حتى يكون الاحتفال بمرور خمسين عاماً على الدستور متناسباً مع رغبة سمو أمير البلاد لابد أن تتجاوز هذه المناسبة الشكل الاحتفالي الذي يتمثل عادة في البهرجة الإعلامية، كما يتجسد في خطابات المسؤولين الوعظية التي تذكرنا بنعم الدولة علينا وإنجازات الحكومة الكبرى من أجل رفاهية وراحة المواطنين، ثم يتعالى هذا الشكل الاحتفالي ليصل إلى خواء المهرجانات والأغاني الوطنية و»اللمبات» الملونة التي تزين المباني الحكومية لنتوه بهذا المكياج الرسمي المتأصل في عادات الدولة وتقاليدها الحكومية.
تجاوز هذا «المكياج» الرسمي أصبح اليوم ضرورة بعد التغيرات التي تعصف بالمنطقة لنصل إلى العمق والمضمون الدستوريين في ذكرى الدستور «الذهبية»، التي أضحى معها الدستور بعد خمسين عاماً معدناً صدئاً ومجرد «تنك» يلمع من غير روح تنبض بالحياة وتنمو وتكبر مع الزمن، فاليوم نحتفل بالذكرى الذهبية ونأسى على الأيام الذهبية لهذا الدستور وهذه الدولة. تلك الأيام التي ولت إلى غير رجعة، الأيام الذهبية كانت سنوات الستينيات من القرن الماضي، وهي أيام ولادة دستور والسنوات القليلة التي تبعتها، ولم يمض وقت طويل حتى بدأ يظهر تململ «شيوخنا» من الدستور وأحكامه، فكان تزوير الانتخابات البرلمانية في النصف الثاني من الستينيات، وبعدها كانت سنين أو شهور المجلس محكومة برغبات التفرد بالسلطة، فإما أن يساير المجلس النيابي دولة الشيوخ أو الحل اللادستوري، وبعد التحرير حتى بداية الألفية الثانية وإن كفت السلطة الحاكمة عن هز عصي الحل غير الدستوري بوجه المجلس، وتقدمت بخطوة كبيرة نحو منح المرأة حقوقها الدستورية في الانتخابات والترشيح إلا أنها وقفت عند تلك الحدود متوهمة أن هذا هو كامل «الجسد» الدستوري ولا شيء بعده، فالدستور والديمقراطية في الفهم القاصر هما صناديق انتخابات فقط، فالأحزاب السياسية ممنوعة وقانون التجمعات رغم إلغاء المحكمة الدستورية أهم مواده لكن الحكومة مازالت تسير تحت ظله، أما مشروع استقلال القضاء فتم وضعه بأدراج النسيان، وأهم من كل ذلك فإن حرية التعبير وبقية حريات الضمير تئن من وطأة وزارة «الحقيقة» ministry of truth أي وزارة الإعلام بالتعبير «الأوريلي» (نسبة إلى جورج أوريل برواية ١٩٨٤)، فهذه الوزارة مع قوانين الجزاء والمطبوعات والنشر تحسب كل كلمة تنشر في المدونات الإلكترونية وتبحث عن أي سبب لخنق الرأي الناقد للسلطة، فهي بصورة أخرى وزارة مخابرات بلباس مدني، وهي سلطة نافذة «لتوصيل الطلبات» إلى السلطة الحاكمة، فأي ديمقراطية «دستورية» نتحدت عنها اليوم وهذه الوزارة وأسلحتها القانونية «الستينية» تشحذ سكاكينها لنحر المدونات والتويتر والفيس بوك أبناء ثورة الاتصالات!
أما على صعيد الحريات الفردية الخاصة فقد تدهورت ببركة القوى الرجعية التي رعتها السلطة في السنوات الماضية لحسبات داخلية كضرب اليساريين والقوميين، وخارجية تنفيذاً لرغبات العم سام بمحاربة الشيوعيين الكفار في أفغانستان، ثم أضحت تلك الجماعات أبشع صورة للإرهاب الدولي بعد أن كانت الطفل المدلل لدولنا والراعي الغربي.
دعونا نحتفل غداً باليوبيل الذهبي للدستور، تحقيقاً لرغبة أمير البلاد وأبناء الوطن، وليكن الاحتفال على مستوى المضمون لا الشكل.