لا جديد تحت شمس الفساد، ولم يخبرنا ديوان المحاسبة أمراً غريباً في تقريره عن تجاوزات العلاج بالخارج، ولا يهم عند الإحساس الرسمي المتبلد أن تخسر الميزانية ما يقارب ثلثي مصادرها من البترول، فالحال في باب الهدر والفساد تبقى فوق جبل لا يصله الطوفان، سواء كان سعر البرميل بـ120 دولاراً أو عشرين.
تقرير الديوان يذكر عن تجاوزات في ابتعاث أكثر من 6000 حالة للعلاج بالخارج، أو بعبارة أدق سياحة بالخارج على حساب الميزانية “المخرومة”، في فترة لا تتجاوز سنة واحدة، وهي حالات لم تكن مستحقة للعلاج حسب التقارير الطبية، لكنها قد تكون مستحقة لـ”شم الهوا” في أكسفورد واجورد رود.
التقرير يوجه أصابع الاتهام مباشرة إلى وزير الصحة حين تساهل في “تسليك” طلبات سياحة المرض، ويشير بصورة غير مباشرة إلى أعضاء من مجلس الأمة وشخصيات أخرى. أيضاً “لا جديد” فمن مهام أعضاء مجلس الأمة أن يحققوا أحلام ناخبيهم في السياحة العلاجية وغيرها من أمور تحقق السعادة لكتل عريضة من الناس تتجرع الملل دون حساب في بلد أنا آكل وأشرب، وتلك من الشروط الضمنية التي حددتها السلطة الحاكمة لصلاحية أعضاء مجلس الأمة حتى يكونوا خير ممثلين لرحلات الشعب. أليسوا هم “ممثلي الشعب”، فقضية المحسوبية والواسطة “شبه الرسمية” مقدمة تماماً على واجب الرقابة والتشريع لمصلحة الأمة ومستقبلها.
أشعر بنوع من التعاطف مع الوزير، وهو شعور مرضي سببه تكلس حالة اللامبالاة عندي بسبب فيروسات عدم اللااكتراث السلطوي لقضايا الفساد، وتهميش السلطة لمثل تلك المسائل حسب أعرافها التي كرستها وفرضتها في الدولة لعقود ممتدة، فتجاوز هنا، ومحسوبية وواسطة هناك لا يشيان بالكثير في ثقافة البلادة الرسمية.
ماذا يعني أن ندري عن “عينة صغيرة” لحالات التجاوز في العلاج السياحي! فليس العبيدي أول وزير صحة يتساهل أو “يتعرض لضغوط” نيابية و”شخصيات أخرى” (حسب تقرير الديوان) ويمشي الأمور حسب متطلبات أعراف الحكومة، ولن يكون آخرهم… حاله من حال غيره من أغلب الوزراء السابقين، مثلما، أيضاً حال النواب المتوسطين لخدمات السفر، فهم بدورهم، حالهم من حال غيرهم، الذين سبقوهم في عالم المحسوبيات… وليس هو آخر وزير يمشي الأمور في بلد ثقافة “مشيني وامشيك”… ولن يكون نواب واسطة اليوم هم آخر نواب المحسوبيات… تعودنا عليهم، رغم أنهم ثقل ومغثة يجثمون فوق صدورنا، وهم ضريبة ظالمة تستنزف ما تبقى من عمر الدولة.
أيضاً، لماذا وزير الصحة تحديداً؟ ماذا عن بقية الوزراء في وزارات الخدمات؟ كم معاملة تم تمريرها وتم التوسط لها من “نواب الشعب ومن شخصيات أخرى”؟ هؤلاء الوزراء المساكين هم بين مطرقة نواب الخدمات، وسندان الوزراء الديلوكس حين يطلب الأخيرون منهم التساهل بعض الشيء في فواتير نواب الأمة حتى تسلك الأمور لعمل بقية الوزارات… فتغلق أبواب المساءلة السياسية الجدية لأمد غير محدود.
حين تكون هناك “سوابق” عديدة للتسامح واللااكتراث الرسميين لحالات الفساد المتمثلة في نهب الأموال العامة والمحسوبيات والواسطات، وهما بدورهما أيضاً نهب مبرمج للمال العام، وتمتد حالات السوابق هذه لفترة من الزمن تصبح جزءاً أصيلاً من “الحالة العامة” بالدولة، ويتراخى وعي المواطن في الاهتمام بها، ويصبح معتاداً على تجرعها في لا وعيه وكأنها أمر عادي، مثل الدخول لدورة المياه… وهنا الكارثة… لنتذكر ما كتبت في هذا المكان قبل أيام عن هيمنة “المؤسسة الاستحواذية” ولماذا تفشل الدول؟ وكيف يتم عبر تلك المؤسسات المغيبة لحكم القانون نقل موارد الدولة من النطاق العام لتتحول مصالح فئة محددة تعرف تماماً من أين تؤكل الكتف… من يتذكر؟