لا تملك إلا أن تنحني إجلالاً لهم… ولو سنحت الفرصة لتقبيل جباههم وأيديهم، ففي ذلك أصدق تعبير عن التقدير والثناء والاحترام. هؤلاء الذين أقصدهم هم البحرينيون الذين لم يخضعوا لليأس وقساوة الظروف وضراوة الاستهداف والتضييق على لقمة العيش.
بالتأكيد، هناك قصص ملهمة وحكايات مفعمة بالأمل لهذه النماذج التي ربما نعجز عن رصدها وحصرها، لكن من بين كل تلك القصص المشرفة للبحرينيين الذين تحدّوا «الهمّ»، قصة رجل جاوز الأربعين من العمر، فبعد أن وجد نفسه بلا وظيفة، والالتزامات المالية تلاحقه من كل مكان، توكل على الله سبحانه وتعالى وأصر على أن يتحدى ظروفه القاهرة. فمهما زاد ظلم بني البشر، فإن عدالة الله جل وعلا وإرادته وتوفيقه فوق كل شيء. هل تتذكرون تلك العبارة الرائعة :»لا تقل يا رب عندي (هم) كبير.. قل يا (هم) عندي رب كبير».
تعرفت على ذلك المواطن أول مرة وهو يبيع الملابس الجاهزة في أحد الأسواق الشعبية المتنقلة، وككل البحرينيين الأصيلين الطيبين، تعلو وجهه الابتسامة وتنطلق على لسانه أجمل كلمات الترحيب وحلو الحديث.
بعد أن تعرض للفصل «ظلماً»، شعر بالكثير من الأسى والغبن، لكن كل ذلك لم يمنعه من أن يواصل دربه في الحياة، فأسرته تنتظر من عائلها لقمة العيش الحلال، وذخر المستقبل… عياله، لابد أن يحصلوا على أفضل تعليم مهما كلف الأمر، فهو يشعر بالكثير من الحزن والكمد وهو يرى أبناء بعض الأسر وقد تركوا مقاعد الدراسة في أي مرحلة من المراحل الدراسية.
والجميل في قصة هذا الرجل، وهذه رسالة إلى كل معاول الطائفية، أن ذلك المواطن «الشيعي»، بدأ مشروعه البسيط بدعمٍ مالي من أحد معارفه من الطائفة «السنية» الكريمة… بل وعرفه الأخير بأحد تجار الملابس في المنطقة الشرقية ليبتاع منه البضاعة بأفضل سعر، وكتب الله له التوفيق في تجارته الصغيرة التي عوّضه الله بها عن وظيفته السابقة.
والجميل أيضاً، أن بعض المفصولين ممن اشتغلوا بالبيع في الأسواق الشعبية المتنقلة، يقدمون نموذجاً حقيقياً لأواصر المحبة بين البحرينيين، فهم يساندون بعضهم بعضاً، ويقفون مع المتعثر منهم ليواصل دربه ويكسب قوته وقوت عياله، وكم كان جميلاً التقاء هذه النماذج من البحرينيين، من الطائفتين الكريمتين، في معرض «ارتقاء» التجاري في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2013 في مجمع «الكاونتري مول»، تحت رعاية محافظ الشمالية، أليس أمثال هؤلاء يستحقون أن نكتب قصصهم بحروفٍ من ذهب؟
سؤال: «هل يمكن أن يتفق أفراد أسرة كاملة… الأب والأم والأبناء، على أن يغيّروا وضعهم المعيشي السيء ويعملون جميعاً كل حسب قدرته؟»، هذا ممكنٌ بالنسبة لمن يمتلك الإرادة القوية والصبر، وقبل كل ذلك، صدق التوكّل على الله سبحانه وتعالى. فها هي أسرة بحرينية وزعت مهام كسب الرزق على أفرادها. فالأب المفصول لم يقف مكتوف الأيدي، وساندته في ذلك زوجته وأبناؤه. الإثنان، الأب والأم، يجهزان المأكولات لولائم الزبائن، وأحد الأبناء يتولى ترتيبات التوصيل وهو طالب جامعي، أما البنات الثلاث فهن يعملن في التجميل المنزلي.
وأجمل ما في هذه القصة البحرينية… أن لدى الأسرة زبائن من كل مناطق البحرين. يتعامل معهم زبائن من الرفاع تماماً كما تأتيهم طلبات من سترة. وحقيقة، إذا أردنا أن نفهم عمق العلاقة بين أهل البحرين، سيلزمنا أن ندرك أمراً مهماً… فليس الإعلام الطائفي السيء، وليست جيوش وسائل التواصل الاجتماعي التي تنفخ في النار، وليس أصحاب الوجوه الدينية العاشقة للفتنة هم من يقرّرون. القرار، شاء من سعى لقطع الأرزاق وإثارة الفتنة أم أبى، هو قرارٌ من موزّع الأرزاق… هو الرزاق الكريم، فقد يتمكن مثيرو الفتنة من تأجيج مشاعر البعض بعملهم الشيطاني الخبيث، لكنهم لن ينجحوا في ذلك إلا في حدود من يسير معه في ذات مسار الدناءة.
قبل أيام، تشرّفت بزيارة النبي الأكرم محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، في المدينة المنورة، فكانت صدفةً من أجمل الصدف أن ألتقي بأحد البحرينيين الذي استطاع بأخلاقه الطيبة وأسلوبه النبيل أن يكوّن شبكةً من العلاقات مع إدارات مجموعة من فنادق المدينة ليعمل وسيطاً لحجوزات الفنادق وترتيب الجولات وخدمات الزائرين، حتى أن الكثير من أصحاب الحملات من الطائفتين الكريمتين أصبحوا يعتمدون عليه في ترتيب حجوزاتهم وحل المشاكل التي قد تطرأ أثناء الزيارة، فهذا المواطن البحريني الأصيل لم يخضع لليأس ويكتفي بالبكاء على سوء المنقلب، فتجاوز كل العقبات وواجه الهموم بروحٍ وثّابةٍ ملؤها الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى يكتب التوفيق والسداد لعباده المتوكلين عليه… أليست هذه نماذج تستحق أن ننحني إجلالاً لها ونقبل جباهها وأيديها؟