وردني النص التالي من الصديق والإعلامي الكبير يوسف الجاسم:
«امتدادا للردود التي وصلتك على مقالتك الرائعة «ماذا تعلمت من طارق؟»، اسمح لي بهذه الخاطرة. أنت وأم طارق وأنا وأم خالد وغيرنا كثيرون نعيش حالة متماثلة من مكابدات يومية لأبنائنا المعاقين، وهذه المكابدات ولّدت وفجّرت فينا قيماً ومفاهيم كانت خافية عنا وعن غيرنا ممن لم يقع في ما أوقعنا القدر فيه، فأصبح من واجبنا البوح ببعض من هذه العبر، التي سطرتها في مقالتك المستوحاة من مقالة أخرى للكاتب سامي البحيري، فما اكتشفته أنا، أنه ليس بالضرورة أن يكون ابناؤنا المعاقون هم الأضعف ونحن الأقوياء، كيف؟ فمثلاً أنا وأم خالد، زوجتي، وعلى مدى 18عاماً من الصمود أمام حال ابنتنا «كندة»، التي كانت تجري أمامنا ممتلئة بالحيوية والجمال، وتحولت فجأة إلى روح في جسد هامد مسجى على الدوام يستمد أنفاسه وغذاءه من أجهزة وأنابيب طبية للاستمرار في الحياة، ولكنها علمتنا الكثير، وألهمتنا الدروس والعبر، وبينت لنا المسطرة الحقيقية غير المزيفة للحياة، فأصبحنا ننهل منها يومياً ما يزكي أنفسنا ويدفعها نحو إدراك ما خفي من دنيانا، وما ينتظرنا في آخرتنا بشكل معبر وبليغ. علمتنا كندة الصبر والجلد وقيم استمرار الروح والبقاء أحياء نسمع وإن كنا لا نرى، ونحس وإن كنا لا نتحرك، ونفرح ونحزن وإن كنا لا نقوى على التعبير. علمتنا البراءة والنقاء الظاهرين على وجهها المشرق على الدوام دون ردات فعل لما يجري حولها من أنواء الحياة. علمتنا لغة الصمت السرمدي بين ابنة اقتربت من الأربعين عاماً من عمرها، وهي تتلقى الحديث من أمها وأبيها ولا تتفاعل معه أو ترد عليه، ولكننا نغادرها مرتاحي النفس، حيث أنهينا معها مكالمة اليوم. علمتنا كندة مفاهيم عالم العناية الطبية الفائقة، والخروج منه إما مشياً بسلام فوق الثرى أو مغادرة أخيرة تحته، وهو عالم الشفاء أو النهاية. علمتنا تراكم الحزن والألم وتراكم الرجاء والأمل ومخزونات العاطفة وحب الآخرين، والزهد بالدنيا. وأدركنا منها عالم الصفحات البيضاء النقية من شوائب الحياة التي تضاف يومياً إلى سجل عمرها الصامت.
نحن وأنتم يا أبا طارق نعيش حالة صبر جميل ولد من رحم ألم شديد. وأروع دروس هذه الحالة أن ضعافنا أصبحوا هم الأقوياء ونحن أمامهم الضعفاء.
لك ولطارق وأمه محبتنا الدائمة.
أخوك يوسف عبدالحميد الجاسم».
أحمد الصراف