الورقة التي لم تسقط في فصل الخريف خائنة في عيون أخواتها، وفية في عيون الشجرة، ومتمردة في عيون الفصول، فالكل يرى الموقف من زاويته، مكسيم غوركي. وهكذا فكل زاوية لها مشهد خاص، وتحليل مختلف، ولا سيما لدى أولئك الذين لم يتمرنوا بعد على إحاطة كل الزوايا وأبعادها بتحليل متعدد أو حتى إيمان بفكرة أخرى تبعا لظروفها لربما. هل لذلك علاقة بالتفكير الأحادي؟ يعتمد التفكير الأحادي على رؤية واحدة يبني عليها الفرد كل تصوراته التي لا يمكن تعديل منتجها بأي حال، مع إقصاء أي فكرة أخرى من رؤية أو زاوية أخرى. التفكير الأحادي يرتبط بالإقصاء الذي يرتبط هو الآخر بالتطرف في الرأي ثم إلى العنف من خلال تطور العداء الفكري إلى سلوكي. والفكر الأحادي الإقصائي هو طبيعة محلية لها علاقة بالتراكمات الاجتماعية التاريخية المرتبطة بالأيديولوجيا، تلك التي تقول إن نمو فكرة معينة يعني تهديد فكرة أخرى.
هشاشة البنية الثقافية في مجتمعاتنا المحلية هي سبب مهم للأحادية الفكرية، مهما ادعينا انخراطنا في الحداثة والمدنية. العقل الإقصائي أحادي التفكير يحارب كل تفكير أو سلوك لا ينطلق من نفس المتجر الذي يبيع الأفكار بعلامة معينة. الخير فقط في الاعتقاد الواحد للفكرة الواحدة، والشر المحض في كل فكر مختلف آخر. نجد ذلك في كل نقاش يتحول إلى محاولات قمع فكرية، ومن ثم إلى حفلة من الشتائم، يليها التشويه والشيطنة والتحريض ضد الفرد والتهديد والتكفير والعنف. كيف ندعم التعددية الفكرية؟ في منطقتنا بالذات، صعوبة المهمة ليست في تمرين ثقافي أو توسيع إدراكي لحاجة التحدي النفسي. ذلك أن الأمر يتجاوز الفكرة إلى تهديد المصالح في أحسن الأحوال. وهي تنطلق من مدرسة فكرية قد تؤمن بأن ظهور فكرة أخرى هو تهديد لكيانها. لذا فلا يمكن أن تظهر الأفكار سوية في ساحة واحدة ولا سلة واحدة. كما أن أي خروج بالتفكير بنمط مختلف هو خروج عن فكر القطيع، أي قطيع. وبالضرورة إذن تهديد لوجود الفكرة ووجود القطيع نفسه.
الحقيقة ليست مطلقة إجمالا، الحقيقة أمر نسبي محكومة باختلاف الرؤى غالبا. وتختلف نسبية الحقيقة في العلوم بطبيعة الحال. هناك عقول تعرض الفكرة بالألوان وتحكم عليها. وهناك عقول تعرض الفكرة بالمقاسات لتحللها. هنا الفرق بين فكر عقلي إنساني وآخر. لذا فأزمتنا التاريخية هي المحاولات الفاشلة في التفريق بين فكرة اختلاف الآراء وبين فكرة العداء والتحدي لأي رأي آخر. باعتبار أن العقلية الأحادية أو الإقصائية ترى في وجود الفكرة الأخرى إهانة واعتداء مشخصنا للفرد والفريق والتيار. كل ذلك تدعمه محاولة لجر الرأي إلى نص مقدس وإلباسه ثوب القداسة من خلال النص الديني. أي في محاولة “قسرية” لإلغاء أي فكرة أخرى. اختلافات الرؤى مسألة إنسانية فطرية، وهي بالضرورة مسألة حداثية مدنية طبيعية صحية حين تتعدد أفكار المجتمعات. أي مجتمع راكد هو مجتمع لا ينمو، مجتمع آسن ميت كنهر لا يجري ولا يتجدد.