بعد أن هز رأسه حسرة، أطلق تنهيدة، أعقبها بجملة تؤنس وحشتها: “انظر ما الذي جلبته لنا ثورات الربيع العربي. كنا في أجمل أيامنا، فإذا بصباحاتنا تتحول إلى أنهار من الدم، والحرق، وأخبار المعتقلات والقضايا والبلايا والرزايا”.
قال ذلك لي، وهو يتوقع مني رداً، يدخلنا في جدل اعتدناه. لذا أردت أن أغيّر الخطة، فوافقته: “كلامك صحيح، كنا أفضل الشعوب، قبل ثورات الربيع، فلا امتهان لكرامة المواطن، ولا واسطة ولا محسوبيات، ولا سرقات لأموال الشعوب، ولا استضعاف للناس واستهزاء بهم… وكانت إسرائيل تبدّل ملابسها الداخلية كلما عقد المسؤولون العرب اجتماعاً، وكانت جامعاتنا وتعليمنا الأفضل في العالم، والشفافية تطاول باسقات النخيل، على رأي الشاعر فهد عافت، وكان الأكفأ يتبوأ المناصب من دون تقبيل يد ولا قدم…”.
أدرك هو أنني أسايره (أو أساخره، إن لم يغضب حراس اللغة)، فتبسم، فواصلت: “كانت شعوب الأرض، قبل ثورات الربيع العربي، تشعر بتقزمها أمام عملقتنا، وأمام قيمة المواطن العربي في وطنه… كانت شعوب الأرض، قبل ثورات الربيع العربي، تضرب بنا المثل حتى يسقط على ظهره مضرجاً بدمائه. كانت شعوب الكوكب تموت غيرة منا وكمداً، كل يوم وساعة… لا شك”.
لم أنتظر تعليقه. واصلت سيري: “وعندما نجحت ثورات الربيع، خشي علينا بعض العرب مخاطر الديمقراطية، فدفعوا النفيس ليعيدونا إلى حظيرة الأمن والأمان”.
قهقه، أو بذل جهداً ليقهقه، قبل أن يسألني: “دع السخرية يا رجل، وقل لي، من يعوّضنا كل هذه الدماء المراقة في الشوارع؟ هل كنا في حاجة إلى الدماء لكي نتقدم؟”، قلت: “لا طبعاً، كان المطلوب من الشعوب أن تكتب على ورقة (A4) مطالبها، المتضمنة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات وتبادل السلطة وما إلى ذلك، ثم يقوم أربعة من المواطنين بالتوقيع عليها، نيابة عن الشعوب، وتوضع الرسالة في صندوق البريد، فيقرأها المسؤولون، ويقولون وهم يهزون رؤوسهم بحنان: إذا كانت هذه رغبة شعوبنا، فلن نعرقلها. على بركة الله”، لكن أتعلم ما هي المشكلة؟ لم تجد الشعوب، للتوقيع على الورقة، إلا ثلاثة فقط، فقررت (الشعوب) أن تنثر دماءها ودماء أبنائها وأسرها في الشوارع، وتدخل المعتقلات برجليها، من باب التغيير وكسر الروتين وتجربة التعذيب.