لم يعد قادراً على استذكار البطولات والصولات والجولات العتيدة التي جندل فيها الأبطال وصارع الأهوال وأطاح برؤوس الفرسان في الحروب التي خاضها… هو اليوم، متقاعد! محارب قديم كما يحلو له أن يسمي نفسه، غير أنه من المستعصي عليه أن يستذكر آخر حروبه… هل كانت في أفغانستان أم طاجيكستان أم كرازاكان أم قرقيزستان أم في جمهورية الخرفان التي كانت آخر معاقل قيود أسره قبل تحريره… ذاكرته لا تسعفه! وكلما حاول إنعاشها تصيبه الرجفة.
الكولونيل «عباسخوك» يقضي معظم وقته متحسراً على زمن البطولات الذي مضى… شعور مرير يدك فرائصه ويعصف به كلما راودته الرغبة في أن يحكي للناس واحدة من حكايا بطولاته! ينطلق لسانه في مستهل القصة، لكن سرعان ما تتبخر من رأسه بقية التفاصيل… فيرتجف ثم يرتجف ثم يبكي.
ذات يوم، زاره أحد رفاقه بينما كان يتسامر مع نفر من جيرانه… الكولونيل «عباسخوك» طار فرحاً حينما أبصر ذلك الرفيق يحث الخطى متجهاً صوبه… ههههههه… مرحى… أي ريح طيبة… هذا القادم صديق عزيز، وبطل من الأبطال… أسد من الأسود… باسل من البواسل الذين لا يشق لهم غبار… قام له معانقاً بالأحضان… لدقائق ظل الكولونيل «عباسخوك» معانقاً رفيقه ثم ارتجف وانخرط في بكاء أذهل صاحبه وأذهل من كان موجوداً في جلسة السمر!
ترى، ما الذي أبكى الكولونيل «عباسخوك»؟ أهي الفرحة التي فاقت الوصف وهو يرى واحداً ممن تمنت روحه رؤيتهم قبل أن تروح؟ أم أن هول المفاجأة السارة جعلته يشعر بموجة من الغبطة تجاوزت مقدرته على الصمود فانصهر قلبه وجرت دموعه وعلا صراخه؟
عبثاً حاول ذلك الضيف القادم تهدئته… لكن الكولونيل يبكي ويبكي! أحضروا له شربة ماء باردة… شربها ولم يتوقف عن البكاء سوى لحظات ارتشافه الماء! أجلسوه على متكأ مريح فصمت برهة، ثم انخرط من جديد في البكاء والعويل بصوت عال هذه المرة وهو يشير بسبابته إلى ذلك الضيف القادم!
هدئ من روعك يا كولونيل… لقد عهدناك صلباً مقداماً فارساً لا يشق له غبار؟ ثم ما الذي يبكيك؟ سأله ذلك الرفيق القادم من المجهول، وسط ذهول من تبقى من السمار… فأغلبهم ضج مما رأى وانسحب مغادراً المكان… لكن الكولونيل «عباسخوك» لم ينبس ببنت شفة! فقط كان عويله (الفجيع) يشق الأفق ويصل إلى أسماع الفضاء…
صمت رهيب حل على المكان فجأة… من شدة ذلك الصمت الذي أعقب عويلاً كاد يدمر حنجرة الكولونيل «عباسخوك»، كان من السهل على رفيقه الذي بقي وحيداً معه أن يسمع نباح الكلاب في الوادي القريب… الليل يمضي والصمت يضاعف سكون الليل وظلامه وحشة مع المحارب القديم…
فجأة انقلب الوضع! صورتان واضحتان تتصدران ذلك المشهد… هروب الرفيق الذي جاء زائراً حيث أطلق لقدميه الريح راكضاً بكل ما أوتي من قوة، أما الصورة الثانية، فقد هب الكولونيل «عباسخوك» واقفاً على قدميه ورقص رقصاً شديداً وهو يردد : «ردي علي فؤادي… تلعبين به».