تتشابك ملفات الإقليم على كل صعيد. فمعركة تكريت لن تنتهي حتى لو سقطت البلدة، لأن تصاعد الدور الإيراني عبر الميليشيات الآتية من بغداد على حساب الدولة العراقية لن يفعل سوى تأجيج المكون السني، كما أن غياب الفعل السياسي لوقف القتل وسفك الدماء بحق المواطنين السوريين لن يؤدي إلا إلى زيادة قدرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على إعادة ترتيب الحشد من مناطق أخرى في سورية والعراق. فمواجهة عنف «داعش» من دون مواجهة المسببات والعوامل المحيطة، ستسهم في إعادة توليد الظاهرة عند أول منعطف.
وفي الحالين السورية والعراقية لا يوجد حل عسكري، بل توجد فرص تغير في ميزان القوى بما يساعد على التفاوض وبما يؤدي لترتيب انتقال سياسي يحترم الكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية لكل مواطن وجماعة ويعزل من سببوا حمامات الدم. هذا إن افترضنا أن الدول ستبقى وحدة واحدة. فالصراع الذي يدفع ثمنه مواطنون أبرياء شيعة وسنة ودروز وعلويون وأكراد ومسيحيون وغيرهم، هو في الجوهر صراع سياسي واجتماعي وطبقي وصراع ضد الاستبداد يتطلب إيقافه عبر تحولات سياسية وحقوقية.
لهذا فالقضاء على التطرف يحتاج إلى حوارات وسعي إلى مخاطبة الحاضنة المهمشة والمتألمة والمهجرة في كل من سورية والعراق، فهذه الحواضن تواجه حرب إبادة وحرق قرى وتصفيات وقتلاً عشوائياً وبراميل متفجرة. وفي سورية بدأ كل شيء في ظل ثورة قام بها ثوار سلميون، لكن الحل الأمني الذي سعى إليه النظام شكل الخطوة الأهم في المشهد الذي تلاه.
ولسوء حظ النظام العربي التقليدي، تمر الشعوب العربية بمرحلة تحول لا يستطيع أي من الأنظمة مواجهتها بلا إصلاحات وتعديلات جوهرية، وما مواجهتها بالتمسك بالسقف القديم إلا وسيلة للتأجيج والاشتعال المشوه. فالتاريخ يتحرك خارج إرادتنا، والمجتمعات لا تتجمد تحت سقف لفترات طويلة، ولو لم يكتشف مجتمع طريق الخروج من سقف صغر عليه سيشعر أنه حبيس التاريخ، ومن هنا تكتسب صرخة الحرية في هذا المجتمع مضامين جديدة.
لا يمكن وصف التاريخ بسلسلة أحداث مبهمة وغير متصلة، بل إنه سلسلة لا تتوقف من هدم لأسقف وتشييد لأسقف جديدة. هكذا كانت نتائج الثورة الصناعية والثورات الفرنسية والروسية والصينية والإيرانية، وكذلك الاكتشافات العلمية والثورة الأميركية وثورة التنوير وإصلاحات مارتن لوثر الدينية أو حتى الثورة الإسلامية الأولى بقيادة الرسول وثورة المسيحية وغيرها. المجتمع الذي يفشل في كسر سقفه ليتأقلم مع نموه وتطوره ونشوء طبقات وفئات جديدة في قوالبه سرعان ما يتفكك وينهار وتخرج مشكلاته عن السيطرة وتتحول إلى كل مكان (الجهاديون مثالاً). والمجتمع الذي يمر بما نمر به من جنون العنف، هو مجتمع يبحث عن مخرج لم يجده حتى الآن، ولن يستقر بلا اكتشاف مخرج.
