بعد أن استقرت ركائز دولة المدينة الجديدة، بدأت أولى خطوات بناء دولة مدنية متكاملة تلتزم مبادئ إسلامية وإنسانية وحياتية غير مسبوقة في تكريس فريد للدولة بمفهومها الصحيح، الذي أكد طبيعتها المدنية في شتى المناحي، وصارت نموذجاً للباحثين عن دولة الامن الشخصي والمشروعية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وسيادة القانون.
فقد كانت البداية في إعلان قيام الدولة، وتثبيت أركانها، فهو (صَلَّى اللهُ عَلَيْه. وسَلَّمَ) لم يتوانَ في تشييد أركان الدولة الجديدة، بتسخير كل الإمكانات المتاحة أمامها لتأمين ذلك، وقد تمثل ذلك في حزمة مترادفة من الاستراتيجيّات والقرارات والإجراءات. أما أولها فجاء بإحداث النقلة، حينما قام محمد (صلى الله عليه وسلم) بالتركيز على ثلاث خطوات متكاملة يعضد بعضها بعضاً في بلوغ ذلك. وذلك كله خلال الأشهر الأولى من السنة الأولى لقيام دوام المدينة المدنية، أولها تثبيت مركز المدينة للدولة الفتية (وهو ما نعبّر عنه بالعاصمة في اصطلاحنا المعاصر)، من خلال إقامته مسجده فيها ومساكنه، بل استجمع له إسلام أهلها من الأنصار، إلا قليلاً منهم، على ما جاء في رواية ابن إسحاق، فكانت تلك ركيزة أولى. وتبعها بخطوة مكملة بإقرار أهل المدينة على ما كانوا عليه، شريطة ولائهم وانتمائهم للدولة، وهو ما نعبّر عنه بالمواطنة التي بادر اليها محمد (صلى الله عليه وسلم). وأما الخطوة الثالثة، فكانت بوضع دستور مكتوب للدولة، يُعتبر – بحق – وثيقة دستورية بكل مفاهيمها وأبعادها التي نتحدث عنها في الدراسات الدستورية المعاصرة، وذلك بما عرف بـ«وثيقة المدنية»، التي تضمنت أهم المبادئ الدستورية لأي دولة قاطبة، مثل السلطة السياسية وهيمنتها على الدولة بالقول إن أي أمر مرده إلى الله تعالى وإلى محمد (صلى الله عليه وسلم)، أي الفصل به وفقاً لما شرعه الله تعالى وبما لنبيه محمد من سلطة رئاسة الدولة، وأتبعه بعبارة تؤكد أن ذلك يتم بلا ظلم أو إجحاف، والمواطنة بحقوقها وتبعاتها، وحقوق الناس أو الإنسان وضماناتها، واستكمال مقومات الشعب بكل مكوناته، بلا تمييز أو تفرقة، لأن ق.وام الدولة شعبها، وكذلك تثبيت الأرض أو إقليم الدولة بما ينفي مقولة إن الإسلام لا يعرف الدولة الإقليمية، وهو كذلك، بوثيقة مكتوبة وضعها محمد (صلى الله عليه وسلم)، فأورد فيها أن من قبل بالوثيقة وناصر أهلها أو لحق بهم (أي بالمدينة الدولة الجديدة) فإنهم جميعاً أمة واحدة من دون الناس.
وسنورد تفصيلا خاصّاً بنقاش الوثيقة الدستورية بجزء لاحق نفرده لها.
وتتجلى في ما سبق المظاهر الجوهرية لإقامة دولة ربانية في التزام قيمها ممزوجة بدولة مدنية متكاملة البنيان والكيان بالمدينة المنورة، لتكون أساساً مهمّاً للتوجهات الإيمانية والإنسانية والحياتية معاً للحركة المستقبلية، التي تسير نحوها هذه الدولة الفتية. فقد فتح الله تعالى على نبيه بكل تلك الموجبات وفضائلها لإقامة الدولة على أسس سليمة، مصحوبة بما اختُصّ به محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى جوار نبوته، من حكمة وحنكة لم يُنس.ه نهوضه برسالته، وأن يصدع بالدعوة كما أمر، أن يلازمها بما يتطلبه تشييد الكيان الدنيوي اللازم للتكامل معها وتأمين منعتها وكفالة وضمان حقوق شعبها، فكان لازماً أن يقيم دولة المدينة المدنية التي شيدها (صلى الله عليه وسلم) على نحو ما سبق إيراده.
اقرأ أيضاً:
دولة المدينة المدنية (4): «صحيفة المدينة» أول وثيقة دستورية
2 thoughts on “دولة المدينة المدنية (3)”