احتفالات ربعنا (البدو) بتخرج أبنائهم الضباط، من كليتي الجيش والشرطة، أعظم من احتفالات الجماهير الألمانية بالفوز بكأس العالم، وأعلى صخباً من احتفالات علماء «ناسا» بنجاح مهمتهم الأخيرة في كوكب المريخ… فرقة عرضة، وطبول، وطيران (بكسر الطاء وسحلها)، وذبايح، ومعازيم، وكروت دعوة، وإعلانات تهنئة، و«طقاقات» للنساء، ورقص «حتى الصباح الباكر»، على رأي اللمبي، ووو… ليلة كبيرة.
ويحصل شاب على درجة الدكتوراه، فلا تعلم أمه التي أنجبته وأرضعته. ويتباهى آخر بالحصول على درجة الماستر، فيشفق أقاربه عليه، ويمسحون على رأسه حزناً ويطبطبون على كتفه، ويذكّرونه أنه ما زال في ريعان شبابه، وأن المستقبل ما زال أمامه، وأن عدم حصوله على رتبة ضابط في الجيش أو في الشرطة ليست نهاية العالم، وأن فلاناً حصل على شهادة الماستر، واستطاع الالتحاق بالكلية العسكرية، وتخرج برتبة ضابط، لذا يمكنه، هو أيضاً، تدارك مستقبله والالتحاق بالكلية، والحصول على رتبة ضابط.
ويتلفت شقيقه، المتخرج حديثاً من كلية «إدارة أعمال» من جامعة بريطانية عريقة، فلا يجد أحداً حوله، ويطلب احتفالاً ولو بسيطاً، يسد به رمقه، فيقنعه أبوه: «تبي تفضحنا بين الناس؟»، فيدرك الشاب أنه ارتكب أمراً جللاً، فيحمل فضيحته معه، ويضع رأسه بين فخذيه، ويغطيه بيديه، وينزوي في الزاوية.
وعندما تخرجتُ من الكلية، كنت أحمل شهادتَي بكالوريوس، إحداهما في الهندسة، والأخرى في العلوم العسكرية، وأجزم جزماً لم يجزمه جازمٌ من قبل، أن غالبية معارفي لا تعلم أنني مهندس، أي والله. بل حتى بعض المسؤولين في مقر عملي، العسكري، لا يريدون أن «يخلطوا» الهندسة بالعسكرية، لذا قرروا أن أتدرج في الوحدات القتالية، بدءاً من قيادة فصيل مقاتل، مروراً بقيادة سرية مقاتلة، إلى آخر المشوار. وهكذا وجدت نفسي على الحدود العراقية، وحولي مدرعات ورشاشات وقذائف.
مجتمع غلبان، لكن غُلبه يكشف عن فساد مستشرٍ في هذا البلد، الذي يسود فيه منطق القوة، المتمثلة بالعسكرية، على منطق العقل، المتمثل بالهندسة وإدارة الأعمال وبقية التخصصات.