عندما جاء البولندي نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus عالم الفلك والرياضيات الشهير (1473 – 1543) ليفضح جهل البشرية جمعاء، وقبلهم كل من ادعى العلم والمعرفة، وقال إننا إن راقبنا نقطة في السماء بشكل جيد لوجدنا تفسيرا منطقيا لحركة الكواكب وشدة استضاءتها ومساراتها غير المفهومة، وأن الشمس هي مركز الكون، وأننا ندور حولها، وليس العكس، كما كان رجال الكنيسة في عهده يؤمنون، ولا يزال الكثير من أمثالهم يؤمنون. وأن كل النجوم والأجرام السماوية التي نراها تدور حول الأرض، هي في الواقع تبدو كذلك بسبب دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، أي إن معلوماتنا عن الأرض والأجرام السماوية ما هي إلا أوهام. أما الحقيقة فشيء مختلف تماماً.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تسنى لكوبرنيكوس أن يكون الوحيد في عصره، والأول في التاريخ البشري، الذي عرف تلك الحقيقة؟ والسؤال الآخر: ما حجم الأمور «الوهمية» الأخرى في حياة شعوب الدول المتخلفة، الذين طالما آمنوا بها كحقائق مطلقة، ثم أتى العلم ليثبت خطأهم، ومع هذا أصرّوا، في غالبيتهم، على رفض التخلي عن أفكارهم؟ لا شك أن الإجابة ستكون مقلقة، فالعلم، والعلم وحده، هو الذي أزال الغشاوة عن أبصارنا، وبيَّن لنا خطل الكثير من المعتقدات والمسلَّمات في حياتنا، أقول ذلك بالرغم من الحقيقة أن الغالبية اختارت «العمى والطرش» وتمسَّكت بخرافاتها حتى اللحظة. فالأرض بالنسبة لي مثلاً، وحتى ما قبل نصف قرن، كانت مسطحة، فعقلي الصغير، أو الساذج، لم يكن يستوعب أنها يمكن أن تكون كروية، إلا أن أحد الأساتذة في مدرسة الصديق سألنا يوما، في سعيه لإثبات كروية الأرض، عن سبب رؤيتنا لقمة سارية أي سفينة قادمة في البحر قبل رؤية جسمها الطافي، الأكبر حجماً والأكثر وضوحاً في شكله وألوانه؟
وكما ظلمت الكنيسة الكاثوليكية عام 1543 نيكولاس كوبرنيكوس، فإنها ظلمت من جاء بعده ليثبت ويؤكد نظرية أن الشمس مركز للكون، وهو الأمر الذي ظل محل نزاع وشك لمئتي عام تالية، فإنها ظلمت أيضا جاليليو جاليلي في عام 1610، الذي كتب مدافعا عن نظرية كوبرنيكوس، وهو ما تسبب في اتهامه بالهرطقة عام 1632، وتقديمه إلى محاكم التفتيش. وفي الفترة نفسها، تأثر عدد من العلماء الآخرين بكوبرنيكوس، من أمثال توماس ديجز وجوردانو برونو، بتوصلهم إلى أن الكون لا نهائي، أو على الأقل غير معروف إلى أي مدى هو ممتد، ودفعوا ثمن آرائهم غالياً. وظلت المعارضة «الدينية» لتلك النظريات حتى القرن السابع عشر الميلادي، حيث أصبحت مقبولة، بعد تعديلها بصورة جذرية، وبعد أن أتمّ إسحاق نيوتن عام 1687، نظرية كوبرنيكوس بأطروحته المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية التي قدّم فيها شرحاً فيزيائياً أظهر فيه أن الكواكب تظل في مداراتها بسبب قوى الجاذبية.
والسؤال الثالث: أين كانت مجتمعاتنا في السنوات 1543 و1910 أو حتى 1950؟ وما الذي يجري بين ظهرانينا على أيدي مجموعات متخلفة ومتطرفة دينيا من شذاذ الآفاق، من غربيين وشرقيين، تارة باسم داعش وأخرى باسم النقشبندية أو البعثية أو الإخونجية أو النصرة وعصائب أهل الحق وجيش المهدي وفيلق بدر، وغيرها من الفصائل المسلحة التي لا يتسع المجال لذكرها هنا؟ فهل نحن بحاجة لأن نؤكد، بالخسائر البشرية الهائلة، للعالم أجمع أننا لا نزال نعيش في فترة ما قبل كوبرنيكوس؟
أحمد الصراف