لا يمكن لمهتم بالإعلام السياسي، ولا سيما الغربي أن يغفل ملاحظة التغير اللافت في الاهتمام الإيراني بالحرب الإعلامية. إيران تنبهت إلى الإعلامين المحلي والخارجي معا، سواء من خلال الظهور والهجوم وإيصال رسائلها إلى المجتمع الدولي، أو من خلال حملات العلاقات العامة الضخمة. هل يعني أنها نجحت في تسويق نفسها دوليا؟ لا يمكن قياس ذلك قطعا على مستوى استشعاري. لكن ما يمكن ملاحظته نظريا وبلا شك هو الهجوم الممنهج ضد السعودية. كل ذلك إضافة إلى حملات تسويق وتلميع تبدو واضحة ولا سيما في أمريكا وبريطانيا. وبدا وضوحها في الأشهر التي تزامنت ومفاوضات الاتفاق النووي الإيراني. خلال عقود، لم يشهد العالم لإيران ذلك الحضور الإعلامي الجيد. بل كانت الصورة الإعلامية لإيران في الغرب متلازمة وشخصية السيدة النزقة، المتمردة، المنعزلة، ذات السياسات الخارجة عن القانون التي لا يريد أن يقترب منها أحد. لم يتغير شيء كبير في سياسات طهران، لا شك في ذلك. لكن الذي تغير هو الاهتمام الإعلامي. كانت الصورة الإعلامية متدهورة إلى حد كبير. والآن يبدو أن إيران تغير سياستها في المواجهة الإعلامية. فماذا يعني أن تقدم “نيويورك تايمز” الأمريكية مساحة مقال بعنوان مثير لمسؤول رسمي كمحمد جواد ظريف وزير خارجية إيران ليهاجم السعودية ويستعرض معلومات مشوهة؟
وبما أنه لا يمكن لمهتم بالإعلام والسياسة إلا أن يلاحظ ذلك، فلا يمكن كذلك أن يغفل بروز نجم الإعلام الروسي في الساحة الأمريكية، وفي التأثير على المستوى الشعبي. سياسة بوتين التي تعمد إلى إعادة القوة القيصرية والهيبة الروسية من خلال استراتيجية مترابطة ومتشابكة إلى حد كبير. دعاية مجتهدة حتى على مستوى صورة القيصر الروسي في شخص بوتين، كما لو كان يهندس ويعيد الروح لمجد الإمبراطورية. تقود ذلك سياسة خارجية تدعمها استراتيجيات إعلام جادة ونشطة جدا. بعد الحرب العالمية الثانية، وفي أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، صدرت مراسم وأوامر عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي لتعزيز المشاعر المناهضة للولايات المتحدة لدى الشعب السوفياتي نفسه. في المقابل كانت هناك حرب شبيهة من قبل أمريكا، ولطالما اتهمت روسيا أمريكا بحرب ليست إعلامية فقط بل إعلامية ثقافية استخدمت فيها أدوات السينما والتاريخ لمهاجمة روسيا وتاريخها السياسي.
لكن يبدو أنها الخبرة تراكمت لدى روسيا في إيصال موقفها إلى المجتمع الدولي، ولربما تحاول أن تحذو حذوها إيران. وقد قرأت أخيرا في الصحف الأمريكية عن اعتراف المشرعين الأمريكيين بأن متابعي قناة RT الروسية ازدادوا بشكل كبير جدا في سنوات قليلة هي عمر القناة التي تأسست في 2005، وتنامى ظهورها ليس فقط في أمريكا بل في أوروبا وفي الشرق الأوسط وفي عدد من دول العالم، هي التي تبث 24 ساعة وبعدة لغات. وقد ذكرت صحيفة “واشنطن تايمز” أنه على الرغم من أن رجال الكونجرس مستمرون في الدعوة إلى محاربة “الدعاية الروسية”، إلا أنهم يدركون أن القناة التلفزيونية الروسية تتغلب على وسائل الإعلام الأمريكية.. “إن أكثر ما يثير الدهشة هو أن RT اشتهرت بفضل أساليبها في عرض المعلومات، بينما الإعلام الأمريكي مثل إذاعة “أوروبا الحرة” و”صوت أمريكا” بقي في حالة من الركود!”. تقول الصحيفة إن المشرعين والنواب الأمريكيين، هم الذين رأوا أن أمريكا فقدت القدرة اليوم على مواكبة الأحداث العالمية إعلاميا بفعالية.
هناك حرب باردة، حرب إعلامية مشتعلة على عدة جبهات، وهي جبهات متخصصة تقودها شبكات إعلامية وإعلاميون دهاة وبيوت خبرة. كل جبهة تواجه بخطابها بشراسة ونشاط لإحداث التأثير وإيصال مواقفها إلى المجتمع الدولي. إذن مرحبا بالحرب الباردة. الحرب التي لا تنتهي أبدا، فهي سياسات واستراتيجيات طويلة الأمد، ولا سيما في الشرق الأوسط، حيث لا صناعة سلام ولا حروب عسكرية تنتصر في وقت قصير.