أمسك وليام فوستر “مايكل دوغلاس” عصا البيسبول الغليظة، وهوى بها على بضاعة صاحب الدكان الكوري الذي رفض إعطاءه “فكة” الدولار كي يتصل تليفونياً بابنته في عيد ميلادها، ويمضي المهندس فوستر، وهو في طريقه إلى منزل طليقته بلوس أنجلس بعد طرده من عمله ظلماً، تتأجج في صدره نيران الغضب، يحطم ويهدد أشخاصاً، وجد بطل الفيلم في سلوكهم اعوجاجاً وانحرافاً، بينما كانت عين القانون غائبة عنهم، نهاية فيلم “السقوط” حزينة، حين يقتل فوستر بيد ضابط الشرطة، بعد أن أصبح خطراً على أهله والناس.
حين تتملكنا مشاعر الإحباط والظلم وغياب العدل يتطرف البعض بسلوكهم وهم واقعون في وهم الكمال والمثالية، فيأخذون حكم القانون بأيديهم، بعد أن يئسوا من غياب السلطة العادلة، واقتنعوا بعجزها عن تصحيح الانحرافات، أو أنها أهملت أو تكاسلت أو كانت شريكة في الخطأ واللامبالاة في ضبط الأمور وإقرار حكم القانون بحياد.
تذكرت فيلم السقوط (Falling down) بعد أن نشرت الصحف عن حكاية المواطن الذي حمل العصا وأخذ يحطم ويهشم السيارات التي أغلقت الشوارع الخلفية بوقوفها الخاطئ في منطقة شرق، كثيرون يتملكهم الحنق والغضب، حين تصدمهم الانحرافات الكثيرة في حياتهم اليومية، وهي جرائم بحد ذاتها، وعين القانون غائبة عنها، أشعر بدوري بالغضب مثل “فوستر” كلما دخلت الشارع الداخلي خلف مجمع المثنى في طريقي لعملي، وأجد السيارات التي اصطفت على الجانبين قد أغلقت الطريق وجعلت السير نحو الموقف العام محفوفاً بالمخاطر خشية الاصطدام بها، غياب شرطة المرور وتحرير المخالفات يزيدان جرعة الحنق على حال الرداءة هنا… أتحدث موسوساً مع نفسي: لماذا عين القانون غائبة؟ لماذا تلك اللامبالاة؟… ربما شرطة المرور ملوا ويئسوا من الحال، ورددوا مع أنفسهم ما نسب لسعد زغلول في يأسه وقنوطه من إصلاح البلد، عبارة “مفيش فايدة يا صفية”، فتحرير المخالفات (بفرض وجود شرطة المرور) لن يكون مجدياً، فقد تشطب المخالفة بواسطة المعارف والمحسوبيات، مثلما تم شطب وإغلاق ملفات “كبيرة” كانت النصوص القانونية غير مسعفة أحياناً، مثل قضايا التحويلات والإيداعات لأعضاء مجلس الأمة ذلك الوقت، أو قد يكون الدليل غير كاف في أحايين أخرى، أو غير ذلك من أسباب فرضت نفسها على وعينا، وشلت بالتالي روح الرفض ومقاومة الاختلال.
نحن نحنق ونتذمر، ونقف عند حد “التذمر” بالحديث عن حالات التسيب وخرق القانون أو التعسف في أحكامه وخراب البلد، “نتحلطم” مع الأصدقاء الذين يشتركون معنا في ثقافة التذمر بالحديث المباشر في الدواوين، أو غير المباشر عبر الواتساب وتويتر وفيسبوك، وكلها أدوات تنفيس لنا، ونشعر بالارتياح النفسي بعدها، فقد أدينا الواجب، وتحدثنا، تكلمنا، والكلام، يظل في دائرة المسموح حين وسعت السلطة صدرها له قليلاً، وحسب مزاجها الشخصي لا حسب روح الدستور، ومن دون أن ندري يتم ترويض نفوسنا على اللااكتراث حين نسمع عن تجاوز وانتهاك لقانون ما في الدولة، سواء كان قانون السير أو قانون الجزاء أو حماية الأموال العامة أو حتى الدستور… ونقنع بأن مجرد الحديث “الدواويني” عبر ثقافة “التحلطم” يصبح كافياً، وهو، بالتالي، قرار المحكمة النفسية بأن الأمور حسمت في النهاية… فلنغلق ملف الكلام.
دائماً نقر مع أنفسنا مراهنين على حلم بأنه سيأتي شخص ما في يوم ما في موقع المسؤولية ويعدل، ويصلح، ونكتفي راضين بقناعة الوهم هذه، متناسين تاريخ التسيب والفساد، وتناسلهما في جوف المؤسسات المهيمنة في الدولة، وأن تغيير الأشخاص المسؤولين لا يعني فرك مصباح علاء الدين، فيقفز منه الجني المخلص، وينقذنا من الضياع.
يكفينا الحديث عن الخطأ، عن التجاوز، عن الجريمة… نرضى آخر الأمر ونسلم أنفسنا للقدر والنصيب… هل نتخيل أننا قد نحمل عصا فوستر، مثلما صنع صاحبنا في منطقة شرق، ونهشم بها السيارات التي أغلقت الشارع والرؤوس التي دبرت وحبكت روايات الفساد اللامنتهية؟… طبعاً لا يمكن… فهناك قانون يردعنا… وهو قانون غير القانون الذي أقنعنا باللاجدوى من الكلام، وفرض علينا الصمت… وتلك حالة غريبة تتردد بين عصا فوستر الشرقاوي وصمت الأموات.