يختلف هذا الزمن لأن المنطقة العربية تجاوزت سقفها الموضوع من قبل نخبها وقياداتها في المرحلة السابقة. فحراك الشارع العربي نحو التغيير هدفه تغيير أجزاء أساسية من سقف تحول إلى مانع أمام التطور والنمو. وعدم استيعاب هذا البعد من قبل النخب السياسية والقادة يحرم الشارع من القيادة السياسية التي تستوعب التغيير والتأقلم مع آفاقه. فغياب القدرة على توجيه حراك الشارع نحو الإصلاح (باستثناء المغرب وتونس) أسهم في ظاهرة الدول العربية الفاشلة والمنهارة.
لأسباب تتعلق بتشخيص الربيع العربي بصورة سطحية بصفته مؤامرة خارجية دولية، انتهت دول عربية عدة إلى اتباع سياسة عبثية تعود عليها بالتدمير والتشويه. ولهذا بالتحديد هناك الآن دول عربية لا تسيطر على أراضيها ولا على أجزاء من حدودها، بينما ضمن مناطق سيادتها النظرية جيوش عدة وميليشيات متصادمة. أصبحت الدولة المركزية في مناطق محددة رهينة قوى خارجية وميليشيات محلية. وفي وضع كهذا تبدأ حاضنة الدولة الاجتماعية وحاضنة المعارضة الاجتماعية تدفع الثمن الأكبر. ومن صفات الدولة الفاشلة نمو في معدلات الجريمة وسقوط الاقتصاد وتراجع العملة وتآكل دور القضاء والمؤسسات.
في هذا المشهد تبدو الدولة العربية مستعدة لتفضيل حالة «الدولة الفاشلة» على إجراء إصلاحات سياسية تسمح باقتسام السلطة في ظل سقف جديد. هذا تشخيص لحال كل من العراق وسورية واليمن وليبيا، أما الحال المصرية فلم تدخل هذا النفق تماماً، وإن كانت تبدو في الطريق إليه لو استمرت في سياسة مقاومة التغيير وسوء قراءة المرحلة.
ولا يمكن استثناء دول الخليج من هذا الوضع بسبب الوفرة المالية التي تؤجل الكثير من المطالبات، فبعض الإرهاصات المذكورة قائمة، والمأزق في الكويت وفي البحرين في جانب منه تعبير عن حال التغيير التي تزداد عمقاً في الوعي المجتمعي. إن بعض التغيرات في السياسة السعودية الرسمية تعبير عن سعي جديد إلى التأقلم مع طبيعة المرحلة.
إن التمدد الإيراني في الإقليم العربي عبّر عن انشغال الإقليم بصراعات جانبية ضد قوى التغيير وضد التيارات المستقلة في باطن المجتمع (التيار الإسلامي وتيارات الناشطين)، بل عبر عن التزام عدد من الدول بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء في المرحلة التي تلت 2011 في ما عرف بـ «الثورة المضادة». فقد أدت «الثورة المضادة» إلى الفوضى التي تشهدها المنطقة لأنها أسهمت في فوضى اليمن (دعم علي عبدالله صالح) وليبيا ومصر وسورية والعراق. كما أسهمت بنشر التطرف في الشارع. وهذا يعني أن الصراع ضد الحريات وضد المساحة العامة والتعبير وملاحقة التيار الإسلامي في بعض الدول العربية والسكوت عن المجازر الإسرائيلية بحق غزة (ودعمها ضمناً) أسهمت بصورة مباشرة في التطرف وفي تقوية إيران واختراقها للعمق العربي.
وتبدو مصر أفضل من غيرها في ظل «الثورة المضادة» بعد ثورتها العظيمة، فالدولة لم تسقط ولم تتحول إلى دولة فاشلة، وهي تمسك بحدودها وتسعى إلى بناء وضعها. لكنها لم تدخل حتى اللحظة مرحلة الاستقرار بسبب عدم تجانس نخبها مع التحول الأوسع منذ الثورة. وإن كان الانقسام وسياسة غلق المساحة العامة يهددان مصر بالعودة إلى المربع نفسه الذي كانت تعيش فيه قبل وقوع الانقلاب المدعوم شعبياً في تموز (يوليو) 2013.
