عبارة “لو كان عندنا عشرة مثله لكنّا بخير”، نرددها دائماً في الظروف المخيّبة، ثم فجأة يخرج شخص من زحام البشر وركام الفساد، ويفتح لنا نافذة أمل تتدفق منها حزمة ضوء مبهجة.
العبارة السابقة ليست دقيقة، ولا تعبّر دائماً عن الواقع، إلا أننا نقولها الآن حين نفتخر ونحيّي مواطناً شهماً مثل د. فهد الراشد، فهناك، بالتأكيد مثل فهد الراشد، قد يكونون قلّة أو تحت وطأة ظروف قاهرة “في بلدان أم أحمد العجافة، ومن صادها عشى عياله”، تمنعهم عن التحرك أو أخذ زمام المبادرة حين يرون أن عربة الحق لا تسير – كما يفترض – في طريقها الصحيح، وأن الأمور اختلطت على الناس، فلم يعد يُعرف الشهم من اللئيم، ولا الصالح من الطالح.
ومع ذلك يبقى هناك البعض ممن يمسكون شعلة النور ليضيئوا للأجيال دروب الأمل في كهوف الظلام.
حين وجد فهد الراشد بحكم وضعه السابق، عضواً في مجلس إدارة مؤسسة التأمينات الاجتماعية، التي تدير وتستثمر المليارات من معاشات المواطنين، أن هناك شكوكاً في إدارة الأموال الطائلة للمؤسسة، وأن هناك ريبة حول شخص في استغلال نفوذه بمنصب عام، وتربّح من الوظيفة، لم يتأخر د. فهد وتقدَّم كمواطن مهتم ومهموم بتلك الوقائع إلى النيابة العامة، وأبلغها بما لديه من معلومات، ثم تابع من بعد ملاحقة الموضوع خارج الدولة في سويسرا، ليصل إلى حكم يقرّر حق النيابة العامة الكويتية في كشف حساب “مشتبه فيه”، بلغ حوالي 395 مليون دولار، كما ذكر في الإعلام.
مبلغ هائل، ربما يكون الجزء الظاهر من جبل الثلج العائم في خليج امتلأت مياهه بمخلفات المفسدين… ويبقى أن ننتظر نهاية فصل من مسرحية مثيرة للغثيان في مسارح تهريج شارع “وجدتها في كبت أمي”… المقصودة هي الملايين والمليارات التي تتفجر أمامنا بركان ثراء فاحش، ومن دون سابق “إنذار” اجتماعي في حسابات البعض، وما أكثر هذا البعض في ديرتنا.
يقول د. فهد في لقاء “القبس”، أمس، إنه حين باشر مسؤولياته كمواطن وتقدَّم بالبلاغ شعر بالوحدة، وعانى كثيراً، ولم يسانده أحد، “بل إن البعض حاول إحباطي واقناعي بأنني أمضي في قضية خاسرة… إلا من القلة القليلة”.
أمر طبيعي أن يقول الكثيرون لفهد إنه يمضي في “قضية خاسرة”، فهناك خبرات متراكمة مرّة ومحزنة في آن واحد، تشهد أن سوس الفساد وخراب الذمم قد نخرا العديد من مؤسسات الدولة، وانتهت البلاغات التي قدمت ضد رموزها إلى لا شيء، وتمّ طي ملفاتها في أضابير النسيان، وما أكثر ما ننسى في بلد الهبات والعطايا دون مناسبات، تم عن عمد وسبق إصرار تخدير وعي المواطنين بالمال العام، ومعها تم تهميش قضايا الفساد واستغلال الوظيفة العامة، وإظهارها وكأنها مسائل تصفية حسابات سياسية، وحقد سياسي!
افركوا رؤوسكم الآن، وحاولوا أن تتذكروا مثل تلك القضايا المنسية في رفوف ذاكرة اللامبالاة الوطنية… وكيف انتهى بعضها بوضع من قدّم البلاغات وتحرّك لكشفها في قفص الاتهام وتبختر الفاسدون وكأنهم ضحايا بلاغات كاذبة؟ كل ذلك من نكد المفارقات في دولة المؤسسات!
لذا أرجو أن يلتمس د. فهد قليلاً من العذر لهؤلاء الذين حاولوا إحباطه وقالوا له: إنك تنفخ في قربة مثقوبة، فمثلك يعلم يا د. فهد أن سلطان المال وسطوة الأسماء والقوانين المهمشة، كلها تخيط أفواه الكثيرين، وتجعل إحساسهم بليداً بالشأن العام عندما تتربع في الذات نرجسية الأنا ومن بعدي الطوفان… هذه يا دكتور نتيجة طبيعية لتربية ثقافة من “صادها بالأول”… النفطية.
تحية لـ د. فهد الراشد، وفي مثل ظرفنا الاقتصادي الصعب اليوم، تصبح الحاجة شديدة إلى مئات وآلاف فهد الراشد، ومن هم في مثل صبره وعناده في الحق