أتفق على الدوام مع الرأي القائل أن الترويج لأكذوبة «الإنشطار والفتنة الطائفية» في المجتمع البحريني ما هو إلا وسيلة لرفع درجة التأزيم وضرب السلم الاجتماعي، ولا أدل على سقوط تلك الأكذوبة من أن العلاقات بين أبناء الطائفتين الكريمتين، ممن تربطهم علاقات دينية وأخوية وإنسانية، كانت ولا تزال في حالها المبني على «الأخوة»، لكن هناك بلا شك حال رهيب من «الإنشطار» المشار إليه، وهو في حدوده يشمل في الأصل «الطائفيين، والمؤزمين، وذوي المصالح الفئوية المتاجرة بالصدام الطائفي»، وهؤلاء لا يمثلون الشريحة الأكبر من المجتمع، فهم ينشطون في المطابخ السرية للطائفية، ولم ينجحوا في ترويج تلك الأكذوبة، إلا بين أنفسهم وبين من يسير على منهجهم المريض.
قد يقول قائل : «ألا ترى ما حل بالمجتمع البحريني منذ يوم 14 فبراير 2011 حتى اليوم من علاقات بين الناس انهارت، وعداوات اشتعلت، وحراب ارتفعت في وجوه الأخوة؟»، وبالنسبة لي شخصياً لا أرى الانهيار، والعداوات، والحراب، إلا لدى من هو في الأصل طائفي بغيض لا يهمه «الوطن» واستقراراه -بأي شكل من الأشكال- قدر اهتمامه بأن يكون طرفاً في ضرب أي تقارب وعلاقات طيبة بين أبناء الطائفتين، لكن كل تلك المحاولات اليائسة، لم تفعل فعلها إلا في قلوب من يتلذذ بمشهد الصدام الأهلي، وهذا ما لم ولن يحدث إلا في مخيلة التهويل الإعلامي بكل وسائله، وهو إعلام في حقيقته مأجور.
على مستوى الوطن العربي والإسلامي، لن يتوقف عمل «المطابخ السرية» المصنعة للفتن الطائفية، ولعلني استحضر قول سماحة العلامة السيد عبدالله الغريفي في حديث له بمسجد الإمام الصادق (ع) بالقفول حين قدَّم طرحاً موجزاً مقدمته تقول :» الطائفية خطرٌ مرعبٌ، إذا اشتعلت نارُها أحرقت كلَّ شيئٍ على الأرضِ، ولم تبقِ أخضرَ ولا يابسًا، ولم توفِّر أمنًا ولا أمانًا، ولم تحفظ أرواحًا، ولا أموالاً، ولا أعراضًا… وإنَّنا ندين كلَّ الخطابات الطائفية التي تمزِّق وحدة الشعوب، وتوقد نيران الأحقاد والعداوات، ونأسف كلَّ الأسف، رغم كلِّ مواقفنا الواضحة كلَّ الوضوح في التصدِّي لكلِّ المشروعات الطائفية، ورغم ما عانينا واكتوينا بنيرانها».
ولخطورة «المطابخ السرية» للطائفية في الأمة الإسلامية، يحق للمرء أن يتساءل :من هم صناع الطائفية في أوطاننا؟، وبالضبط هذا هو السؤال الذي أجاب عليه العلامة الغريفي في حديثه، إذ أشار إلى ثلاث جهات، الجهة الأولى: القوة الكافرةُ المعاديةُ لمصالح هذه الأوطان، والطامعة في استثمار خيراتها، والسيطرة على ثرواتها، وعلى شعوبها، وعلى كلِّ أوضاعها السِّياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية، فمن مصلحة هذه القوى أن تبقى أوطاننا ضعيفةً، مسلوبةَ الإرادة، ممزَّقة القوى، وهكذا يعتمدون تغذية الطائفية وسيلةً من وسائلهم في الهيمنة والسيطرة وفرضِ النفوذ.
