عندما عدت إلى غرفتي، في ذلك المنتجع اليوناني الجميل الواقع على بحر ايجه، تبين انني نسيت بعضا من أوراق النقد على الطاولة، وأن من تقوم بتنظيف الغرفة قد عثرت عليها ووضعتها على مكتبي. اتصلت بمدير الغرف وأبديت له تقديري لأمانة موظفته، وطلبت منه إرسالها لكي أكافئها، فرد بكلمات مجاملة وقال إن هذا واجب عليها، ومن طبيعة عملها، وهي بالتالي لم تفعل شيئا غير عادي لتكافأ. فقلت له إنني لو كنت مكانه لما ترددت في وضع اسمها وصورتها على لوحة «أفضل موظف»، أو موظفة الشهر، لكي تكون قدوة ونشعرها بالتقدير! فاجأني رده بقدر ما اثار اعجابي، حيث قال إن القيام بكيل المدح لها أو الإعجاب بعملها يعني أن القاعدة هي عدم أمانة بقية موظفي المنتجع، وأن ما قامت به أمر غير عادي، وبالتالي استحقت عليه التقدير والثناء، وهذا غير صحيح. فهم يفترضون أن أمانة الموظف أو الموظفة أمر مفروغ منه، ولا يحتاج الأمر للطبل والزمر، وهو جزء من شخصية كل فرد ونوعية تربيته! حدث هذا في بلد يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، ومع عاملة متواضعة المكانة والأجر! وقد ذكرني كلام المدير بأخينا حاتم الطائي، فنحن، ومنذ أكثر من ألف عام، لم نتعب يوما من ترداد قصة كرمه وخلقه، إن في احاديثنا أو أدبياتنا، أو حتى في مناهجنا الدراسية، وضرب المثل بكرمه، وكأن ما فعله أمر مثير للعجب، ويعني إصرارنا الحديث عن كرمه وكأننا نعاني من عقدة نقص، وبالتالي بحاجة لسرد قصته لدرء التهمة عنا! كما يعني، وهذا هو المهم، ان ما قام به الطائي لم يكن امرا اعتياديا، فلو كان المجتمع الذي وقع فيه الكرم مجتمعا كريما أو قريبا منه، لما بقيت قصته عالقة في الأذهان كل هذا الوقت، مع كل ملابساتها التي لا شيء يؤكد حقيقة وقوعها بكل تفاصيلها، بل يعني ان الكرم كان، وربما لا يزال، أمرا نادر الحدوث، وهذه حقيقة ألمسها كثيرا في حياتنا اليومية، فنحن، بشكل عام، لسنا بكرماء، وما نجده من كرم يكون غالبا مقرونا بجانب ديني، فمن يكون كريما يتوقع أن يكون لكرمه مردود في صورة ثواب وأجر، وهو بالتالي كرم مشروط، وليس كرما نابعا من نفس لا تبتغي غاية أو رجاء غير خدمة المجتمع، اقول ذلك من واقع تجربتي الشخصية في جمع التبرعات للأغراض النبيلة والخيرة، حيث أعاني الكثير من رفض «أثرياء ومقتدرين» للمساهمة حتى بالقليل من المال في مشاريع عدة، فقط لأنها غير مخصصة لبناء مسجد أو طباعة كتب دينية أو حفر آبار وتدريس دعاة، وهنا أجد صدا! ولا انسى قصتي مع رجل أعمال قصدته للتبرع لمدرسة للمعاقين، حيث رفض طلبي فلم اتردد في أن أقول له إن رفضه نابع من منطلق ديني، وأنه يعتقد بأن ليس للمشروع أجر أو ثواب عند الله، فوافقني على قولي! وهذا عكس ما عايشته في سنوات غربتي، فالكرم هناك، وخاصة للأغراض الجميلة والنبيلة من مساعدة أطفال أو لبناء دار للعجزة أو للأوبرا، أو حتى أي مشروع ثقافي أو إنساني، أو مأوى للحيوانات الضالة أمر عادي ومنتشر كثيرا، وليس غريبا بالتالي ألا نجد بين جميع منظمات الإغاثة العاملة في مهام بالغة الإنسانية في الصومال وأفغانستان والسودان، غير الغربيين، وهي المناطق نفسها التي ساهم «إخوتهم واشقاؤهم في العقيدة واللغة» في تخريبها، وهذا التطوع هو أسمى درجات الكرم ونكران الذات.
أحمد الصراف