سبق أن كتبت قبل بضعة أشهر عن أسد هرب من حديقة الحيوانات البائسة في الكويت، بسبب سوء ظروف معيشة «الحيوان» فيها، وقاده سوء حظه للاختباء في مبنى «البلدية»، حيث اختفى بين مئات آلاف ملفاتها من دون أن يكتشف وجوده أحد. وكان يعيش على لحوم بعض المراجعين وموظفي إدارة الملفات، الذين كان يقودهم سوء حظهم الى مربضه. ولكن بعد ستة أشهر تم الكشف عن مكانه والقبض عليه خلال ساعات من نهشه لحم «فراش» البلدية التاريخي! فالفراش في البلدية ليس كأي فراش في العالم أجمع، فهو الذي يقوم بتنظيف الممرات والمكاتب والحمامات، وهو الذي يقوم بتوصيل الطلبات، وهو الذي يعرف كيف يجد الملفات المفقودة، وتقديم الشاي للمدير وضيوفه، ووضع المستندات في الملفات، وترتيب قضايا الرشوة ومن يقبض ومن يدفع، وهو ـــ بخلاف كل موظفي البلدية ـــ يحسب لغيابه ألف حساب، فإن غاب، غاب الإنجاز معه. أما أكثر وظائفه أهمية فتتمثل في كونه الشخص المناسب لتحميله مسؤولية أي خطأ يحدث في «البلدية». وبالتالي لم يشكل غياب عشرات الموظفين، الذين نهش الأسد لحومهم، مشكلة لأحد أو يثير غيابهم الانتباه، ولكن ما إن نهش الأسد لحم الفراش «العرد» حتى تبين ما خلقه غيابه من فراغ، مما اضطر الإدارة الى بذل قصارى جهدها للبحث عنه، وهكذا قادهم البحث الى مكان الأسد الغبي، وتمت إعادته الى حديقة الحيوان ولــ «البهدلة» فيها! ولو أنه لم يأكل لحم ذلك الفراش المسكين لبقي بين ملفات البلدية حتى اليوم.
أقول: تذكرت تلك القصة، وأنا اقرأ خبر اكتشاف وزير البلدية عن وجود «تلاعب» كبير فيها، وهذه المرة، وللمرة الألف، في الكفالات المصرفية التي تصدرها شركات النظافة، والمقاولون وأصحاب ورش البناء للبلدية، كضمان تنفيذ عمل ما، وان هناك أكثر من 45 ألف كفالة مصرفية لمصلحة البلدية، مر على بعضها سنوات طوال، تجدد سنويا او انتهت صلاحيتها ولم تجدد أو تستبدل بغيرها، كما أن بعضها تم تسييله او تسليمه لأصحابها، ليقوموا بإلغائها من دون ان تنتهي مسؤولية من اصدرها مع البلدية. وان الوزير قام بتشكيل لجنة لمراجعة أوضاع هذه الكفالات، ومعرفة مصير كل واحدة منها، ومن تلاعب بها.
ونود هنا أن نؤكد للسيد الوزير، من واقع خبرتنا المصرفية والعملية، أن عمل اللجنة سيأخذها لسنة 2025 من دون أن تتمكن من معرفة ما حدث بالفعل لعشرات آلاف الكفالات، وبالتالي من الأفضل تكليف بعض مكاتب المحاسبة المعتمدة للقيام بالمهمة.. فساعات العمل الحكومي، وطبيعة عمل البلدية بالذات، بما تشتهر به من فساد كبير، لا يمكن ان تسمحا لمن يعمل فيها بفضح جهة أخرى، وبالتالي من المهم اللجوء الى وسائل فحص وتدقيق أخرى غير تقليدية. وأكاد أجزم بأنه لو تم بالفعل معرفة حقيقة ما حدث لتلك الكفالات، أو من يقف وراء مخالفات البلدية وفسادها لأصبح نصف سكان الكويت اليوم امام النيابة العامة!