برهنت السعودية خلال أيام من إعلان الميزانية الأولى لـ “رؤية السعودية 2030” و”التحول الوطني 2020″، بأنها تمتلك اقتصادا قويا عاود النمو أسرع من التوقعات. كان الترقب سيد الموقف بالنسبة للمجتمع السعودي، ليس فقط للكشف عن الميزانية بل أيضا للتعرف على مزيد من الإصلاحات الاقتصادية، في قلق من أن تطول الإصلاحات ميزانيتهم الخاصة أيضا. إلا أن الإعلان ترافق وبرنامج تعويض ذوي الدخل المنخفض والمتوسط لتجاوز تأثير الإصلاحات المعلنة في دخل هؤلاء، وهذه خطوة مهمة. ومن أبرز الإصلاحات الاقتصادية القادمة كان رفع أسعار الطاقة والوقود في بلد يستهلك الناس فيه ما يعادل ثلاثة أضعاف الاستهلاك العالمي. وقد تبدو معلومة مرعبة أعاد تأكيدها وزير الطاقة أخيرا، لكن حين تعرف الأسباب الرئيسة لذلك ينتفي العجب. صحيح أن البنزين كان أرخص من الماء في السعودية، لكن لم يكن ثمة بدائل لذلك الاستهلاك الفاحش بعد. ارتفاع هذا الاستهلاك يعود إلى عدم توافر شبكة مواصلات عامة داخل المدن وخارجها ؛ في بلد مترامي الأطراف، فخريطة السعودية شبه قارة، وتعادل مساحة تسع دول أوروبية مجتمعة معا: بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا والنمسا وسويسرا وبلجيكا والدنمارك.
والسيارات هي وسيلة النقل الرئيسة في المملكة حتى لنقل البضائع بين مدنها البعيدة. ولعل مساحة المملكة الشاسعة والتوسع العمراني الكبير في المدن الرئيسة خاصة من أسباب هذا الاستهلاك. والمسافات الطويلة بين المدن تحتاج إلى كثير من الوقود، سواء للتنقل الشخصي أو السياحي أو الديني. وهنا يبرز سؤال حول عدد المسافرين برا ليس فقط من المنطقة الشرقية إلى دول الخليج المجاورة من مواطنين ومقيمين، بل أيضا المسافرين من مواطنين ومقيمين من منطقة الرياض التي تبعد عن الشرقية نحو 400 كيلومتر انطلاقا إلى دول الخليج، وأسباب هذا السفر التي غالبها سياحي ترفيهي. وهنا بطبيعة الحال تتداخل الأمور مع أسبابها وحلولها.
وهناك هدر آخر، فالدعم الحكومي وتدني أسعار الوقود سبب ما يمكن تسميته بالاستهلاك “الجائر”. والآثار السلبية في الاقتصاد الوطني متعددة منها البيئية والاقتصادية، يتمثل ذلك في تكلفة الازدحام في المدن الرئيسة، أو حتى تهريب الوقود الرخيص المدعوم للدول المجاورة. رفع الأسعار قد يحد من زحمة الطرق وتلوث البيئة وهدر الثروات الاقتصادية، ولكن شريطة تأمين شبكة مواصلات عامة: القطارات بين المدن والمترو داخل المدن وحافلات بمواصفات عالية. لذا لا عجب أن يتزامن رفع أسعار الوقود في الربع الثالث من العام الجديد 2017 مع قرب إنجاز وتسارع تنفيذ شبكة القطارات؛ قطار الرياض وقطار الحرمين. لكن هذه البدائل لن تكون كافية بطبيعة الحال، وذلك لأهمية توافر بدائل وإعدادات أخرى مختلفة تلائم هذا التغيير لا تنحصر في الجانب الاقتصادي، فحسب بل منها اجتماعية كالترفيه وتصحيح البنية التحتية للشوارع لدعم فرصة تنقل الناس مشيا على الأقدام أو بالدراجات الهوائية القابلة للتأجير مع إغلاق مسار السيارات في المناطق المزدحمة في المدن الرئيسة خاصة، وتأسيس طرق حقيقية للمشاة.
نعم رفع أسعار الطاقة أحد أكثر الإصلاحات الاقتصادية السعودية حيوية لما له من تأثيرات وتداعيات يمكن تصورها، وذلك لأن الرهان الأكبر هو حتمية إعداد البنية التحتية للتغييرات المهمة على مستويات متعددة ومتداخلة اقتصادية واجتماعية وهيكلية وسياسية أيضا.