لقد كنت جميلة! البعض يقول إنني لا أزال كذلك، ولكني لا أحب نفسي كثيراً هذه الأيام، فقد اصبحت أخيف أبنائي، وأتسبب في قتل أهلي من غير قصد بتجويعهم حتى الموت، كما أقوم أحيانا بتحويل أكثر أيامهم إشراقا، وفي لمح البصر، إلى موت ودمار.
عندما أقف كل يوم هناك وأحرك يدي لوداع كل أولئك الشباب وهم يستقلون تلك الطيور الحديدية الضخمة، أشعر بالغيرة لعلمي بأنهم سيذهبون للتسوق في شوارع لم أسمع بها، مبتسمين لغرباء لا يعرفون حتى من أين أتوا وليعملوا وينجحوا.. آه كم أتمنى أن يكونوا معي الآن ليعملوا في كنفي، فأنا اشعر بالعجز من غيرهم، فآلاف وآلاف تركوني الى الابد، ومن عاد منهم لم يتجاوز المئات وانا هنا في الانتظار.. وفي انتظار عودتهم.
جاءت الصبية في ذلك اليوم، وكانت كالملاك بفستانها الأبيض ووقفت على الشاطئ وفنجان القهوة بيدها، وهي تنظر إلى البحر والكلمات تخرج من بين «عينيها»: آه كم اشتاق إليك.. كم أحن اليك ولطقسك ونسمات بحرك، كم أشتاق للتطلع من خلال نافذة غرفتي إلى النجوم وهي تملأ سماءك، عندما يكون الكون نائما وليس هناك غيرك.. آه كم اشتاق إليك!! إنني افتقد انتمائي لك، افتقد الأمان، انك لا تعرفين مدى قسوة أن يقوم أحدنا من النوم كل صباح، وهو يتساءل عما اذا كان أهلي وأصحابي بخير. ولا يشعر أحدنا بالاطمئنان حتى يقرأ صحف الصباح ويجري بضع مكالمات هاتفية إذا كان هناك خبر انفجار هنا أو قنبلة هناك.
سمعت كلام ذلك الملاك الجميل، وامتلأت مقلتاي بالدموع، وملأ الغضب قلبي، ولم اعرف كيف يمكنني مواساتها، فجسمي ثقيل ومتناثر وارضي أصبحت تستمتع بدمويتها، وبين كل لحظة وأخرى ينفجر احد شراييني ويموت من جراء ذلك بعض أطفالي الأبرياء وليس بمقدوري فعل شيء.. ولكني أحاول.
وعاد صوت الملاك، وسمعتها تقول: إنني أود أن أعود لك وأموت على أرضك بين أهلي، بين أبي وأخي، فأنا أريد أن أربي أبنائي معك كما سبق أن تربيت عندك.. عندما لم نكن نعرف الفرق بين المسلم والمسيحي وحتى اليهودي.. ولم اسمع أبداً عن ارهاب، فأنا أريد أن يتربى أبنائي على النظام والاحترام والحرية، والأهم من ذلك على الكرامة، فماذا حدث لك فأنت لم تعودي كما كنت؟
وهنا شحت بوجهي ومضيت فلم اعد قادرة على سماع المزيد، ولكنها لم تتوقف عن مناداتي، ولم أجب فقد حطّمت قلبي، فقط لأنها كانت تقول الحقيقة، فأنا لم أعد إلى ما كنت عليه من سحر وجمال، فقد سلب «الزعران» مني كل ذلك.
أشعر بالخجل فقد تسببت في مجاعة شعبي، وليس لدي سقف يظلهم ولا أمان وحب يلفهم، وأشعر بالألم، فأنا أود ان اقاوم وأتحمل أكثر فربما، ربما، يعرف أهلي ويشعرون بآلامي ويحاولون مساعدتي في الوقوف بدلا من السير فوقي، ولكني لا ألومهم فهم جياع وفقراء!!
وتركتني فتاتي الملاك بعدها بأيام قليلة على احد تلك الطيور المعدنية الضخمة، ونظرت خلفها وهي تصعد سلم الطائرة وهي تتأمل أن تعود وتراني، على الاقل، كما أنا عليه الان، ولكننا نعرف ان المسألة ستكون خلاف ذلك!!
صرخت عليها، صرخت عاليا لعلها تسمعني طالبا منها العودة فليس بمقدوري ان اضمن لها الأمان، ولكن بامكاني ان اعدها انني واياها بإمكاننا فعل شيء! عودي واعيدي معك كل اولئك الذين تركوني، فأنا مشتاقة لكم كثيرا، وافتقد وجوهكم وضحكاتكم وآهاتكم.. عودوا وقاتلوا من أجلي، نظفوا ما تراكم علي من أوساخ وما علق بي من مخلوقات فاسدة غيرت معالمي.. ساعدوني لكي أقف فليس بامكاني أن اقول بذلك وحيدة:
فأنا مدينتكم، وأنا أمكم، وأنا طفلتكم.. أنا بيروت!!!
* * *
• ملاحظة:
ترى هل سيتعلم الكويتيون شيئا من قصة بيروت؟ أشك في ذلك!!
مترجمة بتصرف عن كاتب مجهول.
أحمد الصراف