في كوكب الأرض كله، من الجلدة إلى الجلدة، هناك قاعدة ثابتة راسخة: “الساسة تحت رحمة سيوف الإعلاميين”. والإعلاميون هنا بجزءيهم؛ سواء كانوا مرتزقة من “ذوي الكابات الزرقاء” -كما كان يُطلق على المرتزقة الأفارقة الفرنسيين- أو كانوا أحراراً صادقين.
على أن تأثير إعلاميي الكابات الزرقاء يأتي دائماً بنتائج معاكسة لرغبات أصحابها ومخالفة لمخططاتهم، فالبضاعة التي يذمونها يرتفع سعرها، وتلك التي يمتدحونها ينخفض سعرها، وكلنا يتذكر ما فعلته بعض وسائل الإعلام بالرئيس السعدون وفيصل المسلم والحربش والبراك والطبطبائي وغيرهم قبل فترة، والنتيجة كانت ارتفاع أسهم هؤلاء إلى الحد الأعلى في قلوب غالبية الناس.
في حين أن الإعلام الحر الصادق عندما يدهن “سبطانة” مدفعه و”يزيّتها” ويمسح زجاج بوصلته، مباشرة يرفع الساسة عيونهم إلى السماء وأيديهم بالدعاء: “اللهم سلّم سلّم.. اللهم حوالينا لا علينا”.
على أن أسلحة الإعلاميين ليست متشابهة، فهناك من لا يسمع صوته حتى عياله الجالسون في الصالة، وهناك من إذا كتب سطراً أو قال جملة، ولو كانت مختصرة، تناقلتها قوافل اليمن والشام، وتساقطت “غُتَر” (جمع غترة) بسببها وارتسمت البسمات على وجوه الأيتام وأمهم الأرملة.
وكان الشاعر “الساخر الشاخر” بيرم التونسي، كما كان يسمّيه تلميذه الساخر الأعظم محمود السعدني، يكتب مقالات كالزلازل، تهتز لها أركان “السراي الحكومي”، وكان غيره يقدح أو يمدح ولا يسمع صوته حتى حليلته أو خليلته التي تشاركه البيت. أما مقالات السعدني فكانت كالعاهات المستديمة التي يصاب بها المسؤول فلا يشفى منها إلى أن يموت.
وكان رحمه الله (أتحدث عن السعدني) يجلب القلق لأصحاب الصحف التي يكتب فيها، لذا لم يكن يعمّر في الصحيفة الواحدة أكثر من أشهر معدودة، وهذا ما جعله يتنقل بين أربع عشرة صحيفة في غضون سنوات قليلة، الأمر الذي دفع أنصار الحكومة إلى تشبيهه بالراقصة التي تتنقل بين المسارح! كل هذا لأنه حر يكتب ما يريده هو لا ما يريده رؤساء التحرير.
وكنت أتفادى الحديث عن مقالات زميل لطالما سألني: “ما رأيك بمقالاتي؟”، وليته يسكت بعد السؤال ولا يردفه برفع السبابة والحاجبين: “أجبني بشفافية أبا سلمان”، وبعد أن “فاض بيّه ومليت” اضطررت إلى الإجابة عن سؤاله بسؤال، من باب “وداوها بالتي كانت هي الداء”: “هل أضحكَت مقالاتك مؤيديك وأبكت معارضيك؟ إذا كان الجواب “لا” فلا تُضع وقتك في ما لا ينفع ولا يضر، وتفرغ لقوت عيالك في أرض أخرى بعيداً عن أرض الصحافة”.
وللساسة أقول ما قاله أتاتورك للقوات البريطانية التي كانت تحتل بلاده، فأعلن بدء الاستعداد لحرب التحرير، فأرسلت بريطانيا إليه رسالة منها: “نحذر تركيا من استفزاز بريطانيا”، وعندما قرأ الرسالة شطب كلمة بريطانيا وكتب فوقها تركيا، وشطب كلمة تركيا وكتب فوقها بريطانيا، وأعاد الرسالة ذاتها إليهم بعد أن أصبحت الجملة كالتالي: “نحذر بريطانيا من استفزاز تركيا”.