تطرقت في مقال قبل فترة إلى موضوع صعوبة تعلم اللغات، وكيف أن العربية، في نظر كثيرين، تعتبر الأصعب تعلما في العالم! وقد أرسل صديق متخصص في اللغات نصا تعلق بلغات العالم، تضمن سؤالا عما إذا كانت اللغة التي نتكلم بها تشكل الطريقة التي نفكر فيها، أو أنها تعبر فقط عما نفكر به ونود قوله؟ وهل لتركيبة اللغة التي نتكلم بها دور في تشكيل أفكارنا، بغير علمنا أو موافقتها، وتشكل الأفكار التي نود التعبير عنها؟ فمثلا تبين أن طريقة تصريف الأفعال ووضع الكلمات وتكوين الجمل في الإنكليزية والإندونيسية والروسية والتركية تتباين كثيرا، فهل يعني ذلك ان المتحدثين بها يتذكرون تجاربهم بطريقة مختلفة، لأن لغاتهم تستخدم بطرق مختلفة؟ هذه الأسئلة وغيرها تلامس التباينات الجذرية في دراسة المخ، مع التركيز على المواضيع السياسية والقانونية والدينية، فحتى وقت قريب لم تعط هذه المسائل أهمية كبيرة، ففكرة أن لغتنا قد تشكل طريقة تفكيرنا كانت مسألة بعيدة لفترة طويلة، كما كانت صعبة الاثبات، ولكن التجارب الجديدة والجدية الأخيرة اثبتت، بما لا يدع مجالا للشك، أن للغة دوراً في تكييف نظرتنا للعالم، ولهذا يقال أن تعلم لغة أخرى يعني اكتساب روح جديدة، ولكن إيمان كثيرين بنظرية نعوم شومنسكي في الستينات التي قالت بوجود قواعد واحدة للغات العالم أخرت الابحاث في هذا المجال.
وكمثال على كيف تؤثر الفروقات في اللغة على التفكير والنظر للآخر هو أن المتحدث بالروسية مثلا لديه مفردات أكثر لوصف درجات اللون الأزرق، من خفيف إلى غامق، وبالتالي لديه مقدرة أكبر على التمييز بين الدرجات المختلفة للون الأزرق من غيره. كما أن بعض القبائل المتخلفة تستخدم الاتجاهات كالشمال والجنوب والشرق والغرب بدلا من اليمين واليسار، وبالتالي لديها قدرة أكبر على تحديد مكان وجودها! فهم يصفون موقع النملة بانها في الجنوب الشرقي من القدم المواجه للجنوب. كما أن قبائل «البيراها» تتحاشى استخدام الأرقام وتركز على الكميات، وبالتالي تشكو من ضعف في معرفة كمية اي مادة بدقة. كما تبين من الدراسة أن المتكلمين بالاسبانية واليابانية لم يستطيعوا بسهولة تذكر الفاعل وراء حادث ما، كما هي حال المتحدث بالإنكليزية مثلا الذي يصر في لغته على ذكر الفاعل وراء أي حادث، فيقول إن جون اسقط اللوحة، ولكن الآخرين يكتفون بالقول بأن اللوحة سقطت! وتصبح بالتالي قدرتهم على تحديد الفاعل عند وقوع حادث ما أكثر صعوبة، والشيء نفسه ينطبق على هؤلاء عند مثولهم كشهود إثبات، حيث يواجهون صعوبة أكثر قليلا من غيرهم في تحديد مسؤولية «الآخر» عن الحادث! ولكن يجب ألا ننسى هنا أننا بمجرد تحدثنا بلغات مختلفة لا يعني بالضرورة أننا نفكر بطريقة مختلفة، ولكن لو اعطينا مجموعة من الصور التي بينها أحداث مترابطة وطلبنا من عربي وإنكليزي ترتيبها لبدأ الأول بترتيبها من اليمين إلى اليسار، والآخر سيرتبها عكس ذلك وفق الطريقة التي يكتب بها كل طرف. وفي اللغة الصينية مثلا المستقبل هو في الأسفل والماضي في الأعلى والعكس عند المتحدثين بالعربية، فالمستقبل أمامهم والماضي خلفهم. ولكن من المؤكد أننا لو غيرنا من طريقة تحدث شخص ما، فإننا حتما سنغير من الطريقة التي يفكر فيها. كما أثبتت التجارب الحديثة أن اللغة التي نتكلم بها لا تقوم فقط بالتعبير عن افكارنا بكلمات، بل تقوم بتشكيل الأفكار نفسها التي نود التعبير عنها، وبمقدار اختلاف البشر بعضهم عن بعض لغويا نجد أن هناك اختلافا في طباعهم اعتمادا على اللغة التي يتحدثون بها، فما نحن عليه هو اساسا يعود إلى ما نتحدث به من لغة.
الموضوع مشوق وطويل، ويحتاج الى مقالات أخرى مستقبلا.
أحمد الصراف