يبدو أن المرحوم الشيخ عبدالرحمن الكواكبي (مفكر وعلامة سوري ورائد من رواد التعليم، ومن رواد الحركة الإصلاحية العربية وكاتب ومؤلف ومحامٍ وفقيه شهير، وهو مؤلف الكتاب الفذ «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، توفي في العام 1902) يبدو أنه لا يعرف جيداً معنى «الاستبداد» ولا «الاستعباد»! كما يعرفه ويفقهه ويتقنه وعاظ السلاطين ومشايخ الحكومات ومثقفو السلطات وكتابها وفقهاؤها الذين وجدناهم في الماضي من السنين، ولاسيما في عام الثورات العربية (2011). يعرفون الاستبداد والاستعباد بمنظور أخرق جديد: «الشعوب هي المستبدة وهي الجائرة وهي الإرهابية»!
وحتى نشخص الخطأ الجسيم، بين فهم المرحوم الكواكبي للاستبداد والاستعباد، وبين تشخيص ومفهوم (بضع عباقرة وفطاحلة في عصرنا اليوم) من وعاظ سلاطين العرب وأبواقهم «الدينية» مع فارق 110 سنوات، دعونا أولاً نعرف من هو المستبد في نظر الكواكبي، فهو يقول: «المستبد (…) يرى نفسه كان إنساناً فصار إلهاً».
«كواكب» الحكومات المستبدة اليوم، إسلامية، عربية أم غيرها، ألا وهم الأبواق التي تسخر الدين وتتلاعب بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من طبقة «وعاظ السلاطين الخبيثة» لتخدير وخداع وتضليل الأمة، ينظرون إلى استبداد واستعباد منشأه ومصدره الشعوب التي تطالب بحقوقها وتدافع عن كيانها ووجودها. فهي – أي الشعوب – مستبدة وظالمة ومتآمرة وضالة، أما المستبدون فهم الضحايا والمساكين والمظلومون وممن يتوجب على الشعوب أن (يخفوا عليهم شوي… حرام).
هل الأمر مستغرب؟ أبداً، فقد سمعنا خطباً وتصريحات وفتاوى وصلت إلى حد أن يصف أحد المفتين حركات التحرر في الوطن العربي بأنها مؤامرة من أعداء الإسلام لنشر الفوضى في الدول العربية، وتوعد آخر بالنار والويل لمن يخرج حتى على الفسقة والدكتاتوريين من الحكام! وحرم آخر بشدة المظاهرات المطالبة بالحقوق، ولعل الكثير من القراء يتذكرون تلك المرأة الشهيرة المعالجة بالقرآن الكريم التي تواجدت خارج قاعة محاكمة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك ورفعت لافتة: «مبارك من نسل النبي (ص)، وهو من الذرية النبوية وجده مبارك له مقام في كفر مصيلحة، وأنه ظل مع السيد البدوي حتى وفاته»! فيما لم يتأخر آخر من مثقفي مبارك على قناة فضائية من إضافة عبارة (رضي الله عنه) حين يذكر المخلوع!
حين شخّص المرحوم الكواكبي داء الاستبداد السياسي، قبل أكثر من قرن، قال إن أقبح أنواعه استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويقول إن الله خلق الإنسان حراً قائده العقل فكفر وأبى إلا أن يكون عبداً قائده الجهل، ويرى أن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولد للاستبداد، ومضر بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه.
هنا، استعان المرحوم الكواكبي بجملة رائعة من بين ما تكلم به بعض الحكماء ولاسيما المتأخرين منهم في وصف الاستبداد ومنها: «المستبد يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم».
لكن الكواكبي في الوقت نفسه، يعرف دور علماء الأمة، فهو يقول إن «المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلها. والحق أبو البشر والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم إخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا، وإلا فيتصل نومهم بالموت»!
ولعل الكواكبي كان يرى من زمانه وقتذاك شاكلة وعاظ السلاطين اليوم فيقول: «تواسي فئة من أولئك المتعاظمين باسم الدين الأمة فتقول يا بؤساء: هذا قضاء من السماء لا مرد له، فالواجب تلقيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء، فاربطوا ألسنتكم عن اللغو والفضول، واربطوا قلوبكم بأهل السكينة والخمول، وإياكم والتدبير فإن الله غيور».