وفي مصر الآن انقسامات عدة وسلسلة صراعات. فهناك انقسام في صفوف النظام نفسه مما يفسر التسريبات وقيام المحاكم بإصدار أحكام تضر بالرئيس عبدالفتاح السيسي كالموقف من «حماس» ووقف الانتخابات المقررة هذا الشهر لمجلس الشعب. يتضح أن هناك في «الدولة العميقة» تياراً أميل إلى تصفية المختلفين معه، وقد يكون لهذا التيار مناصرون وممولون خارج مصر. هذا التيار يريد المعركة حتى النهاية، بينما سيجد الرئيس السيسي أن له كل المصلحة السياسية في الوصول إلى حلول تسمح بتسويات قبل فوات الأوان. تيار الصقور في القضاء والأجهزة والمؤسسات الأمنية المصرية ماضٍ في معركته حتى النهاية لأنه يعتقد بأن أي حل سياسي مع التيار المعارض سيكون على حسابه وسيجره إلى المحاسبة. ولهذا تأتي سرعة إعادة تأهيل نظام حسني مبارك والإعفاءات القضائية، وآخرها براءة وزير الداخلية السابق حبيب العادلي.
من جهة أخرى، يزداد وضع الشارع المصري تأزماً، ويعي الرئيس السيسي أنه في منطقة الخطر بين متناقضات عدة، لهذا فإن حديثه عن تلافي موجة ثورية أخيراً يعكس تخوفات لها ما يبررها على أرض الواقع. فهناك في مصر أزمة اقتصادية خانقة وفقر يجعل 63 في المئة من سكان القاهرة من قاطني العشوائيات التي لا تمتلك الحد الأدنى من الخدمات، وتتداخل حال القاهرة مع ضعف وتهالك مؤسسات الدولة واختفاء هامش الحريات. مصر في مأزق يعود إلى إقصاء التيار المدني الأكبر في تاريخ مصر وهو التيار الإسلامي والقوى الثورية، فهذا الإقصاء بإمكانه أن يستمر لمدة، لكنه سيزيد الأوضاع سوءاً وتطرفاً وفوضوية. ففي جانب أساسي لا يزال الصراع في مصر قائماً على مكانة الجيش في الاقتصاد ومكانة المؤسسة الأمنية في الحياة السياسية ومكانة القوى المدنية المهمشة في الدولة والحكم، ومشروع الدولة وطبيعة السقف الجديد الذي تحتاجه مصر سياسياً واقتصادياً لتنطلق. لكن حتى اللحظة تبدو مقاومة التغيير هي المشهد الأساس في مصر.
في المرحلة المقبلة سيستمر السعي إلى التغيير بوسائل سلمية في دول عدة، كما سيستمر العنف ويتصاعد في مناطق مختلفة. لكن «الثورة المضادة» في طريقها إلى التآكل، ومرحلة من التسويات والمساحات الجديدة في طريقها لفرض نفسها بين فئات متناقضة في أكثر من مكان. في كل نظام سياسي عربي يوجد تيار إقصائي وآخر مختلف عنه يريد التأقلم مع المرحلة التاريخية العربية الجديدة، وفي كل شارع عربي يوجد تيار مدني ديموقراطي بل وإسلامي مدني قابل للتطور نحو مبادئ التداول على السلطة واحترام الاختلاف. لكن من جهة أخرى يوجد في كل شارع تيار للصقور يسعى إلى العنف ونشر التطرف.
إن تقدم العرب في المرحلة المقبلة، بما في ذلك إغلاق ثغرات فتحتها إيران في العواصم العربية يتطلب تلاقي تيار الإصلاح في الأنظمة مع تيار الإصلاح والعدالة والحقوق في الشارع العربي. عندما يقع هذا التلاقي سينسج سقف جديد يسمح بتجديد مشروع الدولة في واقع عربي ملتهب