مضى نحو عامين وأكثر منذ أن هاجرت إلى تركيا، وفيها عرفت معنى “الفصول الأربعة”، التي لطالما قرأت عنها في كتب الدراسة. فقد أتيت من الكويت، التي يستحوذ عليها فصل الصيف، ويحتكرها لنفسه على مدى تسعة أشهر من السنة، ويترك الأشهر الثلاثة الباقية للفصول الثلاثة الأخرى، تتقاسمها فيما بينها أثناء غيابه، فيأخذ الشتاء ثلاثة أسابيع، وتكون حصة الربيع أسبوعين، والبقية تدخل في رصيد الخريف. وهكذا تكون الكويت بلد “الفصل وربع”.
أما هنا في تركيا، فالشتاء يأخذ حقه “كامل ومكمل”، لا ينقص منه مليم واحد، فتشاهده في شهر نوفمبر قادماً من هناك، ليدخل في غرفة تبديل الملابس استعداداً للمعركة، ويخرج إليك في شهر ديسمبر بالخوذة والدرع والرمح، فيجري حول الميدان للتسخين، إلى أن يدق جرس الخامس عشر من يناير، فيطلق صرخة مدوية مرعبة، يرتج لها الميدان ويهتز، فيلتزم الناس بيوتهم خوفاً وهلعاً، وتتمتم العجائز “اللهم سلّم سلّم”، وتلتحف الأرض لحافها الأبيض، ويجف ريق الأنهار والبحيرات والجداول، ويتجمد الدم في عروقها، ويسارع البعض، أو قل يغامر البعض فيخرج لينثر الحبوب فوق كل شاهق كي لا تموت الطيور جوعاً…
ثم ينتصف شهر فبراير، فيصرخ الشتاء وهو يلاعب سيفه كما كان يفعل عامر بن الطفيل: هل من مبارز؟ ولا مجيب، فيكرر: هل من مبارز؟ ولا مجيب. فينتصف شهر مارس، فيتمخطر الشتاء بين الصفوف، ثم يحيط فمه بكفيه، كمن ينادي ويطلق صيحة: يا لثارات شتاء الكويت… ثم يغادر بمهل.
يطل الناس وقتذاك برؤوسهم من الشبابيك، ويتلفتون يميناً ويساراً، ويسترقون السمع للتأكد من مغادرته المدينة، حتى إذا ثبت الخبر، نفثوا آهات الرعب من صدورهم، وتبادلوا التهاني، وتفقدوا خسائرهم. وللحديث عن الربيع والخريف هنا وقت آخر، فالربيع تحديداً، في الكويت، هو من يستحق أن يؤخذ ثأره.