لا توجد، رسميا على الأقل، دولة تسمى هولندا، فهذه تسمية قديمة، وتخص مقاطعة من اصل 12 تتكون منها مملكة نيذرلندز المتحدة، أو «الأراضي المنخفضة»! ولكن البعض يفضل استخدام هولندا، ربما لانتشاره أكثر، وإن بصورة غير رسمية، أو لصعوبة نطق أو كتابة الاسم الصحيح، ولكن في الداخل لا يسمح باستخدام التسمية في إشارة للدولة!
يقول النيذرلنديون، أو «الدوتش» Dutch، وهي تسميتهم الصحيحة، واسم لغتهم، بأن الله خلقهم وهم بدورهم خلقوا بلادهم! ولنعرف ما يعنيه ذلك علينا النظر ليس فقط في الطريقة التي تكونت فيها النيذرلاندز على مدى القرون الأخيرة، والتي كانت في السابق مجموعة مستنقعات هائلة الحجم تغطي مساحة عشرات آلاف الكيلومترات، بل وفي الطريقة العجيبة التي استمرت فيها في الاحتفاظ بالمناطق الجافة جافة حتى الآن بالرغم من غزارة أمطارها وانخفاض أراضيها الكبير عن مستوى سطح البحر، مع وجود مساحات هائلة من الأنهار والبحيرات والقنوات والترع التي تراها في كل مكان. وقد تم استصلاح سهولها الخصبة عن طريق تجفيف الأرض، والتخلص من المياه من خلال شبكة هائلة من القنوات والممرات النهرية والسدود، وتحصين الأراضي المستصلحة بسواتر كانت في البداية تصنع من خليط من الطمي والأعشاب، أو العوارض الخشبية، واصبحت تاليا تبنى من الخرسانة.
ولو كان بالإمكان رؤية ما يجري تحت غالبية أراضي مدنها الكبيرة، وبالذات امستردام وروتردام وهارلم ولاهاي، لوجدنا أن هناك عملية سحب مياه هائلة تجري بدقة بالغة، لترمى في الأنهار والقنوات، وترفع كميات كبيرة منها لعدة أمتار لتصب في البحر، أو برفعها لتصب في أنهار الدول المجاورة!، وهي عملية لا تتوقف إطلاقا على مدار الساعة، وقد منحهم ذلك خبرة وسمعة عالمية كبيرة لا تضاهى في مجال بناء مدن جديدة على سطح الماء، وتخليص التربة من المياه الزائدة، ومعالجة مشاكل الري والتعامل بتقنية عالية مع المياه الجوفية، علما بأن %20 من أراضي نيذرلاندز، 40 ألف كيلومتر، تقع تحت مستوى سطح البحر، ويصل الانخفاض في بعض المناطق لـ7 أمتار تقريبا، كما ان المناطق المنخفضة هي الأهم والأكثر ثراء ويعيش فيها %21 من السكان، البالغ عددهم 16 مليونا. كما تقع %50 من مساحة أراضيها فوق مستوى البحر ولكن بأقل من متر، ولذا سميت بالأراضي المنخفضة، والتي يشكل بقاؤها تحديا مستمرا لقدرات الإنسان. وبالرغم من صغر مساحة الدولة النسبي وقلة سكانها فإنهم كانوا يوما من كبار اللاعبين الدوليين وسادة بحار من الطراز الأول، كما بلغت النيذرلندز في مرحلة ما درجة عالية من الثراء بفضل مستعمراتها الواسعة والغنية، ولا تزال بصمات تلك المرحلة تشاهد بوضوح في نيويورك، التي كانت اسمها الأول أمستردام الجديدة، و«هارلم»، التي سميت تيمنا بمدينة تحمل الاسم نفسه في النيذرلاندز. كما وصلت سفنهم الحربية لنيوزيلندا وجنوب افريقيا وأجزاء عدة من أفريقيا.
وتمكنوا من استعمار الأرخبيل الإندونيسي لفترة طويلة، إضافة لجنوب افريقيا التي تعود أصول الأفريكانز فيها لهم. وبالرغم من أن الدوتش كانوا من أوائل من كان لديهم برلمان منتخب، ولم يكونوا مستعمرين بنفس مقدار سوء منافسيهم، إلا أن تاريخهم في المتاجرة في الرقيق كان مظلما وبالغ السوء ووصمة عار في جبينهم، فقد استخدموهم كسخرة في مزارع الكاكاو والسكر والقهوة والقطن وعاملوهم معاملة سيئة جدا.
أحمد الصراف