نعيش هذه الأيام الذكرى الخامسة للربيع العربي، الذي استعاد شيئا من الأمل عند الشعوب العربية بمستقبل جديد مشرق، وكان صدمة لكثير من الأنظمة العربية المهترئة والمترهلة، وتوابعها الذين كانوا يعتقدون أنهم باقون إلى أبد الآبدين، ولم يتصوروا إمكانية أن السقوط بهذه السهولة، لكن تبيّن أن تلك الأنظمة كانت تعيش خارج الزمن، ولم تستطع مسايرة التطورات الفكرية والتقنية للجيل الجديد، فاهتزت عند أول مواجهة مع هذا الجيل.
أربك الربيع العربي تلك الأنظمة وتوابعها شيئا من الوقت، لكن سرعان ما استطاعت أن تستوعب الصدمة، وترتب صفوفها، وتشكل تحالفات جديدة تضم بقايا الأنظمة الساقطة، والأنظمة التي تخشى على نفسها من أن تصلها موجة التغيير، بالإضافة إلى التيارات السياسية والمتنفذين الذين تضرروا من الربيع العربي ونتائجه التي جعلت الإسلاميين في صدارة المشهد وفق استحقاقات انتخابية شهد العالم بنزاهتها، فعادت تلك الأنظمة وتوابعها وحلفاؤها الجدد إلى المشهد والصدارة من خلال الثورة المضادة، وبصورة أكثر شراسة مما كانت عليه من قبل.
اعتمدت الثورة المضادة استراتيجية «رفع التكلفة» على أي محاولة لتغيير الأنظمة، حتى لا يتكرر مشهد الربيع العربي، وتقوم هذه الاستراتيجية على الإغراق في الدموية والعنف، وجر المجتمع للاحتراب الأهلي، وتقديم ذلك كنتيجة لمحاولة تغيير النظام، مستغلين ومضخمين بعض الأخطاء التي صاحبت محاولات التغيير، ليجعلوا الناس أمام خيارين، إما القبول بتلك الأنظمة رغم فسادها واستبدادها وفشلها في النهوض بدولها، وإما الفوضى والاقتتال الداخلي وترويع الآمنين، حتى تنزع الشعوب من رأسها فكرة التغيير بعد أن شاهدت تكلفته الباهظة!
اعتمدت استراتيجية الثورة المضادة على خطاب سياسي يجعل القضية الأمنية، والاستقرار بمفهومه «البوليسي» هو الأولوية القصوى، والذي ينحر كل قيم الدولة المدنية على أعتابه، كما اعتمدت على خطاب ديني يجعل الخروج على الحاكم من أكبر الكبائر، ويجب سد كل الذرائع التي قد تفضي إلى الخروج عليه مثل المسيرات والاعتصامات.. وحتى النقد العلني، كما اعتمد على دعايات إعلامية تعرض مشاهد الدمار والحرق، وصور الضحايا، لتربط كل ذلك بنتائج الربيع العربي، واعتمدت على إجراءات أمنية تجعل مجرد المعارضة السلمية مبرراً كافياً للقتل أو السحل أو السجن، ليخرج الإنسان العادي بصورة مشوّهة عن الربيع العربي، باعتباره كتلة من الشرور والآثام، وذنباً يجب التوبة والاستغفار منه.
هل انتهى المشهد، واستقرت الأمور للثورة المضادة؟ من الصعب الجزم بذلك، بل ربما يكون العكس هو الصحيح، فالثابت الوحيد في عالم السياسة هو التغيير، والأيام حبلى.. فلننتظر!