شاركت قبل سنوات في مناظرة على تلفزيون «الرأي» مع النائب فيصل مسلم، وكان موضوعها الرسوم الدانمركية، وكانت الحدث الأكثر سخونة وقتها، وكيف قامت التظاهرات في عدة مدن عربية وإسلامية منددة بالرسوم، محطمة كل ما وقعت عليه أيديها من منتجات دانمركية، سبق أن دُفع ثمنها! ولكن، ما إن مر وقت قصير حتى هدأ الغليان واطمأنت النفوس وتناسينا دعوات مقاطعة المنتجات الدانمركية، بعد أن حذت صحف دول غربية عدة حذو الدانمركية ونشرت الرسوم المسيئة نفسها، وبالتالي كان من الصعوبة مقاطعة منتجات جميع هذه الدول، وطرد سفرائها وحرق سفاراتها، وهي السفارات نفسها التي كان أبناؤنا يقفون في طوابير طويلة أمام أبوابها، طالبين رحمة الهجرة أو حتى جبر خاطر بزيارة منفردة! واليوم عدنا مرة أخرى لواجهة الأحداث، بكل همجية وتخلّف، بعد أن كدنا، بثورات «الربيع العربي»، أن نبدل صورتنا «المتخاذلة والخانعة» في أعين العالم، بعد رفض القهر والدكتاتورية والبطش، والدعوة للحرية والديموقراطية، لندخل ثانية في دوامة الجهل والتناقض! فنحن نمد أيدينا للغرب ومؤسساته المالية، طالبين دعم خبزنا وإنقاذ اقتصاداتنا من الانهيار، في الوقت نفسه الذي نصرّ فيه على حرق سفارات تلك الدول، لأنها أهانت رموزنا، متناسين أن ما جعل العالم الغربي بكل تلك القدرة على إنتاج الغذاء والدواء بأكثر مما هو بحاجة له، هي حريته الفكرية والاقتصادية، وهي نفسها التي نرفضها ونطالبه بمنعها والحجر عليها!
يقول باري شوارتز Barry Schwatz في كتابهThe Paradox of Choice إننا إذا كنا مهتمين بزيادة رفاهيتنا إلى الحد الأقصى، فإن علينا أن نعطي أنفسنا الحد الأقصى من الحرية، فإنسانيتنا تحتم علينا ألا نتمتع فقط بالحرية المطلقة، بل وأن يكون لنا الحق المطلق في الاختيار بين كل البدائل المعروضة، وكلما زادت الخيارات زادت الحرية وزادت الرفاهية!
وقد لا يتفق الكثيرون مع هذه الفلسفة، بسبب قرون القهر والتعسّف التي عاشتها عقولنا، ولكن من الصعب فك الارتباط بين رفاهية الإنسان وقدرته على إنتاج الأفضل، وبين درجة تمتعه بالحرية. وقد رأينا كيف فشلت الأنظمة القمعية في توفير أدنى متطلبات شعوبها، وبالتالي نحن نعيش تناقضا رهيبا في حياتنا، فبالرغم من عجزنا عن الاكتفاء ذاتياً في أي مجال، فإننا لم نتردد في مطالبة الدول الصناعية، المنتجة لكل ما نحتاج إليه، بأن تتخلى عن سبب تفوقها، وتلجم وسائل إعلامها لكي لا تسيء إلى ما نحترم ونقدس. ولو انصاعت هذه الدول لمطالباتنا، التي لن تنتهي، فسيكون ذلك بداية انهيار ازدهارها، وسنخسر ساعتها من يدعم أسعار خبزنا ويصنع لنا حاجياتنا ويوفر لنا متطلباتنا! ونحن هنا لا نتكلم عن الدول النفطية أو ما يقاربها، بل عن مجتمعات إسلامية غارقة في الفقر والجهل والديون والمتاعب السياسية والاقتصادية، كمصر وباكستان وأندونيسيا، التي تحلم نسبة غير قليلة من سكانها في العمل عندنا، وهذا أمر يدعو للرثاء حقا! إن الحل من المأزق الذي نحن فيه، وعجزنا التام عن الرد على تكالب البعض في السخرية منا ومن رموزنا، لا يكون بالقيام بالأعمال السلبية من حرق واغتيال وتدمير، فهذه سهلة، والغوغاء متوافرون دائماً، ولكن التحدي يكون بقلب المعادلة، وبأن نصبح شعوبا تحترم نفسها، وهذا لا يمكن أن يتحقق بغير الحرية. فقد يُسحب هذا الفيلم ويُضرب على يد ذلك الرسام وتُقفل تلك القناة ويُسجن ذلك الكاتب، ولكن ليس هناك من يضمن عدم تكرار الإهانات، مادمنا بكل هذا الضعف والهوان، ولا يبدو أننا قادرون على شيء غير الحرق والقتل والتدمير.
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com