من الأمور الغريبة المتعلقة بالجنس البشري تلك الحقيقة، التي تتطلب بعض التفكير العميق من المتشددين دينيا، والمتعلقة بمرض «شلل الأطفال»!! فبغير إعطاء جميع الأطفال المولودين حديثا هذا المصل المضاد للشلل، فإن من المحقق إصابة نسبة كبيرة منهم بهذا المرض الذي يؤدي حتما ليس فقط الى إصابتهم بإعاقات خطيرة بل وفي زيادة نسبة الوفيات بينهم بصورة كبيرة.
كما ان انواعه الخطيرة يمكن ان تتحول الى وباء سريع الانتشار، وهذا الكلام يعني ان مصير الطفل المولود حديثا لا يجب ان يترك للصدف لتأخذ دورها!! تعتمد نسبة الاصابة بهذا المرض من مجتمع لآخر، وتتزايد النسبة مع تخلف الدولة صحيا. وعلى الرغم من جهود مختلف حكومات دول العالم، فإن غالبيتها لا تستطيع العمل منفردة للقضاء على هذا المرض، فمرض شلل الأطفال لا يزال يعامل، رسميا، كوباء في نيجيريا والهند وباكستان، وافغانستان بالتحديد، وجميعها، عدا الهند، دول إسلامية ذات كثافة سكانية عالية!.
وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية اخيرا ان اكثر انواع هذا المرض الخبيث خطورة على حياة الأطفال، والذي يمكن ان يتحول بسهولة الى وباء، والذي كان سببا في القضاء على حياة الملايين من أطفال العالم، سيتم القضاء عليه خلال عام 2008، وذلك توافقا مع أهداف الأمم المتحدة، وهي الأهداف نفسها التي نجحت من قبل في القضاء على النوعين الآخرين، الأقل تعقيدا وخطورة، من هذا المرض. وهذا يعني ان مرض شلل الأطفال سيختفي من العالم مع نهاية هذا العام، وهذا انجاز انساني عظيم يضاف لانجازات منظمة الصحة العالمية الأخرى التي نجحت في القضاء على أوبئة وأمراض كثيرة اخرى أصبحنا نسمع بها ولا نعرفها كالجذام والجدري والسل الرئوي وغيرها الكثير.
لا نود الحديث هنا عن دورنا، كدول عربية وإسلامية، في محاربة الأوبئة الخطيرة والأمراض الفتاكة والقضاء عليها وتجنيب البشرية ويلاتها ومصائبها، فهذا، كما يبدو أمر لم نوجد له أصلا ولسنا مهيئين، أو معنيين، بالتالي للقيام به. ولكن ألا يفترض ان نكون اكثر احتراما لكل اولئك العلماء والأطباء والمتطوعين الذين سخروا أرواحهم وانفسهم وأموالهم لخدمة البشرية؟ الا يستحق كل هؤلاء منا بعض التقدير، ولا نقول الامتنان، فهذا كما يبدو ليس من تراثنا «الأصيل» ولا من عاداتنا ولا تقاليدنا؟
إن هذه الإنجازات، وغيرها الآلاف التي تخرج من مختبرات ومصانع وجامعات دول العالم المتقدم، وحتى نصف المتقدم، تثبت يوما بعد يوم اننا نشترك معهم في العيش على كوكب واحد ومصيرنا مشترك وآمالنا وأحلامنا مشتركة، وبالتالي من الغريب حقا، بل من المستنكر، ان نلمس من الكثيرين بيننا كل هذه الكراهية للغير والعداء له وتمني الفناء لنسله، لا لشيء إلا لأن نصوص معتقداتنا تقول كذلك، أو هذا ما يحاول الكثير من رجال الدين الايحاء به! فمن الواضح ان اي تقدم علمي او حضاري يعني بصورة تلقائية تراجع دور الفقيه الديني ومكانته، والذي كان إلى وقت قريب، ولا يزال في الكثير من مجتمعاتنا، المهيمن على كل فهم لأمور الحياة الدنيا، والآخرة أيضا! وبالتالي فإن العلم، الذي يخالف ما يؤمن به ويعرفه، هو ألد أعدائه، وبالتالي أصبح الأمر يتطلب من هؤلاء تكفير وتحريم كل اتصال بالآخر أو ملاقاته، أو حتى تهنئته بعيده، دع عنك العيش المشترك معه! ولا نود هنا التطرق الى كل تلك المحاولات البائسة من البعض للتوفيق بين منجزات العلم الحديث والنصوص الدينية وكأن الأديان جاءت لفتح المختبرات وليس لهداية الناس الى سوء السبيل.
ما نحتاج اليه حقا هو الكثير من التواضع والبعض من الاحترام والتقدير للآخر.. صاحب الفضل الكبير على أمننا ورفاهيتنا وصحتنا وحتى بقائنا!
أحمد الصراف