دول عدم الانحياز، التي رفضت الانضمام إلى أحد طرفي النزاع الأميركي- الروسي، عانت الأمرّين من النظام الأميركي، إذ تمَّت تصفية بعض قادتها، في حين أن آخرين ماتوا في ظروف مثيرة للشبهات.
فالصورة واضحة في إزالة الزعيم الغاني كوامي نكروما، ومقتل الزعيم الكونغولي المغدور باتريس لومومبا.
تيتو زعيم المجموعة كان موته طبيعياً، وكذلك نهرو الهندي… أما جمال عبدالناصر، فعلى الرغم مما قيل عن مؤامرة قتله، فإنه كان يعاني مرضاً قاتلاً في ذلك الوقت، إلا أن ما حدث من تغيير دموي مرعب في إندونيسيا، حين الإطاحة بحكم الرئيسة ميغاواتي سوكارنو، ومجيء سوهارتو، تجاوز كل أنواع التغييرات السياسية الدموية في التاريخ الحديث، وربما بما فيها مذابح ستالين المعروفة.
لكن، لماذا بقي ذلك سراً لا يعرفه أحد؟! مجازر الأرمن في تركيا أصبحت معروفة، على الرغم من التعتيم التركي عليها زمناً طويلاً.
سبب التعتيم على ما حدث في إندونيسيا يعود إلى أن الإخراج والتنفيذ أميركيان تماماً، ولم يشارك فيهما طرف آخر.
أول إشارة لهذه المأساة ظهرت في لفتة خاطفة لسيرة جدة الرئيس أوباما الأميركية البيضاء، التي كانت تعمل مترجمة في السفارة الأميركية في إندونيسيا، وكانت ابنتها الصغيرة معها، والتي تزوَّجت والد أوباما فيما بعد… فهذه الفتاة، من الجيل الأميركي الشاب الذي هاجر إلى الخارج لمساعدة الفقراء بالاعتماد على أنفسهم لمعيشتهم جيل الربيع الأميركي المبكر، الذي أوقف الحرب الفيتنامية.
في هذا الانقلاب الدموي، الذي تزعمه سوهارتو، بلغ العدد الرسمي للقتلى مليون شخص من الشيوعيين والوطنيين، وغيرهم من المحبين لتطوير بلدهم وحماية استقلالهم، بعد أن تحرروا من الاستعمار الهولندي والياباني والهيمنة الأميركية.
مؤخراً، ذهب صحافي أميركي إلى إندونيسيا يريد معرفة ما حدث، ففوجئ بأن هناك عدداً من الضباط الذين اشتركوا في هذه المجزرة لا يزالون أحياء، فتجرأ، كعادة بعض الصحافيين ذوي الضمير الحي، على اللقاء بهم، وتم ذلك، واستغرب كيف يتفاخر هؤلاء مبتسمين بما ارتكبوه بحق زملائهم في الحكم.
فمن يستطيع أن يتمرد على شرطي العالم الحُر؟!
وأخيراً، جاء المارد القادر على التحدي، فشباب الربيع الإندونيسي لا يعرف اليأس، ولا تنقصه الشجاعة، شباب الكرامة الإندونيسيون لم يخذلهم إبداعهم المعروف، واستطاعوا أن يسجلوا مكالمة بين رئيس المجلس، وهو أقوى شخصية في هذا النظام، مع رئيس شركة للتنقيب عن المعادن، يطلب منه رشوة بمقدار ثلاثة بلايين دولار- ليس ملايين بل بلايين- مقابل تجديد مدة العقد الذي سينتهي قريباً.
الشباب سجلوا وأذاعوا المكالمة، وجاء قضاة ذوو ضمائر حيَّة لمحاسبته، وهذه هدية شباب الربيع الإندونيسي لكل المشككين المتسائلين عن هوية هؤلاء، فوصفوهم بالفوضويين والعملاء للصهيونية والمخابرات الأميركية، لعمى في عيونهم، وجهل في عقولهم، وعدم قدرتهم على فهم طبيعة الربيع العالمي، لأنهم لا يزالون يستعملون أدوات التحليل البالية التي ورثوها من الثقافة العالمية البائسة.
ثقافة القطيع الذي يفتش عن قائد أو زعيم ينقذه من البؤس الذي هو فيه… ثقافة مَن فقد الكرامة ورضي بالطاعة والعبودية.
إلى أين؟ إلى رحاب ربيع عالمي، تجنَّد فيه الإمكانات البشرية والعلمية لخدمة البشرية جمعاء، متى؟ لا أحد يدري، فالطريق طويل والمطبات كثيرة، لكن النهاية السعيدة حتميَّة.
دعوني أعطي مثالاً حياً، الشباب الروماني الذي أطاح تشاوتشيسكو المتوحش لم يستطيعوا أن يتسلموا الحُكم لقلة عددهم، فأيَّدوا حزباً يسارياً اعتقدوا أنه البديل… وأخيراً اتضح أنه بديل فاسد، فحادثة الملهى الذي احترق وقتل العشرات كانت الشرارة في تجديد عمل هؤلاء الشباب، وها هم يطيحون الفاسدين الجدد، وسيستمر ذلك، حتى يقيموا نظامهم، مهما طال الزمن.