أما الجهة الثانية التي تدخل ضمن صناع الطائفية في البلاد الإسلامية والعربية، فقد عرَّفها العلامة الغريفي بأنها الأنظمة المستبدة فمن صالح هذه الأنظمة أن تتصارع الطوائف والمكوِّنات والأحزاب والمجموعات، ليوفِّر ذلك مناخات السيطرة، وليشغل الجماهير بصراعاتِها عن محاسبة سياساتِها، فمتى ما توحَّدت إرادات الشعوب شكَّل ذلك خطرًا عليها…
وهكذا تصرُّ هذه الأنظمة على إنتاج الصراعات الطائفية في داخلِ الأوطانِ مستخدمةً شتَّى الطرق والوسائل، ولعلَّ منها ممارسة سياسات التمييز المكشوفة أو المتسترة، أو القيام بأعمال تعبِّر بوضوحٍ عن (استهدافاتٍ طائفية)، وكثيرًا ما تحرِّك هذه الأنظمة وسائل إعلامها من تلفازاتٍ وإذاعاتٍ، وصحافة، وأقلامٍ موظَّفةٍ لكي تمارس شحنًا طائفيًا مكشوفًا، وهذا ما يتنافى كلَّ التنافي مع رسالة هذه الوسائل في صنع المحبَّة والألفة، والوحدة بين مكوِّنات الشعوب، لا أنْ تغذِّى الصراعات والعداوات والخلافات خدمةً لمصالح الأنظمة الحاكمة المسكونة بنزعات طائفية مقيتة…
وماذا عن الجهة الثالثة؟ تلك هي التي حددها العلامة الغريفي بالقول :«منابر دينية تمارسُ خطاباتٍ تغذِّي الطائفية والكراهية بين مكوِّنات الشعوب، استجابة لإملاءات الأنظمة الحاكمة، أو بدافع العصبيَّات المسكونة في النفوس، أو تعبيرًا عن جهالاتٍ وحماقاتٍ مسيطرة على العقول، وهكذا تتنكَّر هذه المنابر لأهداف الدِّين، وتتحوَّل مواقع للفتن الطائفية، والعداوات المذهبية، وعلى مرأى ومسمع من أنظمة الحكم التي لا تحرِّك ساكنًا، من أجل إيقاف اعتداءاتٍ سافرةٍ بين طوائف ومذاهب ومكوِّنات».
كان حديث العلامة الغريفي صريحاً، ذلك «إنَّنا ندين كلَّ الخطابات الطائفية التي تمزِّق وحدة الشعوب، وتوقد نيران الأحقاد والعداوات، ونأسف كلَّ الأسف، رغم كلِّ مواقفنا الواضحة كلَّ الوضوح في التصدِّي لكلِّ المشروعات الطائفية، ورغم ما عانينا واكتوينا بنيرانها»، (انتهى الإقتباس)، غير أنه من الأهمية بمكان التأكيد على أن تطبيق القانون لا يجب أن يستثني أحداً بصيغة الكيل بمكيالين اتجاه كل الأطراف الطائفية! فلا يصح أن يُستهدف خطيب، أو ناشط، أو سياسي، أو مثقف، أو كائن من يكون بدعوى إثارة الطائفية، ويلوى القانون ليغض الطرف عن آخرين اشتهروا على مدى سنين بتأجيج المشاعر، وشتم هذه الطائفة أو تلك بأرذل الأوصاف، وارتفعت أصواتهم القبيحة بتشجيع كل الممارسات العنصرية المدمرة. حين يُطبق القانون على الجميع بعدالة، حينها فقط، تبرهن الدولة على أنها ضد الطائفية، أما دون ذلك، ووفق معايير طائفية مقصودة، فإن الدولة تصبح طرفاً في فتح الباب على مصراعيه للطائفيين، وهذا ما صدق في وصفه العلامة الغريفي :«خطر مرعب».