كأن الحكومة تخاطب نواب المجلس، وخصوصاً نواب الاستهلاك، حين كلفت لجنة التخطيط والتنمية «العمل على تحديث الدراسات الكفيلة بإصلاح الوضع الاقتصادي»، ثم استمع مجلس الوزراء إلى شرح من محافظ البنك المركزي عن الأوضاع الاقتصادية العالمية (وهي في أزمة كبيرة)، واثر المصروفات في بند الرواتب والأجور، وهو يكاد يستغرق مورد النفط… إلخ.
الحكومة تصرح وكأن كلامها جديد علينا ولم نشبع ونسأم منه منذ زمن طويل! شروح محافظ البنك المركزي وتحذيراته ستدخل من الأذن اليمنى للحكومة وتخرج من الأذن اليسرى، أما الدراسات التي كلف بها المجلس الأعلى للتخطيط فأبصم أنها ستوضع على أرفف النسيان، وسيعلوها الغبار بارتفاع شبر…! إذن، لأجل مَن هذا الخطاب يا حكومة؟ لنواب الصرف أم لأجل ذاتك كتكفير عن عقدة ذنب كبيرة منك حين تراخيت في مواجهة الاستهلاك الريعي والفساد، أم أن هذا الخطاب من أجل الاستهلاك السياسي لا أكثر؟ أرجح الجواب الأخير.
فالحكومات المتعاقبة، وليس حكومات الشيخ ناصر المحمد كي نكون منصفين، هي التي خلقت هؤلاء النواب والجمهور الذي انتخبهم منذ البداية، الكارثة كانت أبعد من البقاشيش السياسية لما بعد التحرير مباشرة (خمسمئة دينار للصامدين، وفتح الأبواب للعمالة الأجنبية رغم أن الصامدين أظهروا معدنهم الصلب في الاعتماد على الذات أيام الاحتلال)، وامتدت سياسة التسكيت وشراء الولاءات حتى هذه اللحظة، فكان يكفي أن يطالب أي نائب، ولو كان وحيداً، بأي مطلب يثقل كاهل الميزانية ويدمر روح المساهمة الوطنية في الواجب العام حتى تبادر الحكومة بالبصم عليه، والحساب عليكم من إسقاط فواتير الكهرباء والماء حتى صرف الألف دينار لكل مواطن، وتكفل الدولة «بماجلة» البيت لأربعة عشر شهراً، والسطور لن تتسع لعدد مناسبات الرشوة السياسية للمواطنين سواء جاءت بتشريع ملزم أم بالصرف من تحت الطاولة لمن أحبتهم عين الحكومة فلم يضمهم الدهر!
كانت الحكومات تصرف وتنفق بلا حساب ومن غير عمل مقابل للمواطن، ليس من أجل عيون هذا المواطن، بل كي يتم تخدير وعيه وتربية روح اللامبالاة في قضايا الإنفاق العام، فكأن الحكومات تقول له «خذ المعلوم وصهين…» ونجحت السلطة إلى حد كبير في سياسة تربية روح الإنفاق والتواكل للمواطنين، لكن على حساب المستقبل والجيل القادم الذي سيواجه المجهول، الحكومة اليوم لن تستطيع الرد على أي نائب يتكلم بحق أو باطل عن حاجات أو (تدليع) فئة من الشعب، فبيت الحكومة من زجاج، ويسهل على هذا النائب أن يرد بمطولات عن قضايا الفساد الحكومي، وكيف تمالئ السلطة هذه الجماعة أو تلك من المتنفذين… فلماذا يكون حلالاً على الكبار حراماً على الصغار! منطق بسيط ولكنه يصيب بيت الحكومة الزجاجي بسهولة… والحل لن يكون بغير العودة السلطوية إلى سياسة التسكيت وشراء الصمت ولو كانت الدولة على شفا الإفلاس. في النهاية أعتقد جازماً أن هذه الحكومة غير قادرة على الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي، فقبل كل ذلك يفترض أن يكون لديها منهج ورؤية لإصلاح اجتماعي أولاً، وهذا يتطلب إصلاح الفرد بالتعليم الجيد وخلق روح المبادرة والإبداع بالتشجيع، وأن يكون ولاة الأمر قدوة حسنة له، وهذا محل شك كبير.