من لم يزر منطقة البحيرات Lake District شمال غرب لندن، فكأنما لم يزر انكلترا بعد! فجمال هذه المنطقة يفوق الوصف، وقد تكون الوحيدة في بريطانيا التي احتفظت بطبيعتها وقاومت زحف الكونكريت عليها، ولهذا قصة تستحق ان تروى.
ولدت هيلين بياتريكس بوتر B. Potter عام 1866 وتوفيت في 1943، واشتهرت بكونها مؤلفة كتب أطفال، وتميزت كتبها برسوم جميلة لحيوانات الريف الانكليزي، طالما ألهبت مخيلة قرائها الصغار، واصبحت مع الوقت جزءا من ذكريات طفولتهم، وكانت في كتبها تدعو للمحافظة على الطبيعة وروعة العيش في الريف.
ولدت بياتريكس في أسرة موسرة وعاشت مع أخيها الأصغر منها، الذي لم يعمر طويلا، في محيط صغير بالرغم من حجم عائلتها الكبير. وكان والداها من محبي الفنون والطبيعة، وكانا يسمحان لابنائهما باقتناء بضعة حيوانات في منزلهم، وكانت بياتريكس وأخوها يطيلان مراقبة حركة تلك الحيوانات الصغيرة وتصرفاتها، وساعدتها تلك المراقبة الدقيقة في اكتساب القدرة على رسم تلك الحيوانات بدقة شديدة، وكانت أسرتها تقضي إجازة الصيف عادة في اسكتلندا، أو في منطقة البحيرات، ومن تلك الأجواء اكتسبت بياتريكس حبها الكبير للطبيعة، وأصبح هذا مع الوقت موضوعا لقصصها وما تضمنته من رسوم خلابة. كما ساعدتها الطريقة التي تلقت فيها تعليمها المنزلي الخاص في تطوير وصقل قدراتها الإبداعية في الرسم والرواية والعلوم والتاريخ. وقعت بياتريكس في حب نورمان وارن Norman Warne، الذي كان يرعى نشر كتبها، وقررت الاقتران به ضد رغبة والديها، ولكن نورمان لم يعش طويلا، حيث فارق الحياة بصورة مفاجئة، بعد شهر من خطوبتهما، نتيجة إصابته باللوكيميا، وكانت بعيدة، ولم تتمكن حتى من رؤيته قبل دفنه، وقد أصابها ذلك بحزن شديد، وتسبب في انعزالها أكثر واختيارها السكن في منطقة البحيرات، وبقيت كذلك حتى جاوزت منتصف اربعيناتها عندما التقت هناك بمحام معروف وتزوجته. واستخدمت بياتريكس ناتج بيع كتبها، وما ورثته من عمة لها، في شراء عدة عقارات في منطقة البحيرات، كان الأول عام 1905، ثم تبعته بآخر، وهكذا تمكنت على مدى بضعة عقود من شراء أراض شاسعة من خلال الاشتراك في مزادات شرسة مع شركات وافراد كانوا يرغبون في الاستيلاء على تلك المزارع لتحويلها إلى عقارات استثمارية مدرة للدخل، ولكنها أبقت كل ممتلكاتها كما هي، بطبيعتها الخلابة وتلالها وبحيراتها، وقامت قبل وفاتها، بعد 77 عاما حافلة، بوهب كل ما تملك، والذي يشكل الجزء الأكبر من «منطقة البحيرات» للشعب البريطاني، وبالتالي يعود الفضل الأكبر لها في حفظ الطبيعة الخلابة لتلك المنطقة. وسأقوم بعد اسابيع قليلة بزيارة تلك المنطقة ووضع وردة على قبر تلك السيدة تكريما لها، وذرف دمعة حرّى على وضعنا البيئي الوطني، الذي لم يتردد مسؤولوه في السماح لجهة ما بتخريب جزء من حديقة جميلة، ورئة تنفس طبيعية في منطقة سكنية، لتكون دارا لتحفيظ القرآن، كما كتبت الزميلة اقبال قبل ايام.
أحمد الصراف