية وليبرالية…! ولم تكن غير كأس جميل يحتوي على بيرة مغشوشة…! (نسب هذا التعبير إلى إحسان عبدالقدوس في تعليقه على طه حسين ولا أعرف مدى صحة هذا النسب).
أياً كانت مصداقية التفسيرات والتبريرات السابقة، فإن القدر المتيقن هو مثلما قال توماس فريدمان في مأثورته، ولم أقرأ له مأثورات سابقة، تقول إن العرب لا يمكنهم القفز من المرحلة الاستبدادية إلى المرحلة الجفرسونية (نسبة إلى توماس جفرسون كأهم واضعي الدستور الأميركي مع تكريس مبادئ الحريات فيه) دون المرور بالمرحلة الخمينية… فليكن وصف المرحلة الحاضرة بالخمينية طالما اقتنعنا بأنه لا يمكن دائماً في الثورات حرق المراحل… إلا أن الأمل يبقى بأن المرحلة «الخمينية» تتقدم صعوداً لتصل إلى العتبة الغنوشية في تونس أو الطيبية في تركيا، ولا يتعطل مصعدها في السراديب المظلمة للسلفيات المغلقة والجهادية… وليس لنا غير هذا الأمل.