أراقب ملصقات ومنشورات قديمة منتهية الصلاحية وهي في مجملها تمثل ذاكرة “الصحوة”، بعضها يقول: آلو! احذري التليفون يا فتاة الإسلام.. شبابنا والبلوتوث.. الإجهاز على التلفاز.. أو حتى إعلان صحافي يقول: مصدر مسؤول في وزارة البرق والبريد والهاتف: لا نية لإدخال هاتف الشاشة في المملكة.. ترافقه تحذيرات الدعاة النارية على منابر المساجد. كل ذلك تلاشى، والصحويون كما الناس تجاوزوا تلك المرحلة وتسابقوا على التلفاز والصحون الفضائية التي حاربوها، واختلطوا بالمذيعات والندوات، كما تسابقوا على أدوات التغريب في “السوشيال ميديا” وسافروا إلى ديار “الكفر”، وتصدرت صورهم في كل مكان بعدما حرضوا الناس دهرا على حرق تاريخهم من الصور. كل من واجه عاصفة الحداثة حطمته. كل من تحدى طوفان العصر هزمه. هكذا هي سنة الحياة والتغيير، لكن بقي مصطلح التغريب اللعبة المستمرة. ويقصد به غالبا تبني الثقافة الغربية بقيمها ونمط الحياة واللغة والملابس والتكنولوجيا والسياسات والاقتصاديات وغير ذلك من أنماط الحياة الغربية. لكننا لو أخذنا كل تفصيل على حدة، فمن يمكنه مقاومة ما يسمى بالتغريب هذا؟ التجمع البشري العالمي من شعوب وبلدان هو نوع من التكامل لهذا العالم. ولا يمكن افتراض غرب ببعد أحادي والحداثة هي ذاتها عرضة للتطور والتغير. ويبقى الشرط الأساس لتقدم المجتمعات هو في الإصغاء إلى صوت النخب.
ولا يمكن الزعم بأن الحضارة الإسلامية، مثل أي حضارة أخرى، كانت حضارة مغلقة، ناهيك عن أن تكون حضارة عربية صرفة واحدة مجردة. بل هي مزيج منفتح على العالم وثقافاته. الثقافة المحلية الاجتماعية شيء والاندماج في العالم والعصر الحديث شيء آخر. إذ لم يتخل الاسكتلنديون عن تنانيرهم المقلمة ولا الهولنديون عن أصالتهم وتراثهم العميق. لكن تبقى قيم الحداثة البوابة إلى التقدم البشري.
ترى المناوئين يرتدون الأطقم الغربية يسافرون إلى دول العالم ويركبون سيارات ألمانية ويغردون في “هاشتاقات تويترية” على أجهزة آيفون أمريكية عن خطر التغريب في سجال أبرز ما فيه تغذية الاستقطاب الفكري لصنع جبهة حرب تشرعن أهمية وجودهم واستمرار سطوتهم على المجتمع.
الحداثة كانت طريقا إلى النهضة الأوروبية، فيما كانت العلمنة مشروع مواجهة للكنيسة التي حاربت العلم. لكن التحديث لا يعني قطع العلاقة مع التاريخ فهذا غير ممكن. ولاسيما أن الدين لا يتناقض مع العلم وحقائق الحياة وسنن التغيير. والإسلام في عصر نهضته كحضارة لم يكن جامدا بل كان نموذجا للتناغم مع الحضارات جميعها. ويبقى التغيير الاجتماعي، بصفته مشروع تنمية اجتماعية، جزءا لا يتجزأ من عملية التنمية الاقتصادية والعكس. وليس فقط من جانب آلي بل من جوانب تتعلق بالسيكولوجية الاجتماعية أيضا، تماما كما ترتبط التنمية الاقتصادية بمجموعة القيم. كثير منا يناقش تخلف التنمية الاقتصادية دون دراسة وتحليل أو العمل على التنمية الاجتماعية كمعوق رئيس من معوقات التقدم الاقتصادي، وهي في مجملها عوامل داخلية سببها محاربو التنمية بكل أشكالها ما ينتج عن ذلك شخصيات اجتماعية تسلطية غير خلاقة. لا شك أن محاكاة التقدم الغربي التكنولوجي والإداري عملية صعبة وذلك بطبيعة الحال لاختلاف الهيكلية عنها في الدول النامية. وكل هذه التفاصيل لا يمكن عزلها عن السياق العام للمجتمع.