المقارنة تعد من المناهج العلمية المعتمدة التي تساعد وبلا شك على فهم الظاهرة السياسية فهما جيدا، وبما أن الوطن العربي يتعرض لظاهرة سياسية جديدة وهي الثورات والاحتجاجات، فإننا مجبرون على مقارنة ما يحدث عندنا الآن بما كان يحدث في أوروبا قبيل الثورات وأثناءها كالثورة الانجليزية والفرنسية.
ما الذي حدث بأوروبا في أواخر العصور الوسطى المظلمة وبداية العصر الحديث لينقلب مزاج الشعوب الأوروبية من الاستسلام لسلطة رجال الدين والكنيسة من ناحية والإقطاع والنبلاء من ناحية أخرى، إلى الثورة على كل شيء قديم
من اجل فهم أسباب قيام الثورات الأوروبية والعوامل التي أدت إلى نجاحها لا بد لنا من الحديث عن التغيرات العميقة التي جرت في المجتمع الأوروبي قبل الثورات السياسية ببضعة قرون، فلقد اجتاحت أوروبا ثورة علمية قام بها علماء أوروبا غيروا فيها الكثير من المعتقدات العلمية الخاطئة وربما اصطدم بعضها مع سلطة الكنيسة نفسها، فالعالم جاليليو الإيطالي ومنظاره ونظريته حول مركزية الشمس ودوران الأرض حولها ليس فتحا علميا فقط بل بداية لثورة ضد الكنيسة نفسها التي عارضت نظريته تعاليمها، نيوتن الانجليزي وقانون الجاذبية والحركة وأطروحاته الدينية، ديكارت الفرنسي ونظرية الشك التي حاربت كل المسلمات العلمية والدينية والاجتماعية السائدة.
كما اسهم مفكرو عصر النهضة الأوروبية وفلاسفة حركة التنوير ورواد النزعة الإنسانية من الأدباء ، وآراء الفيلسوف الانجليزي جون لوك ومقولته حول الحقوق الطبيعية للشعوب، واسهامات توماس هوبز الانجليزي ونظرية العقد الاجتماعي، ومونتيسكيو الفرنسي صاحب نظرية فصل السلطات في تشكيل البيئة الخصبة لقيام تلك الثورات.
ولا شك كان لحركة الإصلاح الديني التي قام بها الراهب الألماني مارتن لوثر واعتراضه على صكوك الغفران، سبب للتمرد على سلطة الكنيسة البابوية وإنشاء الكنائس القومية.
ومن نتائج ما سبق كله انهارت سلطة البابوية وبرزت الدولة القومية وان كانت في بدايتها ديكتاتورية بالداخل وامبريالية بالخارج، إلا أن تكدس الثروة الاقتصادية من المستعمرات إلى الممالك الجديدة، وازدهار التجارة الدولية أديا إلى نشوء ظاهرة المدن الصناعية والطبقة البرجوازية، وبدأت طبقة النبلاء والإقطاعيين التي تعتمد عليها الممالك الأوروبية تفقد قوتها شيئا فشيء لصالح الطبقة الجديدة البرجوازية ورجال البرلمان، عندها بدأت الثورات تجتاح أوروبا دولة تلو الأخرى.
وما كان للثورات الأوروبية أن تنجح لولا تسلح رجال السياسة والثوار الأوروبيين بمبادئ وأفكار فلاسفتهم ومفكريهم التي تراكمت لما يقارب الـ 4 قرون، عندها فقط استطاع الأوروبيون أن ينتجوا أنظمتهم السياسية الرائعة التي تقوم على الحرية والعدالة والديموقراطية.
أما ثوراتنا العربية واحتجاجاتنا الخليجية فلا أساس فكريا تعتمد عليه في تشكيل تصورها للحلول السياسية والاقتصادية والقانونية التي تناسب مجتمعاتنا وتراعي ظروفنا السياسية ومعتقداتنا الدينية، مجرد حركات تغيرية قام بها مجموعة من الشباب استفادوا من أزمات الحكم التي عانت منها بعض الأنظمة العربية
الشباب والأغاني والشيلات القواسم المشتركة بين الثورات العربية والاحتجاجات الخليجية، لا أهداف واضحة لاتجاه التغير السياسي المطلوب، من الملاحظ أيضا الغياب التام للمفكريين والمثقفين وأطروحاتهم السياسية هذا إن وجدوا في الأصل.
ففي مصر وتونس، فجأة أسقط الشباب الرئيس ومن حوله، لكنهم للأسف لا يملكون مشروعا سياسيا ولا رؤية مستقبلية ولا حتى ينتموا لحزب سياسي
في تونس مفجرة الثورات العربية ومصر قائدة العالم العربي، مازال الليبراليون يحنقون على الإسلاميين لوصولهم السلطة، فتحالف الليبراليين مع بقايا الأنظمة السابقة لمكاسب آنية، لا وجود لأفكار سياسية ودستورية يقبلها الجميع، وفي ليبيا العكس تماما أسقط الإسلاميون حكم القذافي واستولى الليبراليون على الحكم وظهرت بشكل صارخ القبلية والمناطقية التي تهدد استقرار البلاد.
وفي بلدي الكويت مثلا ـ كانت مطالب الحراك تنحصر في رحيل رئيس الوزراء السابق والبرلمان معا ولما رحلوا استقرت الأوضاع ولم تعد هناك مطالبات للإصلاح السياسي، وبعدها بأشهر قليلة غيرت السلطة قانون الانتخاب، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها لعودة قانون الانتخاب القديم فقط.
والآن يتحدثون عن الحكومة الشعبية أو المنتخبة وما زالوا مختلفين على اسمها وشكلها وطريقة تحقيقها ـ هل بالضغط على السلطة لقبول تعديل دستوري بهذا الشأن، أو من دون تعديلات دستورية.
ربما حراكنا في الكويت ـ يقوده سياسيون عظماء ولكن من دون أفكار سياسية عظيمة، فلو نظرنا للحراك الكويتي لن نجد سوى بعض النواب وحولهم دائرتهم الضيقة من الاتباع، وهم وحدهم يفكرون ويقررون عن الجميع.
كل ثورة واحتجاج.. وأنتم بخير.