وضع محمد (صلى الله عليه وسلم)، في أول خطوة لبنائه الدولة الجديدة، حجر أساس «وثيقة المدينة»، وهي أول وثيقة دستورية مكتوبة في العالم، تستجمع لها كل خصائص وأركان ما نسميه «وثيقة دستورية» في وقتنا المعاصر. ولا بد أن نسجل وندرك عظمة الإسلام وعبقرية رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم)، في خطوة وضع هذه الوثيقة، إذ لم يقل ولم يكتف. محمد (صلى الله عليه وسلم) بأنه نبي الله ورسوله، وهو يتنزل عليه الوحي بالقرآن الكريم، ليكتفي، ويقول إن «القرآن دستورنا»، وإن سنتي هي «دستورنا»، كما ينحو البعض لذلك، بل إنه رغم كل ذلك وعلمه وفضله ومكانته، التي لا يضاهيها «عالم» في الإسلام ولا يجاريها «فَق.يه» ولا يبلغها «حاكم»، وضع «صحيفة المدينة»، معلناً أنها «مرجعية الدولة الجديدة»، أي دستورها، مدركاً أنه يقيم دولة مدنية في المدينة يجتمع فيها كل الناس وسيلتحقون بها، مما يحتم أن تكون لها وثيقة مرجعية تؤسس «سلطة سياسية»، وتتحدد فيها معالم إقليم «الأرض» التي تسري عليها أحكامها «المدينة»، وتعلن من خلالها «المواطنة»، وتترتب بها «الحقوق والواجبات العامة» للشعب والمواطن، فكانت «هي تلك الوثيقة الدستورية المبهرة التي سبق فيها الفكر الإنساني مئات السنين»، جاءت وثيقة طوعية بلا صراع ولا معاناة، بإيمان حاكم منصف، لا بتفضل ولا منّة، جاءت عادلة متوازنة شاملة لم تنتقص حقا، ولم تهمل دينا أو فئة أو أقلية، بل كانت مجارية للواقع ومتجاوبة مع أوضاعه، فهي للمسلم مثل الكافر واليهودي كما النصراني، وسكّان الأرض الأصليين كما المهاجرين، والعرب كما غير العرب، والرجال كما النساء، فكانت بحق دستور «دولة المدينة المدنية».
إن الفكر الدستوري المعاصر حينما يؤرخ لما يسمى الوثائق الدستورية يحدد أحد شرطين لوصفها كذلك، أن تقرر فيها «بعض الحقوق والحريات»، أو أن تقام فيها «سلطات منفصلة». وقد أشير في هذا الصدد إلى أن أول وثيقة دستورية مكتوبة عرفها العالم «الماجنا كارتا» Magna Charta، التي وضعت في إنكلترا عام 1215، وتضمنت بعض الحقوق والحريات والمشاركة الضريبية. كما يشار لبعض «ولايات أميركا» في الفترة ما بين 1760 – 1785، حيث وضعت هذه الولايات دساتير مكتوبة لها، ثم يتوج ذلك بدستور أميركا 1787، ويلحقه دستور فرنسا في 1791. كونها أولى الوثائق الدستورية المكتوبة التي عرفها العالم. وقد سار الفكر العربي والإسلامي مأخوذا بهذا «التأريخ» وسايره في كتاباته، حتى جاء عالم شاب لبناني في أواخر الستينات وهو د. ظافر القاسمي، تناول «صحيفة المدينة» باعتبارها تتوافر لها خصائص «الوثيقة الدستورية»، لكنه توفي، رحمة الله تعالى، ولم نقف على ما في ذهنه من تفصيلات أخرى، وعاد الفكر العربي والإسلامي على ما هو عليه من كتابات سابقة. وقد أشرت في دراستي عن «دور الدساتير في تحديد هوية المجتمعات» 1989 بمجلة الحقوق، الى ذلك ثم تدريسه لمقرر «نظام الحكم في الإسلام» بجامعة الكويت، وأشرت إليه بكتابات متفرقة بعدها.
One thought on “دولة المدينة المدنية (4): «صحيفة المدينة» أول وثيقة دستورية”